كتب المفاهيم  لعبد الله العروي.. كشف مفارقات الفكر العربي والتخلص من الأسئلة الزائفة

كتب المفاهيم لعبد الله العروي.. كشف مفارقات الفكر العربي والتخلص من الأسئلة الزائفة

كمال عبد اللطيف
كاتب وجامعي من المغرب
تقدم الاعمال التي ابدع فيها المفكر المغربي عبد الله العروي صورة رفيعة للمستوى الفكري الذي تحقق في الثقافة المغربية والثقافة العربية في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين. وتجمع هذه الاعمال بين البحث التاريخي، كما تجلى في المصنفات الآتية:

«تاريخ المغرب”1970، «اصول الحركة الوطنية في المغرب”1978، والكتابة الابداعية السردية. وقد صدرت له اربع روايات بالتتابع الآتي: الغربة، اليتيم، الفريق، غيلة. ومشروعا في النقد الآيديولوجي والسياسي ندرجه في خانة الكتابة الفلسفية والفكر الفلسفي لما تميز به من كفاءة في المعالجة النظرية المسنودة بمرجعية فلسفية وتاريخية.
ولعل المكانة الرمزية العالية التي يحتلها العروي اليوم في فكرنا وفي الفكر العربي والعالمي، تعود اساسا الى جهوده الاخيرة المرتبطة بقراءته للفكر العربي المعاصر، وتفكيره في اشكالية التأخر التاريخي العربي.
بدأت المصنفات التي تبلورت فيها كتابته الفلسفية، بعمله الهام في نقد «الآيديولوجيا العربية المعاصرة”1967. واتخذت طابع اطروحة عامة في ازمة المثقفين العرب 1973 المتمم بكتابي «العرب والفكر التاريخ”1974، و«ثقافتنا في ضوء التاريخ”1983، ونص «النزعة الاسلامية الليبرالية والحداثة» 1996، ففي هذه المصنفات يتحدد موضوع نقد الآيديولوجيا العربية المعاصرة وذلك ببناء تصور يتجاوز مواقف الشيخ والليبرالي والتقني وهم النماذج المتصورة في خطاطته العامة لفئات المثقفين في المجتمع العربي والثقافة العربية المعاصرة، حيث يصبح بديل النماذج المذكورة هو المثقف التاريخاني المدافع عن الحداثة والتحديث في اطار وحدة التاريخ البشري.
نعثر في المصنفات المذكورة على روح الاختيار الفكري والسياسي الحداثي، كما نعثر على تجليات هذا الاختيار في المقاربات التي التزم بها المفكر وهو يدافع عن قناعاته الفكرية مقدما في نص «ثقافتنا في ضوء التاريخ”مجموعة من الابحاث التي تترجم مساعيه في قطاعات معرفية محددة يعمل فيها على مواجهة اشكالات معينة لتعزيز رؤيته الفكرية وابراز سلامة وقوة اختياراته ونجاعاتها. وهو يقوم في بعض مقالات «ازمة المثقفين العرب» بتوضيح الأدوار المرتقبة من المثقف التاريخاني عند مواجهته للاشكالات التي تطرحها الاوضاع العربية الراهنة.
لا يركب العروي اطروحة في الدفاع عن الحداثة وفي نقد التراث بصورة نسقية، بل انه يشتغل في اكثر من واجهة، ويفكر في اكثر من موضوع مستعملا المفاهيم والبراهين والتحليلات التي تروم تأسيس اختياراته وتحويلها الى أداة مساعدة على ادراك افضل لمتغيرات الواقع العربي، من أجل المساهمة في تحقيق الثورة الثقافية اللازمة لتجاوز التأخر التاريخي السائد.
نقرأ في هذه النصوص حوارا معلنا مع تجارب سياسية بعينها، ومع وقائع حصلت في تاريخنا المعاصر في حقبتي الخمسينات والستينات، كما نقرأ صورا للاحباط والتراجع الحاصل في المجتمع العربي بسبب فشل سياسات معينة، لكننا قبل ذلك وبعده نلمس جهدا في الفكر النقدي الرامي الى تحرير الذهن العربي من قيود عصورنا الوسطى.
حركت اعمال العروي في مجملها فضاء الثقافة المغربية والعربية، وعملت كثير من النخب خلال العقود الماضية على الاستنارة بأسئلتها واجوبتها، وكذا بالقلق الوجودي والتاريخي الذي كانت تحمله في طياتها، وقد فعلت ذلك احيانا بكثير من الحماسة والعمق والتفاؤل، وذلك رغم بؤس الواقع وتراجع النخب وسيطرة التقليد، بل واكتساحه للفضاءات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي اعتقد البعض في بداية السبعينات انها تحولت الى فضاءات للحداثة العربية القادمة.
ففي مقابل اعمال العروي الفكرية التي تعبر عن عمق مواقفه واختياراته وتحليلاته، تعود الى المشهد الثقافي العربي في السنوات الاخيرة ظواهر جديدة تحتمي بالتقليد، وتستعيد كل ما هو عتيق في فكرنا وثقافتنا. ولا شك ان هذا الذي حصل ويحصل يعكس نوعيات التوتر والصراع القائمة في فكرنا وفي مجتمعنا، وربما لهذا السبب سيواصل العروي مسيرته الفكرية النقدية، ويصدر سلسلة كتب المفاهيم خلال العشرين سنة المنصرمة محاولا تعميق اطروحته ومواقفه، ومتجها صوب خلخلة مظاهر الارتباك الحاصلة في الثقافة العربية، وذلك بكشف مفارقات الوعي العربي في علاقته بالتاريخ. يكشف تاريخ الافكار والمجتمعات ان الصراع الفكري في المجتمعات الحديثة والمعاصرة لا تنهيه معركة واحدة او معركتان، وقد لا تفصل فيه منازلات عديدة ينجزها المثقف والمفكر في زمن معين. فقد يتطلب الامر معارك عديدة داخل مساحة زمنية تطول او تقصر للتمكن من بلوغ المرامي المسطرة، وانجاز المشاريع المأمولة، وتحقيق الطموحات المفترض انها طموحات اكثر تاريخية واكثر نجاعة.
قد تكون هذه الملاحظة وراء الارادة الثقافية التي عبرت عنها اعمال العروي في مرحلة ثانية من مراحل انخراطه في نقد تجارب وآيديولوجيات الاصلاحات السياسي والاصلاح الثقافي في بلادنا. فقد اتجه الرجل بعد مصنفاته الاولى التركيبية العامة الى بناء مجموعة من المصنفات في موضوع دفاعه عن قيم الحداثة في الفكر العربي المعاصر، نقصد بذلك سلسلة كتب المفاهيم التي تتابعت ابتداء من سنة 1980، سنة صدور مفهوم «الآيديولوجيا»، ثم مفهوم «الحرية”1981، وبعد ذلك مفهوم «التاريخ”الصادر سنة 1992 في جزءين، ثم اخيرا خاتم كتب السلسلة مفهوم «العقل» 1996، ولعله من بين اهم الكتب العربية التي صدرت في نهاية القرن الماضي.
لا تخرج موسوعة المفاهيم التي اصدر العروي عن روح اختياره الفلسفي الحداثي، حيث يربط بحثه في المفاهيم المذكورة بمسعاه النظري المتجه نحو تأسيس ما يمكن من ترسيخ قيم الحداثة في التاريخ وفي الوعي.
ينطلق تفكير العروي في المفاهيم من تأمله في الاوضاع التي نعيش في العالم العربي خلال القرنين المنصرمين، حيث انقطعت الصلة بيننا وبين المنطق الموجه لتراثنا الثقافي، وحيث يصبح التفكير في الحرية والدولة والعقلانية مناسبة لاستيعاب التاريخ الجديد الذي يؤطر الحاضر الكوني وذلك رغم الاستمرارية التاريخية الحافظة لظواهر لا علاقة لها بالمرجعية التاريخية الواقعية، والمرجعية النظرية الفلسفية والاجتماعية والسياسية الضابطة والناظمة لمحتوى المفاهيم الجديدة التي نحن مطالبون بمعرفتها.
يكشف العنوان الفرعي لمصنفه الاخير في المفاهيم «مقالة في المفارقات»، عن طريقة التفكير التي اتبع المؤلف في مصنفات المفاهيم، فهو يشتغل فيها على كشف مفارقات تاريخ يتلاشى، مقابل تاريخ يتأسس، وتعمل التحليلات المتضمنة في الكتب المذكورة على كشف تناقضات اللحظة الفاصلة بين اللحظتين، لحظة التلاشي ولحظة البناء، لحظة الارتكاس والاضمحلال، ولحظة الانشاء والتأسيس، ان تفكير العروي في المفارقات يعد تفكيرا في لحظة الانتقال، وهي لحظة طالت وتواصلت في تاريخنا المعاصر بحكم عوامل وشروط بعضها موضوعي وكثير منها يعود الى التقصير الذي تمارسه النخب عندما تواصل احتماءها بالفكر الانتقائي وبالروح التوفيقية وفكر السلف.
يعلن العروي في كثير من الاحيان في نصوص سلسلة المفاهيم ان غايته من النقد المفاهيمي تتجه للتخلص من الاسئلة الزائفة، حيث تقتضي نجاعة العمل السياسي والفكري في المجتمع العربي دقة التعبير ودقة المعنى من أجل فكر اكثر انتاجية واكثر مردودية، ولهذا يتجه في كثير من فصول هذه المصنفات الى نقد الكلمات والالفاظ والمفاهيم وكشف مفارقاتها المتمثلة في تناقض المرجعيات وتباعد الازمنة وضياع المعنى.
وقد لا نجازف عندما نعتبر ان مقالاته في كشف مفارقات المفاهيم تتجه في العمق لبلورة مشروع بديل في التحديث السياسي الثقافي، وبناء ارضية تمهد لثورة ثقافية في الوطن العربي. فهو يعتبر ان الفكر السياسي الحديث والمعاصر ساهم بكثير من القوة النظرية في تأسيس مفاهيم المشروع السياسي الليبرالي المتمثلة في: الحرية، والدولة، والعقلانية، حيث لا دولة دون حرية ولا حرية دون دولة ودون عقلانية، واذا كانت الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة تبني هذا الدرس في اطار تجربة التاريخ السياسي المعاصر، فإن الفكر السياسي العربي مطالب باستيعاب روح هذه التجربة للتمكن من تجاوز المفارقات التي ترهن المجتمع العربي في اسئلة مزيفة ومفاهيم مختلطة ومتناقضة بحكم التباعد القائم بين واقعه ومؤسساته الجديدة وبين ذهنيته المحافظة.
تتخذ مساهمة العروي في تركيب المفاهيم المذكورة توجهين اثنين، توجه يعود للتفكير في كيفيات تجاوز التأخر التاريخي، انطلاقا من مقاربة تأخذ بالصور والدلالات التي استعملت بها هذه المفاهيم في الفكر الذي نشأت فيه والمجتمع الذي سمح بظهورها، ومقاربة تشخص مظاهر الارتباك الفكري والواقعي الذي عرفته المفاهيم نفسها في افق تاريخي يروم المغامرة مواجها العناد التاريخي بالاصرار. لهذا السبب تنحو المقاربة الثانية منحى تأصيليا يرسم المفارقات ويكشف التباعدات القائمة بين الفكر السياسي الحديث والحداثي، والتأويلات التي اتخذها هذا الفكر في الثقافة السياسية العربية. ان وظيفة كشف المفارقات تتجاوز الموقف النقدي المجرد في اتجاه مواقف اكثر ايجابية، حيث تعمل كتب المفاهيم على تأسيس تصورات ومعطيات نظرية عامة بهدف الدفاع عن التوجه التاريخاني الذي يرى في البلبلة الحاصلة في الفكر السياسي العربي مجرد تردد مكرس للتقليد وحام له، اما الموقف المطلوب في هذا الباب فهو العمل بأساليب متعددة على توطين مفاهيم الفكر السياسي المعاصر في ثقافتنا، بالصورة التي تعمق أوليات الحداثة وتعد الوسائل التي تمكننا من انخراط فاعل في العالم المعاصر.
عندما نقرأ «مفهوم الدولة”مثلا نعثر على مواقف العروي من طبيعة الدولة السائدة في المغرب وفي العالم العربي، حيث يحاول كشف الفجوات العميقة القائمة بين الدولة والمجتمع، كما يكشف بكثير من الجرأة والعمق صور استمرار سيطرة الدولة السلطانية والثقافة السياسية السلطانية بمختلف مفاهيمها، مبرزا دورهما المتكامل في تكريس قيم الطاعة والاستبداد، وهي القيم التي شكلت الملامح البارزة للسياسة والعمل السياسي في عصورنا الوسطى.
لكنه لا يكتفي في هذا الكتاب المكتوب بكثافة نظرية عالية، لا يكتفي بنقد الحاضر وتشخيص مستويات ارتباطه بقيم سياسية عتيقة، انه يعيد قراءة منظومات السياسة التراثية محاولا ضبط حدودها وذلك بمقارنتها بمنظومة الحداثة السياسية، فيضع يده في سياق التحليل والنقد والتركيب التاريخي على المفارقات، مشيرا في الآن نفسه الى كيفيات رفعها باستيعاب بدائلها التاريخية المستمدة من تجارب التاريخ المعاصر.
اما كتاب «مفهوم التاريخ”وقد صدر في جزءين، فقد اشتغل فيه العروي على التاريخ وابستمولوجيا الكتابة التاريخية. وحاول فيه الدفاع عن الحداثة اثناء رده على بعض الاعتراضات التي توجه للتاريخانية، متوقفا امام عوائق التحول التاريخي الحداثي في المجتمعات العربية، وقد تضمن هذا المصنف جهدا في الفكر وفي مقاربة بنية المنهج التاريخي لا نظير لهما في الثقافة العربية المعاصرة، ولعله في كثير من تصوراته ومعطياته المنهجية يضاهي ان لم يكن يتجاوز كثيرا من المصنفات التي تبحث في موضوعه. وفي كتاب «مفهوم العقل» نجد عبد الله العروي يؤسس نظريا للانتقادات التي وجه في مختلف كتبه للاختيارات السلفية والتوفيقية في الآيديولوجية العربية المعاصرة.
نستطيع القول إذن ان نصوص المفاهيم عكس ما كنا نعتقد في بداية صدورها، تدفع بمشروع العروي نحو باب التأصيل النظري الرامي الى بناء المشروع الحداثي التاريخاني في الفكر المغربي والفكر العربي المعاصر، ولعلنا لا نبالغ عندما نعتبر ان هذا المشروع قد مكن الفكر العربي من انجاز حوار نقدي مع الذات ومع العالم، حوار كشف محدودية النظر السياسي العربي، كما كشف القدرة الضمنية لهذا الفكر اثناء مواجهته لاشكالات تاريخه العام، تاريخه السياسي الفعلي وتاريخ الافكار اللاحمة لهذا التاريخ.

جريدة”الشرق الأوسط"