هل ترجّل «مخترع المثقفين العرب» عن قناعاته؟ عبدالله العروي.. ضرورة فكريَّة عالميَّة

هل ترجّل «مخترع المثقفين العرب» عن قناعاته؟ عبدالله العروي.. ضرورة فكريَّة عالميَّة

أحمد فرحات
ثمة إجماع عريض بين المفكرين والمثقفين العرب على اختلاف توجّهاتهم الفكرية والأيديولوجية والنقدية والمعرفية، على أن د.عبدالله العروي هو قامة رياديّة كبرى في الفكر العربي الحديث، حتى على مستوى الفكر الإنساني أيضاً. وربما كان الناقد والشاعر اللبناني عصام محفوظ على حق، حين قال لكاتب هذه السطور ذات يوم، بأن العروي «هو مخترع المثقفين العرب،

ومبلور دورهم المكوّن للثقافة العربية الحديثة المتأسّسة على العقل النقدي الحديث». وتبعاً لهذا، فهو أحد أكبر المؤثرين في توجّهات الكثير من الشرائح الفكرية والثقافية التي عاصرته، وتلك التي تلت مرحلته العمرية، وصولاً إلى اليوم، حيث كان، ولا يزال همّه، رسم وترجمة كل قيمة هويّاتية حضارية لبلده المغرب بخاصة، ودنياه العربية بعامة.

يصرّ العروي على ممارسة عزلة مقصودة عن الإعلام، فهو لا يظهر على واحدة من وسائله، إلاّ لضرورات قصوى يُحدّدها هو، بخاصة كما ظهر قبل سنوات (2013) على القناة المغربية الثانية منافحاً عن العربية الفصحى، لغة الأمة والتاريخ والمستقبل ضد دعاة العامية أو الدارجة المغربية، الذين ما انفكّوا يشوشون عليها، وهو هذه المرة، نور الدين عيوش، صاحب وكالات الإشهار المعروفة في المغرب. والعروي الذي وُلد في مدينة أزمور المغربية سنة 1933، صاحب المؤلفات التي تتجاوز الثلاثين في التاريخ والنقد الأيديولوجي، والفلسفة، والبيداغوجيا، وتاريخ الأفكار، والنظم المعرفية والسياسية، فضلاً عن الرواية والمسرح وأدب الخاطرة اليومية... إلخ. اهتم لدى معالجته قضايا الفكر العربي ومعضلاته بمسألة المنهج والتأويل، بتوظيف علوم مختلفة كاللسانيات والأنثروبولوجيا وتحليل الخطاب والتفتيش عن المعاني التي اكتسبها عبر التاريخ بتعدّد المتلقّين وفلسفاتهم وتراكم معارفهم؛ أي أن توجّهه كان توجّهاً معرفياً (إبستمولوجياً) وليس توجّهاً وجودياً (أنطولوجياً).

والمنهج المعرفي عنده يرتكز إلى جانبين: الأول، وهو الجانب التاريخي (أو التاريخاني) العام. والجانب الثاني، وهو جانب تأسيسي؛ فالفكر العقلي يتأسّس على مفاهيم محدّدة واضحة، يمكن البناء عليها لإنشاء باقي البناء العقلي.. وهو بالمناسبة موقف يعود إلى ديكارت الذي يُذكر عادة بأنه أول التأسيسيين.

يعتبر كتاب عبدالله العروي: «الأيديولوجيا العربية المعاصرة”(أصدره بالفرنسية في العام 1967 عن دار ماسبيرو- باريس، ونقله إلى العربية في العام 1970 الروائي والناقد اللبناني محمد عيتاني... والناشر دار الحقيقة- بيروت) البوّابة التي أطلقت مشروعه الفكري التفاعلي على مستوى عربي، خصوصاً لجهة نقده الجذري للفكر السكوني، أو الفكر المراوح السائد، واقتراح فكر عقلاني بديل، يسهم في بلورة الشروط العلمية المطلوبة لقيام نهضة عربية حقيقية وجادّة في توجّهاتها. ولا يزال هذا الكتاب مغروزاً في وعي كل من قرأه من المثقفين العرب الثقات، منذ بداية السبعينيات من القرن الآفل حتى اليوم.

قدّم للكتاب المستشرق الفرنسي المعروف مكسيم رودنسون، مادحاً الكتاب وأسئلته الجديدة المغايرة. وقد قسّم العروي كتابه إلى أربعة فصول هي: العرب والأصالة- العرب والاستمرار التاريخي- العرب والعقل الكوني- العرب والتعبير عن الذات.
ويمكن في الإجمال تجزئة أعمال العروي كلّها إلى أربعة محاور، وكل محور مرتبط بأحد هذه الفصول الموجودة في كتابه المذكور: الأيديولوجيا، والبحث التاريخي، والتأصيل، والتعبير.

بخصوص التراث والتعامل معه، فُهمت دعوة د. العروي في كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة”خطأً، فهو لم يدعُ البتة إلى موقف عدمي من التراث، وإنما دعا إلى التفكّر العقلاني به، وأخذ الدروس والعبر من النقاط المضيئة فيه. هو لا يريد من التراث إلاّ أن يكون منطلقاً نحو التنوير، وجسراً نحو منطق معرفي عربي جديد، تماماً كما حصل لغيرنا، خصوصاً في الغرب، حيث، مثلاً، تمّ إدراك أهمية الفلسفة والفيزياء مع ديكارت، والقانون مع مونتسكيو، والسياسة مع روسو، والأخلاق مع هيوم، والاقتصاد مع آدم سميث.

ويلاحظ العروي أن من يتشبّث بالتراث، هم في الغالب أكثر الناس جهلاً به، وأقل خوضاً نافذاً في حقائقه المعرفية المتجاوزة.

كما أنه يرى في الحداثة واقعاً معيشاً، لا مقولة قابلة للتحبيذ أو التفنيد. الحداثة تعني أن يكون العربي واعياً بتاريخه وحاضره، و-استطراداً- مستقبله، عن طريق العلوم، والمعارف، والاتصال بالعالم، وعدم الانعزال، والتمسّك بالعلم. بترجمة أخرى، الحداثة لديه لا تعني البتة تبعية سياسية، أو صورة مموهة عن الاستعمار، بل هي جهد معرفي وحياتي موصول، يرادف السؤال فيه دوماً اللا يقين، أو هي -استطراداً- مجابهة لما يسمى التخوم.. تخوم الفكر الساعي إلى اللا مفكّر فيه.

من جهة أخرى، يرفض العروي الأيديولوجيا، لكنه يقبل الثنائية.. ثنائية النظرة والعمل على توظيفها. و«بالنظر إلى محدودية معارفنا، نعمل (كما يقول) على ملاءمة منهاج التفكير مع المجال الذي نفكّر فيه. نفكّر في نطاق الزمن، ونتأمل إنجازات الإنسان”بهدف الإنشاء«حسب عبارة ابن خلدون». بوجيز العبارة، د. عبدالله العروي، مثل سلفه العظيم ابن خلدون، يتحلّى بالواقعية والتفكير الواقعي، لأن التفكير في الحضارة هو إنجاز بشري خاضع لسيرورة الواقع والزمن. وهو، من جانب آخر، لا يحب التأويل في ما خصّ التفكير في ضوء الواقع الموضوعي، لأن «الحكيم عندما يقرر الانفصال عن الزمن، والتاريخ والمجتمع.. ماذا يهمّه من أمر الخارج البرّاني؟”كل ما يهمّه هو الوعي الجوّاني. كل العبارات والمفاهيم تؤخذ على وجه النقيض. من هنا اللجوء إلى منطق التأويل. المنهج التأويلي صالح لفهم ما «يلقى في النفس»، وغير صالح لفهم ما يفعله الإنسان في «الخارج».
محاكاة عفوية للعلايلي

يعتبر د. عبدالله العروي من أصلب المدافعين عن اللغة العربية الفصحى في المغرب كما ألمحنا. إنه يرفض تدريس العاميّة المغربية بدلاً منها، لأن ذلك يشكّل تهديداً للوحدة الوطنية المغربية، ولأن من شأن ذلك أيضاً، فصل المغاربة عن ثقافتهم العليا ومحيطهم الثقافي العربي العام.

كما يرى العروي أن العاميّة المغربية، لا تستطيع أن تكون لغة الثقافة الرفيعة، أو لغة متقدّمة على مستوى اللغات الأجنبية.. «فأنا غير مستعد لأن أفرّط في لغة عالمية مثل العربية، يتحدث بها 400 مليون إنسان، ويشتغلون عليها لتكون في يوم من الأيام في مستوى غيرها من لغات الأمم المتقدمة».

لكنه في المقابل، يؤيد فكرة تبسيط تدريس الفصحى، خصوصاً لجهة القواعد والصرف والنحو والإعراب والإملاء...إلخ. فالهدف في المحصّلة يتجسّد في تعليم الطالب الصغير لغة عربية فصحى سهلة، تجعله يواكب العصر بلا عقد لسانية. و هو هنا يلقي باللائمة على «معهد التعريب في المغرب»، الذي «كان عليه أن يقوم بهذه المهمة منذ تأسيسه».

وهذه الدعوة، دعوة التسهيل وإزالة التعقيد أمام أساليب تعليم العربية، كان قد قال بها أيضاً، ومنذ عقود طويلة، شيخ اللغويين العرب العلاّمة اللبناني الراحل عبدالله العلايلي، الذي دعا اللغويين والنحاة العرب الكبار إلى النظر جديّاً في الموضوع، وفرضه على مجامع اللغة العربية كافةً في الوطن العربي. كما دعا إلى تدريس لغة الضاد عبر منهج موحّد في كل مراحل تدريسها، من الابتدائي إلى التكميلي فالثانوي والجامعي في عموم البلدان العربية، لأن العربية «هي آخر مدماك يسند كيان العرب المتداعي، وبالتفريط به، تفريط في آخر وعاء ثقافي ثريٍّ يجمع لسان الأمة وإبداعها في المضامير الأدبية والمعرفية كافةً».

ويخلص عبدالله العروي إلى أن أزمة التعليم في بلاده، ليست مرتبطة باللغة العربية الفصحى أو العاميّة، فكل دول العالم (حسب رأيه) تعيش أزمة في قطاع التعليم، موضحاً «أن العاميّة المغربية، هي مجرد لغة فولكلورية شفوية من الصعب كتابتها، وهي غير علمية».. ويستطرد قائلاً «إن اللغة العربية مسألة مصيرية في المغرب.. وهي تتعلّق بمجتمع بأكمله».

في ليبرالية العروي

وإذا أردنا الاستدلال إلى الهوية الفكرية التي استقرّ عليها العروي في العقدين الأخيرين، فبإمكاننا تصنيفه في بوتقة المفكّرين العرب الليبراليين. على أن ليبراليته هنا لا تشبه، البتة، ليبرالية مثقفينا وسياسيينا الجدد، لا سيما منهم، فرسان الطبعة الأخيرة من الماركسيين العرب، الذين تحوّلوا إلى شريحة منفّرة، أسهمت وتسهم في تحويل «بلداننا الربيعية”إلى متاحف للدم والرعب والقتل «المقدّس”والمدنّس، كما لا تشبه ليبرالية العروي ليبرالية أولئك المخضّرمين السابقين على جماعة النيوليبرالية المتوحشة. ليبراليته هي نتيجة استقلاله الفكري، ومتانة طرحه النقدي الحر والمكتنز بالمعرفة والمثاقفة الوازنة والمستنبطة للرأي الإنساني الحر. وهو يرى أن الليبرالية العربية نشأت في إطار المواجهة بين مجتمع غالب، وآخر يشعر بالضعف والاستغلال. كانت مواجهة، ولكن كان كذلك تلاقح. تكوّنت جماعة قليلة العدد قامت بدور الوسيط المفاوض ثم انتهى دورها بانتهاء وضع الاستعمار؛ لكنها ظلّت تحمل سمات الدور الذي قامت به. ظلّت ضعيفة اجتماعياً، وبالتالي فكرياً، متهمة معزولة في الداخل، ومحتقَرة في الخارج. الجميع يرميها بانعدام الأصالة، و«لذا تكلّمت عنها».

ويقدّم العروي شرحاً صافياً لمراحل مفهوم الليبرالية في كتابه الشهير «مفهوم الحرية»، يرى فيه أن الليبرالية مرّت بمراحل عدّة أولاها: مرحلة التكوين، حيث كانت وجهاً من وجوه الفلسفة الغربية المرتكزة إلى مفهوم الفرد ومفهوم الذات. ثانيتها: مرحلة الاكتمال، حيث كانت الأساس الذي شُيّد عليه عِلمان عصريان مهمّان هما علم الاقتصاد وعلم السياسة النظرية. ثالثها: مرحلة الاستقلال، حيث نزعت الليبرالية من أصولها كل فكرة تنتمي إلى الاتجاه الديموقراطي، بعدما أظهرت تجربة الثورة الفرنسية أن بعض أصول الليبرالية قد تنقلب عند التطبيق إلى عناصر معادية لها. رابعها: مرحلة التقوقع، حيث أصبحت تعتبر أنها محاطة بالأخطار، وأن تحقيقها صعب، إن لم يكن مستحيلاً، لما تستلزم من مسبّقات غير متوافرة لدى البشر في غالب الأحيان. وقد تعرِف الليبرالية، حسب العروي، تطوّرات أخرى غير ما تمّ ذكره.

ويخلص العروي في موضوعه الليبرالية إلى أن العرب تعرفوا إلى ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة، وروح الثورة الفرنسية، وروح الردّة على الثورة، وروح النخبوية المعادية للديموقراطية. إنهم واجهوا منظومة مليئة بالعناصر المتناقضة، وكان من الصعب عليهم أن يتلقوها بعقل ناقد، كما نتلقاها نحن الآن بعدما مرّ قرن على فحصها وتشريحها.

العروي بين الجابري وأركون

للباحث والروائي الصديق د. عبد الإله بلقزيز رأي مقارناتي عميق في مسألة نقد العقل عند العروي وكل من المفكّرين الكبيرين: محمد عابد الجابري ومحمد أركون. فبعدما رأى أن ثمة دافعين اثنين وراء مقاربة العروي لمسألة العقل في الإسلام، وفي الثقافة العربية – الإسلامية هما: الاطمئنان المزمن في الوعي الإسلامي إلى التلازم بين الدين.. دين الفطرة والعقل، وملاحظة ظواهر الفجوة الكبيرة، بين خطاب يبجّل العقل والعقلانية، وواقع ينطق يومياً بالشواهد الدالة على التجافي بين السلوك الفردي والجماعي وبين العقل، ويقيم الدليل على خلو المجتمع والحياة العامة من أي مظهر من مظاهر العقلانية. والدافعان معاً تتأسس مشروعيتهما عنده على قاعدتين نظريتين مترابطتين: أولاهما أن العقل الذي تقصده فرضية التلازم بين الدين والعقل، لا يعني المعنى الذي يفيده مفهوم العقل في مظانّه الفلسفية الكلاسيكية، وفي استعماله الحديث في الفكر الإنساني، وثانيهما أن العقل والعقلانية ليسا مسألة نظرية صرفة تتقرّر بمدى تمتّع فكر ما من الاتّساق المنطقي والمنهجي، أو بمدى تمتّعه بقدرة ما على بناء منظومة من الأفكار والمعارف متماسكة، وإنما هما مسألة عملية في المقام الأول، تتعلق بمدى تجسد الفكرة في الواقع وصيرورتها من اقتناع إلى سلوك مادي. إنّ تمظهرهما في الأفعال والعلاقات والمؤسسات، أو غيابهما عن تلك، وحده المعيار الذي يقاس به حضور أو امتناع العقل والعقلانية.

وبعد أن يرى الصديق بلقزيز أن مقاربة تسلك هذا السبيل، وتنطلق من هذه المقدّمات، لا يمكنها إلاّ أن تندرج في نطاق مشروع معرفي هو نقد العقل. لكن نقد العروي لا يشبه كثيراً (حتى لا نقول لا يشبه في شيء) نقد محمد عابد الجابري أو نقد محمد أركون أو غيرهما من المفكرين العرب له. وليس سبب الاختلاف في أن مناهج هؤلاء الثلاثة متباينة، أي في أن عبدالله العروي، لا يأخذ بمنهج التحليل المعرفي – الإبستمولوجي الذي يتوسله الجابري، أو بمنهج التحليل الأركيولوجي التاريخي الذي يسلكه أركون؛ ولكنه، أيضاً، اختلاف في الإشكالية التي يصدر عنها كل واحد منهم. فالعروي معنيٌّ في المقام الأول ببيان محدودية العقل في الفكر العربي الإسلامي، الكلاسيكي والحديث، وتحليل الأسباب التي حالت دون صيرورة العقل النظري، عقل المطلق، إلى عقل عملي منتج (لا علاقة لمفهوم العقل العملي هنا بمعناه عند كانط في كتابه «نقد العقل العملي»، الذي يستعيره الجابري في نقده للعقل العربي) عقل الاسم -مثلما سمّاه- إلى عقل فعل، أي التي حالت دون تحول العقل من عقل يتعقّل ويعقل إلى عقل سلوكي، ثم من عقل إلى عقلانية. ولم تكن تلك محاولة الجابري أو أركون التفسيرية، ذلك أن هذه -على ما بين الباحثين من اختلاف في المنطلقات والمنهج- انصرفت إلى التفكير في«ماهيّة”العقل ونسبته الثقافية: عربي، إسلامي، ونظام المعرفة، الإبستيمي الحاكم له، ومكانته من ضمن النظام الإجمالي للثقافة العربية الإسلامية.

قد لا يكون ثمة شك في أن انشغال الجابري وأركون بسؤال العقل ليس انشغالاً بسؤال فكري أو معرفي في التراث الإسلامي، بمقدار ما إنه يبدأ من ملاحظة واقع حاضر وراهن، هو واقع فقر الثقافة العربية المعاصرة إلى العقلانية؛ فذلك، على الأقل، ما لم يكفّ الباحثان الكبيران على التشديد على كونه من منطلقات اهتمامهما المعرفي بمسألة العقل. غير أن ما ميّز تفكير العروي في المسألة، هو الحضور الكثيف لهاجس مشكلات اليوم في برنامج البحث لديه في المسألة عينها، وفي سواها من المسائل التي فكّر فيها وكَتَب. لا يكتفي العروي بملاحظة فقر الفكر العربي إلى العقل، وما في النتاج الفكري العربي من مفارقات، ومن عوامل حصر وامتناع، بل يزيد على ذلك بملاحظة ما بين الفكر والواقع من فجوات، وما في جوف ذلك الواقع من ظواهر في غاية التجافي مع منطق العقل والعقلانية، في الوقت عينه الذي لا يكفّ فيه عن المناداة بأن العقل فريضة واجبة، وأنه من مقتضيات الدين... إلخ.

العروي وجعيّط

على ما يبدو، فإنّ المُشترك بين المفكّر التونسي الكبير هشام جعيط وعبدالله العروي، أكبر بكثير من المشترك مع غيره ممن ذكرنا أسماءهم، وآخرين من أصوات مغاربيّة فكرية وازنة. والملاحظ أن وزن مفكّر راسخ مثل د. جعيط يتجاوز، في رأينا، حتى أسماء كبيرة مطروحة بقوة في مشهدنا الفكري والنقدي العربي العام. ولكن ماذا نفعل للإعلام ودوره هنا في التضوئة على البعض، والإحجام عن البعض الآخر، وإن كان الجهل سيّد الموقف في ذلك قبل أي أمر آخر؟! وفي كل الأحوال، لمسنا تحوّلاً لا بأس به في الإعلام الثقافي العربي، خصوصاً في المشرق، لمصلحة د. جعيط، على الأقل في

السنوات العشر الأخيرة.

وبالعودة إلى سياق موضوعنا حول المشترك بين العروي وجعيط، فإن الصديق بلقزيز يلفت في هذا المقام، إلى أن هشام جعيط، شأنه شأن عبدالله العروي، لم يكن مجرد مؤرخ، حتى لا نقول إنه أكبر من مؤرخ؛ فقد أطلّ الرجل على قضايا فكرية عديدة تنتمي إلى التاريخ الثقافي والسياسي العربي، الوسيط والمعاصر، ومسائل الهوية والمصير، وإلى نقد المعرفة الغربية، ومن ضمنها الاستشراق للإسلام، وإلى إشكاليات الحداثة والنهضة والتقدّم وجدلياتها مع الهوية. والأهم من ذلك، أنه أطلّ عليها -كما على قضايا التاريخ– بعدّة معرفية ومنهجية غنية ورصينة؛ فمن معرفة واسعة بالتاريخ الثقافي والسياسي العربي: الحديث والمعاصر، إلى معرفة بالتاريخ الثقافي الغربي الحديث، إلى اقتدار خلاّق على الانتقال من التاريخ السياسي إلى علم الأديان المقارن، إلى علم اجتماع الثقافة، إلى الفلسفة وتاريخ الأفكار إلى فلسفة الجمال.. وهو غنىً لا يضارعه فيه، في الفكر العربي المعاصر، سوى عبد الله العروي، وإن كان جعيط يعترف دوماً للعروي بالريادة والتميّز.

العروي وسلطة بلاده

ونستدرك فنقول، إن المفكرين في الغرب، ومن مختلف التيارات الأيديولوجية، بخاصة في فرنسا، كانوا، وما زالوا يحترمون عبدالله العروي، ويقدّرون فكره النقدي الاستناري الجريء. يكفي ما قاله فيه يوماً جاك بيرك: «عبدالله العروي حاجة، بل ضرورة للفكر العالمي الحديث برمته، وليس لبلاده أو ثقافته العربية فقط. إننا نقيس بأطروحاته صحّة أطروحاتنا من خطئها؛ ونقده لأطروحاتنا أقوى بكثير من نقد مفكرينا وفلاسفتنا لها». وربما لأجل ذلك، أي لخبرته في ثقافة أوروبا، وفكرها السياسي، كان ملك المغرب السابق الحسن الثاني اختاره للسفر إلى أوروبا لإقناع قادة اليسار الأوروبي بالكفّ عن حملتهم الإعلامية والسياسية ضد المغرب ومليكها. وبالفعل سافر العروي في العام 1991 إلى ستراسبورغ وقابل الكاتب جيل بيرو مؤلف كتاب: «صديقنا الملك»، الذي انتقد فيه بشدّة الملك الحسن الثاني، وقال له بالحرف الواحد (أي العروي): «نعم للتنديد بالظلم والأخطاء والجرائم، لكن لا للشتائم الموجّهة إلى الملك التي تجرح من دون فائدة شعور أغلبية المغاربة». وكان لكلام العروي هذا صداه عند الكاتب جيرو، حسب ما يذكر الأكاديمي الفرنسي من أصل لبناني، د. أدمون جوزيف عساف، الذي يعلّق على الموضوع من موقع المتداخل فيه بالقول: «رسالة العروي وصلت في العمق إلى الفرنسيين، سياسيين وناشرين، وتأثّروا إضمارياً بها».

من جانب آخر، يأخذ بعض العرب على مفكّرنا الكبير تقرّبه من المؤسسة الملكية الحاكمة في المغرب، ويجدون في ذلك تناقضاً بين ما يدعو إليه في أطروحاته الفكرية وبين ممارساته على أرض السياسة ووقائعها. وهذا الأمر في الحقيقة يعود إلى السبعينيات من القرن الفائت، وليس إلى مرحلة ما اصطلح عليه بـ«الربيع العربي»، كما يُردّد بعضهم هنا وهناك عربياً، خصوصاً بعد نظرته غير المشجعة لـ«حركة 20 فبراير» المغربية (الطبعة المغربية من حراك «الربيع العربي»)، حيث يقول في حديث إلى مجلة «زمان”الصادرة بالفرنسية والمختصّة بالتاريخ المغربي المعاصر: «إن حركة 20 فبراير أخطأت موعدها مع التاريخ، وعليها أن تعيد حساباتها تبعاً لذلك». ويشيد العروي لاحقاً باللجنة التي شكّلها القصر الملكي المغربي، وعملت على حلّ المشكلة قبل أن تتفاقم أكثر في الشارع المغربي، فتسيء بالتالي إلى الشعب والسلطة الملكية، واستطراداً، إلى التراب الوطني المغربي برمته. وقال إن ذلك «سيلفت المؤرخين في ما بعد، وسيتوقفون مطولاً عند نصّ الدستور الجديد للمغرب 2011، الذي أعدّته لجنة تابعة للقصر الملكي، وجاء كاستجابة لضغط الشارع».

ومن هنا وجد العروي أن المملكة هي عنوان الاستقرار وصمّام الأمان للمجتمع المغربي كله. وهي نفسها ضامنة للتغيير، ومتابعة مسيرة الحداثة المغربية، على الرغم من سائر التحديّات أو العقبات المواجِهة، وعلى رأسها القوى التقليدية المحافظة، تلك التي يستغل البعض منها العصب الديني ليوظّفه في التحريض السياسي وإثارة الفوضى والعنف في البلاد، تماماً كما حصل ويحصل الآن في دول «الربيع العربي»، التي تتناهبها الفوضى والتدمير الممنهج وكرنفالات الدم المؤسفة والمؤسية في آن.

ونحن نرى في موقف العروي هذا موقفاً تاريخياً شجاعاً وجريئاً، يُحسب له ولا يُحسب عليه البتة. فالمسألة ليست بتلك البساطة التي يختزلها بعض «المفكرين الثوريين”و«المثقفين العرب المتفيهقين»، الذين ترتفع أصواتهم هنا وهناك قائلين، مثلاً، بأن الرجل خان مبادئه، وطعن بأسئلته النهضوية، واستسلم لقوى الأمر الواقع وتجرّع السّم الزعاف، وسقط تاريخياً كقامة كانت ذات يوم علامة ومنارة للجميع.. وغير ذلك من كلام مرسل وتوصيفات لا طائل منها ولا قيمة مطلقاً، وهي إنما تكشف ضحالة أصحابها وتوتّرهم وتسرّعهم وتمسّكهم باستبّدادهم التنظيري إياه، وإلى حدود العَتَه والعمى الإرادي.
نعم، يحقّ للعروي، حامل المعرفة النقدية المحرّرة، أن يكون مع سلام شعبه وتماسك دولته؛ يحق له أن يحمي هذا السلام، ويصون تلكم الدولة الملكية ودستورها، خصوصاً في زمن هذه الحرب الإرهابية العالمية الأولى على مستوى البشرية، حرب اقتلاع العرب جميعاً من تاريخهم وحضارتهم وجغرافيتهم ورمزيتهم ومعناهم.. حرب تدمير الهوية وعسكرة الدين وصناعة تاريخ إرغامي ميت الروح والجسد.
هذا غيض من فيض د. عبد الله العروي ابن الـ83 عاماً، والذي يعيش عزلة غير منعزلة، يكتفي فيها بالتأمل الذاتي والنقدي المنتج لما حواليه في بلده والإقليم والعالم.. يقرأ الآخر في زمن هو الأكثر تيهاً وجهالة وتوحّشاً وعنفاً دموياً بالوكالة، يمارسه الجهاز الاستعماري إياه، خصوصاً على بلادنا وتاريخنا وجذور حضارتنا العربية الإسلامية برمتها. والقراءة المركزية المنتجة، تمثل بالنسبة إلى العروي حياته كلها، بل سعادته الغامرة؛ ولا غرو، فالسعادة في جزء حيوي منها، تأتي من القراءة النقدية، وهذه القراءة، في النتيجة، هي عنصر الديمومة.

عن/ (الاتحاد الثقافي) المغربية