كاظم الحجاج.. جدارية النهرين

كاظم الحجاج.. جدارية النهرين

د. باسم الأعسم
من العلامات الدالة على حسن الأداء الشعري، لدى الشاعر كاظم الحجاج، تمكنه البارع في الاختزال، في ديوانه الشعري الموسوم (غزالة الصبا) خاصة.
إذ تفصح نصوصه المبسترة جداً عن موضوعات، وأفكار، وصور، وحالات إنسانية، غاية في الكبر والأهمية، وتلك هي واحدة من أهم وظائف الشاعر الدالة على موهبته،

حينما يلخص الهموم الكبيرة بمقاطع شعرية قصيرة ذات تشفير عال وكلمات معدودات.

وتجسد أغلبية القصائد (الومضات) المدونة على أصل ديوانه الشعري الجميل (غزالة الصبا)، مصداقية قولنا حول تكثيف الصور الشعرية لهذا الشاعر القروي الذي يخجل من نفسه بعد أن يكون قد مارس النقد الذاتي على نفسه فيقول بكلمات مبسترات تامات :
إني..
رجلٌ.
يخجلُ..
مني!.. ص53.
ولا يكاد يخامر الشك اثنان إزاء المقطع أي (القصيدة) التي فاقت شهرتها المعلقات والموسومة (نضج) المعبرة عن نضج وثراء مخيلة الشاعر التي جادت بتلك الصورة الإيحائية الهائلة :
إني فتىّ كالبرتقالة شاحبٌ
والبرتقالة لا تخافْ
لكنما..
يَصفَرُ وجهُ البرتقالةِ
كلما قرب القطاف!... ص25.
وأجزم لو أن هذه القصيدة قد كتبها شاعر عربي أو غربي، لرددها كل لسان ودونت في مناهج الأدب الدراسية لغنى محمولاتها الوجدانية والعاطفية وثراء دلالاتها الفكرية والاجتماعية.
ولو أن الشاعر كاظم الحجاج، لم ينتج سوى هذه القصيدة، لوصف باعتزاز كبير، بأنه من شعراء الواحدة، فكيف به وقد تعدد لديه الواحدات الممتعات؟!.
ربما يستكثر بعض الأصدقاء هذا الوصف، الذي يليق بكاظم الحجاج من دون محاباة، لكن المنجز الشعري الوفير بنوعه، يجعلنا نطمئن على خطى الشاعر المهوس بالناس والوطن، كما ونلفت أنظار الآخر، من أن قصيدة (نشيد العراق) للشاعر كاظم الحجاج المنشورة ضمن ديوانه الموسوم (جدارية النهرين) الصادر عن دار تموز في دمشق عام 2011، تعد بحق النشيد الوطني، لفرادة تلك القصيدة وشموليتها إذ نقرأ ما تيسر لنا من ذلك النص الغنائي الآسر :
في البدء كان الرافدان
وكانت الدنيا دخان
لا بارقُ خلف المدى
والأفق ضاق
حتى بدا مثل الندى
وجهُ العراق
فلتقرع الاجراس في الكنائس
ولترفع المساجد النداء
(تموز) دق بابنا في آخر المساء
وفتحت (عشتار) للعناق.. ص5-6
عيوتها، فاستيقظ العراق
المارد القديم قد اقاف
من هنا حط على الأرض الحمام
بين آشور وأور
وحمورابي وبابل
فابتدا فجر السلام
وأمتلا الكون سنابلْ.. ص5-6.
ثمة الفة حميمة بين الشاعر ومكانه البؤرة فتزدان قريتهُ بأبهى الصورة المتخيلة والنداء الحميم اللذان يترجمان التأسيس المنطقي لعلاقة الشاعر مع المكان عبر الاستعارات التي تتراوح بين الواقعية والمتخيلة والتي تشير إلى أرتماء الحجاج في أحضانها، فيفتتح ديوانه (غزلة الصبا) بقصيدة (توحيد) كدلالة على وله الشاعر، وحبه الأثير، لمرتع صباه، وفي النص تعميم واسع المدى، يحتمل التأويل، إذ لم يسم الحجاج قريته، فمنح نصه، ذلك البعد الزمكاني الفسيح إذ يقول :
يا قريتنا..
لمّي أبناءك
أياً ما كانوا
أو في أيَّ مكان
يا قريتنا
مجد الرمّانة حبٌ الرمان.. ص5.
وبوصفه شاعراً عراقياً بصرياً، يكاد كاظم الحجاج يختلف عن أقرانه، وتلامذته من الشعراء من حيث انسحاب قصائده الطوال نسبياً إلى عالم السرد، فأنتج من جراء ذلك، القصص أو المسرودات الشعرية، حيث الحكي المعضد بالطرفة، والسرد التابع والحوار والمفارقة وضمير الغائب، ويغلب على النصوص الشعرية التي تنتمي إلى هذا التوصيف مثل (الممثل) و (حكاية العبد آدم) و (من ألواح الشاعر السومري) و (لقاء إذاعي مع العريف المتقاعد حطاب) يغلب عليها الطابع الدرامي الممسرح، فتكون تلك النصوص وسواها أقرب إلى المسرح الشعري، الذي تكون فيه النصوص قابلة للتجسيد العياني، وأن بنائها الدرامي يهيمن على غنائيتها على الضد من القصائد القصار، لاسيما وأن الشاعر قد كتب عدداً من النصوص المسرحية.
ياسادتنا
هذا بطلْ من أبطال الحرب
رجل في الخمسين... ص61.
أو قوله في قصيدة (غزالة الصبا) :
يازمانَ الشناشيل دار الزمان
دارُنا لم تعد دارنَا... ص69.
أما في قصيدة (حكاية العبد) يستهل الشاعر نصه برواية عدها طرفة إذ يقول :
أراد زنجي دخول الجنة : فأوقفه ببابها القديس بطرس قائلاً : نحن في العادة لا نسمح للملونين بالدخول إلى هنا... الخ.. ص83.
ولا أحسب أن لفظة تروق للشاعر وتكحل عينيه، مثلما هي لفظة (الجنوب) الدالة على جنوبيته (هويته) المختومة بطين البصرة :
لأني نحيل،
لم أكلف الرب طيناً ليخلقني!
صاح بي : يا أنا هو
ففتحت عيوني
أيّما وطنٍ تشتهي؟ قال
قلتُ : الجنوب... ص74.
ثمة قصائد تأخذ شكل السيناريو ذو الابعاد الزمكانية، مما يؤكد لنا افادة الشاعر من البنى المجاورة للشعر، كالمسرح، والقصة، والسيناريو، واللقطات السينمية، وقد تعزز ذلك، في طريقة القاء الشاعر للقصائد، فقصيدة (الممثل) على سبيل الفرض تعد بمثابة مشهد مسرحي قصير، مجتزأ من نص مونودرامي مؤثر، وحال قراءتنا لنصوص الحجاج نتخيلها مجسدة في فضاء مسرحي، لما تتمتع به من لغة شعرية، بصريَّة، هجائية، واخزة وحوارات شاعرية باهرة.
السيد مخرجنا المغرور
أعطاني دوراً..
ولأني مقبول – من حيث الجثة –
للدور
وافقتُ
وقال المخرج
احفظ دور السلطان العادل!
ها. ها.. (في سري طبعاً)!..
سلطان عادل!.... ص42.
تنطوي قصائد الشاعر كاظم الحجاج على وفرة من روائع الكلم، وقد صيرت بهيئة مقولات وحكم على شاكلة (الفقر يوحد أديان الفقراء) و (الأسماكُ عشائرُ ماء الاهوار) و (في الشرق البيوت على سكانها.. تقع) و (الطير يسبح لله، فلماذا نذبحه، ونكبر بأسم الله!) و (الغيمة حزن الرب والأمطار دموع الله) و (الموناليزا شعرٌ مكتوب بالالوان) ومثلهن كثر.
أما البصرة فحاضرة بكل تفصيلاتها على خارطة قصائد الحجاج، أبلامها، وشناشيلها، وأسماكها، ومقاهيها، وأبنائها الطيبون بالفطرة، وقد أتت ضمن نسق القصائد المحكوم بايقاع بصري فريد، مذكراً الآخر بأنه قد عاش الهم، والشعر، واكتوى بنار الحروب في أرض السواد، وقصائده كأنما قد كتبت للتو بعد مخاض عراقي جد عسير :
هذا نص عنيد، ألح عليّ، وجاء هكذا، أرجو أن
تساعدوني على تجنيسه
لكن من دون تعجل
(....)
ليس الشعر هو الكتوب، الشعر
يعاش أولاً : يرى ويسمعُ... ص75.
إن الخلاصة التي يخرج بها القارئ لشعر كاظم الحجاج هي أن الشاعر عبارة عن أوصال متقطعة ومتناثرة على أديم هذا الوطن وأرواح الناس الفقراء وقد أضحى على مشارف السبعين وما زال حياً رغم إنف الحروب والطغاة :
أني الآن، وقد جاوزت الستين،
أنظر شعري :-
وأنا أحلف بالزيتون وبالتين
أني أتعجب من عمُري
- رغم ثلاث حروب – كيف تعديت الستين؟!.. ص94.
لقد كان الشاعر الجنوبي كاظم الحجاج أميناً على تسجيل رؤاه التي يختلط فيها الواقعي بالمتخيل والسياسي بالاجتماعي وكثير ما تكون تلك الرؤى مؤطرة بالهجاء اللاذع والصور الواخزة التي تستثير ذائقة المتلقي، فيسر حال قراءتها أو سماعها، من فرط اتقان الشاعر لصنعة الشعر، واجتهاده في انتاج اللقطة (السينمشعرية) بوقها المؤثر كما في قوله :
ففي الكوفة الناسُ صنفان : صنف غني، وصنف (علُّي)!..
النهر فرات الله الأول، بعد الأمطارْ... ص27.
أو قوله في مقطع من قصيدة (جدارية النهرين) إذ يرسم الحجاج صورة ترج قناعة القراء فيقول :
أيها الخليفةُ : نحن طيور النهرين
لا نقعُ على أشكالنا
الطيور لا تقع يامولانا
الطيور تحط... ص48.
وتعد المفارقة المثيرة للضحك الذي هو كالبكاء أمضى أسلحة الشاعر، وأجدى أدواته لتحقيق الدهشة والتحول في بنية النص من السائد إلى المختلف، ومن التفسير إلى التأويل الذي لا يحتاج إلى كد ذهني، بسبب بساطة اللغة ووضوح الفكرة الشعرية، سواء قصرة الجملة الشعرية أم طالت، لا سيما أن الشاعر كاظم الحجاج لم يفترض بنية مغايرة للواقع، إنما يصفه وينقده بوضوح ملغز وهذه خصائص أسلوبية الحجاج.
ففي قصيدة (أنظر بعين من نهرين) المصاغ عنوانها بذكاء حاد نقرأ بعضاً من مفارقات الشاعر التي وضعها ضمن مستطيلات كعلامات تقود القارئ إلى التوقف عندها ملياً وكالآتي :
أنا لا أصلي!
أنا أتوضأ، دون صلاةٍ، وهذي شماليْ
أعف وأطهر ممن يصلي نهاراً، ويسرق في الليل خبز عيالي!
وفي المقطع الثاني نقرأ:
أنا لا أصوم!
أنا صائم منذ ستين عامْ!
أجوع وآكلُ
لكنني لا أبسمل عن لقمةٍ بالحرامْ!
ويختم نصه المشاكس بالقول الآتي :
أنا لا أزكي!
فمن أين ليْ؟
وحتى لحافي.. قصير على أرجلي؟!... ص63-65-67.
وهذا نذر يسير من فيض مرارات نورس البصرة، الشاعر كاظم الحجاج الذي صلى لكل المفاهيم الجليلة وصام عن الملذات الجميلة وزكى قصائده الغاليات.