على طريق الهند.صفحة منسية من تاريـخ الفكر العراقي الحديث

على طريق الهند.صفحة منسية من تاريـخ الفكر العراقي الحديث

شهاب احمد الحميد
ما حكاية كتاب (على طريق الهند) لعبد الفتاح ابراهيم؟
.. نحن بصدد كتاب من النوع الجاد، بمضمونه الفكري، وابعاده التاريخية، واسلوبه الرصين، وخطورة الاحداث التي تناولها من خلال الوثائق التي كان مجرد الكشف عنها يعد ـ عند ذاك ـ حدثا كبيرا سواء بالطريقة العلمية ام الاكاديمية التي عرض فيها الكتاب،

او من حيث الطريقة الشعبية لنشرها، في لحظات مهمة من تاريخ الثقافة العراقية وتطور الفكر السياسي في العراق الحديث، منذ ما يزيد على سبعة عقود من الزمن.. الى جانب كون الكتاب المذكور يعد أول وثيقة عراقية ذات عمق قومي وابعاد انسانية في رصد خطى المحتلين الانكليز وتآمرهم على الجزيرة العربية والخليج حيث فضح سياستهم الاستعمارية منذ مطلع الثلاثينات من القرن العشرين.

واذا كانت تلك اطلالة بسيطة على مضمون الكتاب، فمن باب الانصاف يتوجب علينا الاشارة الى النقاط المضيئة التي انار بها المؤلف طريقنا من الزاوية التي اطل منها علينا، وعلى الاجيال، لكنني ساترك هذا الواجب من الانصاف لسواي من الباحثين في خندق الحرف والكلمة نزولا لرغبة المؤلف الاستاذ الكبير عبد الفتاح ابراهيم بقوله(دخليك جنبني المديح الذي يستهوي طواغيت الحياة). وقبل ان اطرح عليك ايها القارىء الكريم اسم الكتاب استميحك العذر في قصيدة الجواهري لكي نطيب معا خاطر استاذنا بمدرسة الاجيال في مداخلة شبابية بتوالي هزيع العمر وعلى محطات سنين الماجدين بحضورهم الازلي على شرفات الوطن الازهى لكل المبدعين الواعدين او الذين رحلوا دونما تحية أو وداع. وهذه الصورة الكلمات التي نشرت في العدد الاول في مجلة الرابطة الثقافية بتاريخ 16/اذار/1944للشاعر الكبير المرحوم محمد مهدي الجواهري تحت عنوان.”اي كتاب”عالم الغد، ياوليد الحراب والدم الغمر في الربي والشعاب يحدر الفكر في مصب عباب ويلف الدنيا بفيض خضاب ياسطورا، تشع فوق التراب انت للقادمين اي كتاب؟ بيد لم تنل رغيف الجموع وبعين لم تدر معني الدموع وبنفس لم تمتهن بالخنوع وبسمع لم يرم بالتقريع بفم لم يفه بمدح وضيع يلقف”الجيل”دفتيك باحتضانا ويوفيك حرمة ومكانا وبعد فهذا هو الكتاب الموسوم بــ(على طريق الهند) لمؤلفه الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم، ترى ما قصة هذا الكتاب؟ وما حكاية مؤلفه..؟؟ اعتقد جازما بان قصة هذا الكتاب بدأت ملامحها الاولى في ذهن مؤلفه الاستاذ السيد عبد الفتاح ابن السيد ابراهيم في اللحظات التي شاهد انكسار افواج المجاهدين بمعركة الشعيبة الذين هبوا مع تيار الفرات لصد جيوش الغزاة الانكليز وعلى رأسهم السيد العلامة الشاعر الثائر(محمد سعيد الحبوبي) حيث كان والده السيد(ابراهيم) يتقدم صفوف المجاهدين باعتباره يعمل واعظا دينيا في منطقة غرب الفرات في الناصرية، ويوم دنس الانكليز باحتلالهم قلعة المدينة على اثر تلك المعركة في تموز عام 1915انسحب(السيد ابراهيم) مع من بقي من افراد القوات العسكرية العثمانية الى الاستانة، تاركا مدينة الناصرية، وفي لحظات وداع الاهل عند اعتاب الغروب مسك الوالد ــ السيد ابراهيم ـ يد الفتي الصغير (عبد الفتاح) قائلا، دير بالك على اهلك.. دير بالك على نفسك) ومنذ ذلك الحين ارتسمت في مخيلة الصبي السيد عبد الفتاح ابراهيم الصورة البشعة للاحتلال البريطاني تتعمق جذورها في تاملاته، وتكبر معه اثناء حالات الغربة والتشرد من الناصرية الى البصرة، ثم الى بغداد بحثا عن اكسير الحياة، حيث تركت بصمات سنيها المقفرة في حياته الجدبي، عريكة التحدي الشجاع في سلوكه الشخصي، في الوقت نفسه طبعت سيرته الحياتية بوسام الحلم والتاني العميق في البحث عن الاشياء وسبراغوارها في ذاته وصولا للحقيقة في حياة الفتي الصغير الذي هرب من (الملا) ليتعلم ويتقن لغة الاجانب(اللغة الانكليزية) لالكي يساومهم، انما ليتكلم معهم بلغة الضمير الانساني الذي يستهجن قلاع احتلالهم الافرنجية، وفضح اكاذيبهم الاستعمارية على لسان قائد حملتهم على بغداد، انهم (جاءوا محررين لافاتحين) الى جانب ماوسمت به من سمات الاعتماد على النفس والترفع عن ملذات الحياة، والتعفف عن المال، والبحث عن الجاه، والاقتراب من سطوة السلطان.. وتلك هي بعض بعض من لمحات سيرته الشخصية. اما لماذا اختار(على طريق الهند) عنوانا لاول اطروحه من اطروحاته الفكرية؟ وهل كان هذا العنوان اسما لمسمي؟ ام كان تهويمة؟ او لافتا للعبور نحو الشواطيء والدافئة ام انه كان تعبيراً عن منهج مستقر لعطاءات التحدي على الجدار العربي وفي لوحة الزمن المهدور مابين حروب(داحس والغبراء) وتحديات امارة البتراء مابين نفوذ غساسنة الشام او مناذرة الحيرة، حتى اشراقات الفتح الاسلامي لتحرير الشعوب على هدى المبادىء الانسانية التي جاء بها القران الكريم، وما نتج عن ذلك من حروب الردة والاستئثار بالسلطة القومية بعد الخلفاء الراشدين وما نشأ عن ذلك من حروب وسفك الدماء العربية بسيوفها ومانجم عنه من مضاعفات في استباحة دم الخلفاء واصولهم الاقليمية والمذهبية او مرتكزاتهم الطبقية بحيث اصبح يئد الفكر الانساني العربي في مهده كما كانت توئد الاناث في مهد امهاتهن في مرحلة ما قبل الاسلام الى ان تعلم اعداء العرب والمسلمين ديدن اثارة الفتن بين القبائل العربية وبناء جدار سميك من التخلف بين العرب والمسلمين الى جانب نشوء النزاعات الطائفية فيما بينهم الى حد وصف اية محاولة او دعوة اصلاحية خروج على الشعائر الدينية، وخروج عن طاعة الوالي والخليفة والسلطان الذي هو ظل الله في الارض، وما الى ذلك من امور اخرى استقرأها الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم في الكتب الافرنجية او العربية، و احس بها قوانين متخلفة تتحكم بالمجتمع فتعيق التقدم الى الحد الذي اصبحت منجزات العلوم، والثقافة الافرنجية متيمه العذري في وضح النهار وليس في دياجير الظلام الذي كان يخيم على بغداد.. والعراق كله واصبحت شغله الشاغل في الحياة وغذائه الفكري الذي اصبح يتألف من مزيج من اللبن الاوربي المعلب بحليب الشرق ذات النفحات الزكية، فكان هذا اللغز المحير قد استنزف الكثير من تاملاته الذاتية في التوحيد بين النفس والقضية عن طريق البحث العلمي الجاد على سبيل الامساك بمفاتيح حل الغاز التخلف الاجتماعي الموصودة الابواب بالسلسلة الكبيرة للاطماع الاجنبية التي كانت تحوم حول تخوم الجزيرة العربية والخليج من اجل اسر العراق الذي طوقته الاطماع الاستعمارية والامبراطورية البريطانية التي نشرت شباكها عبر اكثر من اربعة قرون من التخلف بدءاً من المحيط الهندي وصولا الى عقدة الفاو، كي تكون مركزاً للاتصالات، المواصلات لمركب سفنهم البحرية لعبور نهر الفرات صعودا نحو البحر المتوسط لنهب المواد الاولية من الهند الى اوروبا، ونقل بضاعتهم اليها. الى جانب ما حصل في هذا الميدان من اطماع استعمارية اخرى لمنافسة الانكليز لمد خط السكك الحديدية المعروفة بخط - بغداد - برلين -، وما سبق ذلك من اطماع فرنسية كحملة نابليون على مصر لفتح قناة السويس وما تضمنت المنافسات الاستعمارية من مخططات تامرية لنهب ثروات شعوب الشرق والتي كان اخرها الاطماع الامريكية خاصة بعد اكتشاف النفط وحلم تحقيق الوصول الى المياه الدافئة، تحت ذريعة اسقاط الامبراطورية العثمانية العجوز، من اجل السيطرة على منابع الذهب الاسود. وفي خضم الاطماع الاستعمارية على شعوب الارض بصورة عامة وبلاد الشرق العربي على وجه الحصر والتحديد كانت الولايات المتحدة الامريكية تتلمظ من وراء المحيطات رائحة النفط العراقي (حيث ارسلت الادميرال المتقاعد”كولبي ليشيل جستر الى اسطنبول، واناطت به قيادة البارجة الحربية كتنكي بحجة ان زيارته تدعم الوزير الامريكي الذي يحاول الحصول على تعويضات عن الخسائر التي اصابت بعثات التبشير الامريكية اثناء مذبحة الارمن التي حدثت سنة 1896 وفي الحقيقة انه كان يسعى للحصول على امتياز مد خط حديدي عبر الاناضول مع ضمان حقول البحث عن المعادن والنفط على مساحة 20 كم من جانبي الخط الحديدي. هذا ما التقطه كاتب السطور ليدون في الصفحة (49) من كتابه تاريخ الطباعة في العراق - الجزء الثاني - تحت عنوان الزوراء مطبعة وصحيفة علامة مضيئة في تاريخنا الحديث.. اما ما ورد في كتاب (على طريق الهند) فهو الادق والاشمل والاوثق. ذلك هو المضمون المختصر لكتاب على طريق الهند بحسب التوالي الزمني لاحداث التاريخ التي لم تكن من بنات افكار الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم.. ولم تكن ايضا من نسج خياله انما كانت نسجا من معاناته في البحث العلمي الجاد بشكل رائع ومن الابتذارات الشمولية للاستاذ عبد الفتاح ابراهيم وطروحاته الفكرية في دراسته الاكاديمية لنيل الشهادة العليا من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة. ترى كيف استطاع الاستاذ عبد الفتاح ان يحول معاناة العمر في محطات الفشل الى نقطة انعطاف كبيرة في حياة المجتمع العراقي؟ بل تبوأ المركز التوجيهي للقيادات الوطنية في العراق الواعدة بالعمل والتضحية والعطاء في سبيل المصلحة العامة والتصدي للمشاريع الاستعمارية على اختلاف لافتاتها التي اسماها الاستاذ عبد الفتاح بـ(الرجعية العالمية) ومن هنا ابتدأت قصة كتاب (على طريق الهند) وتبلورت صيرورة مؤلفة بصفته شخصية وطنية وضع كنوز الثقافة الاوربية بوعائها الوطني عن طريق الاصلاح الشعبي في تجربته الخاصة التي نشأت، ونمت على ارض الواقع، وقد عبر عنها في مستهل كلمته التمهيدية في الطبعة الاولى لسنة 1932 بالنص الاتي (والذي يرجوه الكاتب من هذه الرسالة على نواقصها واحتياجها لزيادة البحث والتعمق، سد جزء من هذا الفراغ واعطاء النشء بعض ما يحتاج اليه من المعلومات عن هذه الامور قبل ان يدخل ميدان العمل الجدي الذي اصبح منه على قاب قوسين. واذا كانت القراءات المتاخرة لكتاب مفقود او شبه منسي على رفوف المكتبات القديمة ليس باستطاعتها التعبير عن مضمونه، دون الرجوع اليه والانتهال من منابعه الثرة، كذلك فانه ليس من السهل رسم صورة قلمية لمؤلف استجمع في عصارة فكره جميع عمليات اصطراع الثقافات الاوربية في عصره، بما يغني هذا التعبير عن اللقاء به لتعرف لمسات السهل الممتنع بمفرادات حياته اليومية وسبر غور عمق افكاره المتفتحة بعفوية الاطفال، وحكمة الرجال وهذا ما يجعلك تمني نفسك مثلي بالتورط باكثر من مشروع في كتب السيرة الذاتية التي يكرهها هو، مثلما يكره اسمه باعتبار ذلك تكريس (للذات- الانانية) لكونها تظلل صور الاخرين الذين يشاركونك في التجربة الحياتية المشرقة وتلغي اسماؤهم وتحولهم الى اشباح او عبيد وهو يكره العبودية حيثما كان رداؤها.

عن كتاب (عبد الفتاح ابراهيم)