في حوار مع غابرييل غارسيا ماركيز..كنت اعرف ان   مئة عام من العزلة   سترضي القراء

في حوار مع غابرييل غارسيا ماركيز..كنت اعرف ان مئة عام من العزلة سترضي القراء

كتابة: بيتر ستون
ترجمة: أحمد فاضل
غابرييل غارسيا ماركيز تمت مقابلته في مكتبه الذي يقع خلف منزله في سان أنخيل بمدينة مكسيكو سيتي وهو بناء قديم وجميل محاط بالزهور الملونة بشكل مذهل يقع على مسافة قصيرة من بيته الرئيسي، هو بناء مستطيل ومنخفض ويبدو أنه قد تم تصميمه أصلا كدار ضيافة احتوت صالته على أريكة كبيرة وكرسيين وبار بداخله ثلاجة صغيرة بيضاء

وضع أعلاها حافظة للمياه المعدنية، الميزة اللافتة في هذا المكان هي الصورة الكبيرة لماركيز وقد وضع فوق رأسه قبعة كبيرة مزركشة أنيقة وهو يقف أعلى خليج فيستا الذي راحت تعصف به الريح، وعندما دخلت غرفة مكتبه كان يجلس خلف منضدة كبيرة تربعت في نهايتها فقام متوجها نحوي ملقيا التحية عليّ، كان يمشي بخفة مع أنه رجل ثقيل البنية يرتفع بها نحو ثمانية أو تسعة أقدام، واسع الصدر، رقيق الساقين، كان يرتدي سروالا قصيرا مع قميص بياقة مدورة ومنتعلا حذاء جلديا أسود، أما شعره فقد بدى بنيا مجعدا وبشارب كثيف.
استغرقت المقابلة معه على مدار ثلاثة اجتماعات في وقت متأخر من بعد الظهر أي ما يقرب من ساعتين لكل اجتماع، وعلى الرغم من أن لغته الإنكليزية كانت جيدة جدا فقد تحدث لنا ماركيز طيلة وقت المقابلة باللغة الإسبانية قام بالترجمة ولداه بمهنية عالية، وعندما كان يجيب على أسئلتي يهتز جسده في كثير من الأحيان ويداه تتبعانه بنفس الحركة للتأكيد على نقطة ما في حديثه أو للإشارة إلى حدوث تحول في اتجاه تفكيره، وكان يميل باتجاهي تارة كلما سألته ويجلس تارة أخرى ليضع ساقيه الواحدة فوق الأخرى عند الإجابة.

كيف تشعر حيال استخدام الشريط المسجل أثناء المقابلات؟
- في حالة وجوده أشعر أنني أمام إستجواب ما يجعلني أتقيد بالإجابة، وعندما لايكون هناك أي جهاز للتسجيل أتحدث بطريقة لاشعورية وطبيعية تماما.
حسنا، أنت تجعلني أشعر بالذنب قليلا نتيجة لاستخدامي إياه، ولكنني أعتقد أن هذا النوع الذي يدخل في المقابلات نحن على الأرجح في حاجة إليه.
- على أي حال كان الغرض من قولي هو أنكم تضعونني في موقف دفاعي حينما يكون هنالك مثل هذه الأجهزة.

لذلك لم تكن لتستخدم أبدا جهاز التسجيل لمقابلاتك عندما بدأت صحفيا؟
- كصحفي، لم أستخدمه مع أنني كنت أمتلك جهاز تسجيل جيد جدا، لكنني كنت أستخدمه فقط للإستماع للموسيقى ولم يسبق لي كصحفي أن قمت بأي مقابلة معه، لقد كانت عبارة عن تقارير صحفية خالية من الأسئلة والأجوبة.

منذ بدأنا نتحدث عن الصحافة أشعر أنك لاتريد أن تكون صحفيا مرة أخرى؟
- لقد كنت دائما مقتنعا بأن مهنتي الحقيقية ليست بالصحافة، تلك كانت سابقا خاضعة لظروف خاصة تتعلق بتوفير مردود مالي لأجل أن أعيش، الآن وبعد أن تحقق ما كنت أصبو إليه من خلال عملي الروائي الذي وضعني على الطريق الصحيح وأصبح لي مردود مالي جيد منها، يمكنني أخيرا إختيار الموضوعات التي تهمني وتتوافق مع أفكاري، ومع ذلك أنا أستمتع دائما وكثيرا من فرصة اللقاء مع الصحافة.

ما هو المقال الصحفي الذي لفت انتباهك وما زلت تتذكره؟
- كان عن هيروشيما من قبل جون هيرسي الصحفي الأمريكي الحائز على جائزة بوليتزر الصحفية، حيث يعتبر هيرسي من أقدم ممارسي ما يسمى اليوم بالصحافة الجديدة وقد تم اختيار مقاله عن تلك المدينة المنكوبة كأفضل قطعة صحفية في القرن العشرين المنصرم من قبل لجنة تتألف من 36 عضوا مرتبطا بقسم الصحافة في جامعة نيويورك، مقاله كان استثنائيا حقا.

هل تعتقد أن الرواية يمكن أن تفعل بعض الأشياء التي لايمكن للصحافة فعلها؟
- لا، أنا لا أعتقد أن هناك فرقا بينهما، المصادر هي نفسها، والمواد هي نفسها، والموارد واللغة هي نفسها، رواية الطاعون على سبيل المثال لكامو هي رواية عظيمة، وهيروشيما هو عمل كبير في الصحافة أيضا.

كيف بدأت الكتابة؟
- عن طريق رسم الرسوم الكاريكاتيرية، فقبل أن أتمكن من القراءة والكتابة اعتدت على رسم الكاريكاتير في المدرسة أو المنزل، لكن الشيئ المضحك في الأمر هو أنني عندما انتقلت إلى المدرسة الثانوية كانت لدي سمعة وشهرة الكاتب على الرغم من أنني في الواقع لم أكتب شيئا، جاء ذلك على خلفية قراءاتي الكثيرة وتأبطي المتكرر للكتب، حتى إذا ما دخلت الجامعة في بوغوتا بدأت بتكوين صداقات ومعارف جديدة قدموني إلى كتاب معاصرين، ففي أحد المرات قدم لي أحد الأصدقاء كتابا هو عبارة عن مجموعة قصص قصيرة كتبها فرانز كافكا، عدت بها إلى القسم الداخلي حيث كنت أقيم وبدأت قراءتها حيث كادت سطورها الأولى تسقطني من سريري، فقد كنت مندهشا حقا وأنا أقرأ”عندما استيقظ غريغور سمسا ذات صباح من أحلام مضطربة قال أنه وجد نفسه في سريره وقد تحول إلى حشرة بشعة عملاقة، عند قراءتي لهذه السطور قلت لنفسي أنني لم أقرا مثلما قرأته الآن وبدأت على الفور بكتابة قصص قصيرة ذات مضامين فكرية نشرتها في الملحق الأدبي لجريدة الإسبكتادور لاقت حينها النجاح ربما لأن لا أحد في كولومبيا كان يكتب بتلك الروحية، كان معظمها يتحدث عن الحياة في الريف.

هل قرأت جويس في ذلك الوقت؟
- لم يسبق لي أن قرات جويس، لكنني تمكنت بعد ذلك من قراءة يوليسيس في طبعتها الإسبانية التي كانت الوحيدة المتاحة هناك، بعدها بسنوات قرأتها باللغة الإنكليزية فضلا عن أن ترجمتها إلى الفرنسية كانت جيدة جدا، الآن يمكنني أن أقول أن الترجمة الأصلية لها للإسبانية كانت سيئة للغاية ولم أتعلم شيئا منها يفيدني في الكتابة على مستوى تقنية المونولوج الداخلي وقد وجدت ذلك في وقت لاحق في فرجينيا وولف التي استخدمت ذلك اللون من الكتابة أفضل من جويس على الرغم من أنني أدركت لاحقا ان الشخص الذي اخترع هذا المونولوج كان كاتبا مجهولا يدعى تورميس دي لازاراللو.

هل يمكنك تسمية بعض التاثيرات الخاصة بك في وقت مبكر؟
- يمكن أن أعزو تلك التأثيرات إلى بعض الكتاب الأمريكان الذين ساعدوني على التخلص من بعض مواقفي الفكرية التي درجت عليها قصصي بداية، حيث أدركت بعد مطالعتي لهم أن أدبهم كان على علاقة وثيقة مع الحياة، في عام 1950 و1951 حدث أمر آخر أثر بي وبميولي الفكرية حين سألت والدتي مرافقتها إلى أراكاتاكا حيث ولدت، كانت رحلتنا إلى منزلنا القديم الذي باعته العائلة وقضيت فيه سنواتي الأولى مناسبة لاستعادة ذكريات الطفولة، لكني صدمت بسبب أن المكان لم يطرأ عليه أي تغيير منذ كنت أعيش فيه وعمري ثمانية سنوات واليوم أصبحت في الثانية والعشرين، البيوت، الناس، وكل شيئ هناك بقي يعيش قديمه ومع أنني لست متأكدا ما إذا كنت قد قرأت بالفعل فوكنر بجدية أم لا، لكني أمام هذا المشهد لن تكون سوى تقنيته بالكتابة حاضرة أمامي لأكتب ما شاهدت، مع أني أراها مصادفة حيث وجدت ببساطة المواد التي كان لابد من التعامل معها بنفس الطريقة التي تعامل فوكنر معها.
من تلك الرحلة إلى القرية عدت لكتابة روايتي الأولى”عاصفة الأوراق”فحقيقة ما حدث لي في تلك الرحلة إلى أراكاتاكا كان أن أدركت أن كل ما وقع لي في طفولتي كان ذا قيمة أدبية تعرفت عليها الآن.

ما هي أفضل أوقات الكتابة لديك الآن؟ وهل هناك جدول معين للعمل؟
- عندما أصبحت كاتبا محترفا كانت أكبر مشكلة لدي الجدول الزمني الذي ينسق عملي، فعندما كنت صحفيا كان عملي يستغرقني الليل بطوله، أما الآن فجدول أعمالي الأساسي أوقفته بداية من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية والنصف بعد الظهر، بعدها لا أقوم بأي شيئ آخر سوى مواعيدي ومقابلاتي وأي شيئ آخر يمكن ان يأتي، لكني واجهت مشكلة هي أنني لا أستطيع أن أكتب في الفنادق أو أي مكان آخر أكون فيه خارج بيتي ما أجبر على تدوين ما أفكر به حتى عودتي إلى منزلي، ولهذا السبب هناك شروط تفرض على نفسك هي أكثر صعوبة من غيرها مع أني كنت آمل أن يكون الإلهام موجودا في كل الظروف وهذا ما لا نجده سوى عند الرومانسيين كما أعتقد.

على هذا، كيف يمكنك التمييز بين الإلهام والحدس؟
- الإلهام، هو ما تجد موضوعه قد تجسد أمامك حقا ما يجعل من العمل سهلا إلى حد كبير، أما الحدس والذي هو أيضا من العوامل الأساسية لكتابة الرواية، فهو نوعية خاصة تساعدك على فك ما لبس من غيبيات لتصل إلى الحقيقة المطلقة.

ماذا تقرأ اليوم؟
- أقرأ الغريب مما كتب، كنت أقرأ مذكرات محمد علي كلاي قبل فترة قليلة، ثم إنتقلت لقراءة دراكولا للكاتب الأيرلندي برام ستوكر، بعدها بسنوات عديدة لم أقرأ فيها شيئا لأنني كنت اظن أن القراءة مضيعة للوقت ولما عدت إليها حاولت عدم التورط بقراءة أي كتاب ما لم أتلق النصح بقراءته من شخص ما، قرأت بعد ذلك العديد من كتب السيرة التي تعتمد الوثائق والمستندات حتى وإن كانت مزورة فهي تعلمني الكثير مما كنت أجهله عنها وتبقيني لفترة من الزمن مشغولا بها.

لماذا تعتقد - وقد سمعنا وقرانا ذلك عنك - أن الشهرة هي مدمرة للكاتب؟
- في المقام الأول أنها عندما تغزو الشهرة حياتك الخاصة فإنها تأخذك بعيدا عن الوقت الذي تقضيه مع الأصدقاء، ويمكن أن تفرض عزلتها عليك لتصنع لك عالما غير الذي كنت تعيشه، فالكاتب الذي يريد الاستمرار في الكتابة لابد له من الدفاع عن نفسه باستمرار ضد هذ الشهرة أو تحجيمها وفق شروطه.

هل كنت تتوقع كل هذا النجاح الغيرعادي الذي أصاب روايتك”مائة عام من العزلة”؟
- كنت اعرف أنها ستكون الرواية التي سترضي القراء أكثر من أي رواية صدرت لي، وعندما قال لي ناشرها بالإسبانية أنه ذاهب لطباعة ثمانية آلاف نسخة منها صدمت لأن كتبي الأخرى بيع منها فقط سبعمائة نسخة فسألته لماذا لايكون العدد أقل مما قلته، قال أنه مقتنع بجودتها ويتوقع منها أن تباع ثمانية آلاف نسخة خلال الفترة المحصورة بين أيار و كانون اول، لكنها في الواقع بيعت جميعها خلال اسبوع واحد في بوينس آيرس.

هل هناك أي مشاريع مستقبلية يمكنك التحدث لنا عنها؟
- أنا مقتنع تماما أني أريد أن أكتب أعظم رواية في حياتي، لكني لا أعرف كيف ستكون أو متى، عندما أشعر أني سأكون مهيأ لها سأبقى هادئا حتى أتمكن من الاستيلاء على مكامن وجودها.

عن / مجلة باريس ريفيو الأدبية الشهرية