الرفيق الدكتور غانم حمدون...  الغائب الحاضر في قلوب وعقول رفاقه ومحبيه

الرفيق الدكتور غانم حمدون... الغائب الحاضر في قلوب وعقول رفاقه ومحبيه

كاظم حبيب
تعرفت على غانم حمدون في العام 1947 حين كان يدرس في الجامعة الأمريكية ببيروت مع شقيقي مهدي حبيب، وكانا يدرسان اختصاصين مختلفين، وقليلاً ما كانا يلتقيان. كنت حينذاك في الصف الرابع الابتدائي. كنت التقيه حين كان يذهب ليمارس الرياضة في ملعب الجامعة ويحييني تحية الأخ الأكبر لأخيه الصغير.

وحين غادر شقيقي إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته، عدت أنا إلى العراق. لم التق به بعدها ببغداد أثناء عملنا الحزبي أو السياسي، إلا حين جاء إلى المانيا الديمقراطية للدراسة واختار فرع «اقتصاد العمل» في جامعة همبولدت، وحاز على درجة دكتوراه فلسفة PhD. كان حينها متزوجاً من السيدة سلوى الجلبي التي عاشت معه طيلة وجوده بألمانيا، ثم افترقا نهائياً.
التقينا مرة أخرى ببغداد حين كان عضواً في اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي، كما كنا، مع أخرين، أعضاء في هيئة تحرير الثقافة الجديدة، وكان يعمل محرراً وكاتباً في جريدة اتحاد الشعب. التقينا مرة أخرى في مدينة الجزائر عام 1979 حين أُجبرنا على مغادرة العراق في أواخر السبعينيات مع الهجوم البعثي ضد الشيوعيين والديمقراطيين. تعين الدكتور غانم في جامعة الجزائر وعمل مدرساً فيها لسنوات عديدة.
في عام 1987 زرت الجزائر قبل عودتي إلى حركة الأنصار بكردستان للمرة الثانية. زرت الهيئة الحزبية القيادية لتنظيم الحزب الشيوعي في الجزائر، وكان الرفيق غانم عضواً فيها والرفيق الدكتور عبد العزيز وطبان مسؤولها. بعد انتهاء الاجتماع طلب الرفيق غانم الانفراد بي. حدثني عن وضعه الصحي ومعاناته، وطلب مني أن أكون وكيلاً له بما يملك من مال وعقار ببغداد، ليكون المال والعقار بعد وفاته للحزب. كان الموقف في منتهى النبل وعبر عن حبه العميق للحزب ومبادئ الحزب التي اقتنع بها مبكراً، وكان الموقف محرجاً أيضاً. الموقف محرج لأن الرفيق ما يزال معافى عموماً وهو قادر على الاحتفاظ بأمواله، وبمقدوره أن يكتب وصية يمكن أن ينتقل وفقاً لها ما يملك إلى ملكية الحزب الشيوعي العراقي عند وفاته، كما إنها تعتبر مسؤولية غير مناسبة لي وأنا في طريقي إلى حركة الأنصار بإقليم كردستان، إذ أن من كان ينخرط في الحركة لا يعرف حقاً هل سيعود حياً أم سيستشهد في جبال وقرى وأرياف كردستان، كما استشهد الكثير والكثير جداُ من رفاق واصدقاء الحزب في الفترة الواقعة بين 1979-1989، أضافة إلى الكثير من المناضلين الكرد هناك من أعضاء البيشمركة. فقلت له عزيزي رفيق ثابت، (وكان هذا اسمه الحزبي منذ ولج بوابة الحزب الشيوعي العراقي حتى وفاته وكان ثابتاً على العهد الذي قطعه): أنت ما تزال بصحة مناسبة وأتمنى لك عمراً مديداً وصحة جيدة، كما يمكنك كتابة وصية تجددها كل عام إن شئت، ليتحول كل ما تملك لصالح الحزب في حالة الوفاة. ولهذا أرى ألا تتعجل الأمر، وأنت تتبرع سنوياً بخمسة رواتب شهرية من رواتبك السنوية للحزب، كما كان يفعل جميع رفاق الحزب في الجزائر (البقية كانوا يتبرعون بثلاثة رواتب في السنة) وهو مبلغ جيد ومناسب. بعد حوار قصير بيننا اقتنع بصواب الرأي الذي أبديته له. وقد عاش الرفيق غانم طوال ثلاثة عقود تقريباً بعد ذلك الحوار. وما بخل على الحزب بأمواله وجهده أبداً.
لقد تميز الرفيق غانم حمدون بامتلاكه ثقافة واسعة وروحاً علمية وعقلانية وتواضعاً جماً، وهنا يصدق من يقول: «كلما ازداد علم الإنسان ازداد تواضعه، وكلما قل علم الإنسان قل تواضعه!»، وعمل على وفق الحكمة المندائية التي تقول: «لا خير في عالم لا ينفتح على غيره، ولا خير في جاهل منغلق على نفسه». لقد كان الرفيق غانم من المثقفين العضويين الذين تحدث عنهم غرامشي، والذين وضعوا أنفسهم بالكامل في خدمة قضية الشعب العراقي والفكر الاشتراكي الإنساني، الذي اقتنع به وناضل من أجله والذي حمل رايته بالعراق الحزب الشيوعي العراقي. كان دؤوباً في عمله ولا يمكن أن يؤجل عمل اليوم إلى غد. برز هذا بوضوح في اداء مهماته الحزبية المتنوعة وفي عمله في تحرير الثقافة الجديدة ودأبه على كتابة المقالات وعلى تصحيح ما يرد للمجلة من مقالات ايضاً ولسنوات كثيرة، إضافة إلى علاقاته الاجتماعية الممتازة مع الآخرين.
لقد كان الرفيق غانم صريحاً وهادئاً في نقده، وكثيراً ما كان يوجه النقد لسياسة الحزب في عقد السبعينيات من القرن الماضي، حين كان يعمل في لجنة المثقفين أو في اللجنة الاقتصادية المركزية للحزب (لقم)، ولكنه كان في الوقت ذاته صبوراً وملتزماً بشدة بما يقرره الحزب من سياسات ومواقف عبر اللجنة المركزية أو مكتبها السياسي.
من المحزن حقاً أن يموت رفيقنا العزيز غانم في المنفى بعيداً عن الوطن الذي أحبه وناضل من أجل تقدم شعبه، وأن يكون موته في فترة مظلمة من تاريخ العراق المستباح والجريح منذ عام 1963، وحيث يسود اليوم الحكم الطائفي المقيت والمحاصصة المذلة للهوية الوطنية، هوية المواطنة الحرة والمتساوية، وأن تسود الهويات الفرعية القاتلة، وأن يرى مدينة الموصل، مدينته العزيزة، تحت حكم الأوباش الدواعش الذين مرغوا كرامة مواطنيها من النساء والرجال بالتراب وقتلوا عشرات الآلاف من الناس الأبرياء من إيزيديين ومسيحيين وشبك وتركمان وكرد وعرب ومسلمين، دون أن يحاكم أولئك الذين تسببوا بهذه الكوارث المرعبة بحق شعبنا العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفلسفية والفكرية، بل يراهم ما زالوا يهيمنون على الحكم ويأتمر الكثير منهم بأوامر أسيادهم في دول الجوار.
مات الصديق والرفيق غانم في الغربة، ولكن كان حوله من الرفاق والأصدقاء ما خفف من حجم الصدمة بموته، رغم معرفتنا جميعاً بأوضاعه الصحية الصعبة في السنوات الأخيرة من عيشه بلندن. فالذكر الطيب لغانم حمدون والعزاء لكل رفاق دربه ومحبيه وأصدقاءه الكثر. لقد مات غانم، ولكن الفكر الذي ناضل من أجله ما زال وسيبقى يعيش في سماء العراق والعالم.