سحر الأوتار في موسيقى العود والغيتار

سحر الأوتار في موسيقى العود والغيتار

علي الشوك
قبل عامين كنت في زيارة شقيقتي المقيمة في مانهايم في ألمانيا. وشاهدت عندها برنامجاً تلفزيونياً عرض في إحدى الفضائيات العربية. كان البرنامج عن لقاء بين عازف العود العراقي اللامع نصير شمة، والمغنية السورية أصالة نصري، والمغني العراقي إلهام المدفعي، وأظن أن مغنية أخرى كانت حاضرة أيضاً. كان البرنامج يشتمل على أحاديث وموسيقى وغناء،

شدني إليه، وأثار فضولي. من بين وقائع البرنامج لفت اهتمامي حديث نصير شمة عن آلة الغيتار. ومما استطعت أن أفهمه (لأن أذنيّ تخذلني دائماً)، أن السيد نصير تحدث عن أصل صناعة الغيتار. أذكر أنه قال - والعهدة على سمعي الضعيف - إن أحد الخلفاء الأندلسيين طلب من أحد الموسيقيين الأندلسيين أن يصنع له آلة موسيقية مخصّرة من جانبيها كالمرأة، ولها عنق رشيق كالمرأة أيضاً. فصنع له هذا الموسيقي آلة الغيتار.

لا شك في أن هذه من الحكايات المسلية التي قد تتداولها كتب التراث. وأنا سأتطرق بعد قليل إلى الحقيقة التأريخية عن صنع الغيتار. لكنني قبل ذلك أود أن أقارن بين الغيتار والعود. الفرق بين العود والغيتار يظهر في جملة أشياء، منها الاختلاف بين جسم العود وجسم الغيتار. جسم العود، كما هو معلوم، كروي على شاكلة الكمثرى. أما الغيتار فجسمها مسطح وفيه تخصّر من الجانبين (هذا يأتي مع الحكاية الأندلسية). وعنق العود ليس معتباً، أي بلا خطوط على رقبته. أما رقبة الغيتار فمعتبة بخطوط تساعد العازف في استعمال أصابع يده اليسرى. وهناك فرق آخر مهم بين الآلتين، هو أن العزف على العود يتم باستعمال المضراب أو الريشة. أما الغيتار فيعزف على أوتارها بالأصابع مباشرة.
أيهما أعذب صوتاً؟ لا أستطيع البت في هذا الموضوع. ثم إن الغيتار أصبح يعزف عليها في موسيقى البوب والروك، ويُضاعف صوتها كهربائياً. لكننا سنتناول المقارنة بينها وبين العود في إطار الموسيقى الكلاسيكية. أنا كنت أجد صوت الغيتار أعذب من صوت العود (هناك بحة في صوت العود، أو لا أدري). لكنني حين استمعت إلى معزوفات الشريف محيي الدين حيدر على العود تغير رأيي. هنا، أصبح العود أكثر ديناميكية وحياة. وتعزز هذا الانطباع مع عزف منير بشير، وسلمان شكر، ونصير شمة الذي جعل العود أكثر ديناميكية. (لا أريد أن أنسى عازفين بارعين آخرين على العود، من بينهم سالم عبدالكريم). نعتز بعزف هؤلاء العازفين الممتازين على العود، ولا نشعر بأن الغيتار همّشت العود، حتى في ميدان موسيقى البوب التي ربحت جماهير المستمعين في الغرب. وعلى ذكر موسيقى البوب، أحب أن أشير إلى المكانة التي شغلتها الغيتار في نفوس مستمعي هذه الموسيقى بعد الأداء المذهل لبعض عازفيها، مثل جيمي هندريكس الذي قيل عنه إنه أعظم عازف على الغيتار في كل الأزمنة. وأنا استمعت إلى عزفه عبر التلفزيون في برنامج مسجل مكرس لعزفه وغنائه. كان شيئاً ساحراً. كان يتفنن في عزفه الجنوني على الغيتار على نحو مذهل. لكنني أبقى متعلقاً بالغيتار الكلاسيكية في نكهتها الإسبانية المتميزة، مثل عزف فرناندو سور، وأندريه سيغوفيا، وجون وليامز، وجوليان بريمز، وآخرين. وأنا احتفظ بتسجيل نادر نقلته من راديو BBC قبل سنوات لموسيقى الغيتار لأوغستين باريوس، وميكي ثيودوراكس، وكاريو دومنيكوني، عزف جون وليامز. وسأعود إلى الحديث عن هذا التسجيل.
وكانت تربطني علاقة طيبة بالفنان الراحل سلمان شكر منذ خمسينات القرن الماضي. وهو الذي عرفني بموسيقى أستاذه الموسيقي اللامع الشريف محيي الدين حيدر (من العائلة المالكة العراقية). وسُجلت لهذا الموسيقي الكبير معزوفاته: «كابريس»، و «ليت لي جناحاً»، و «الطفل الراكض»، وهي أداء سلمان شكر، وكانت فتحاً موسيقياً على العود ولا تزال. والشريف محيي الدين حيدر هو مبتكر الأداء الحديث العالي في تقنيته، حيث يستعمل الريشة في الضرب على الوتر [الوترين] نزولاً وصعوداً في آن واحد. ثم نهج على هذه الطريقة تلاميذه منير وجميل بشير، وسلمان شكر، وفيما بعد نصير شمة، والآخرون. هنا، يذكرنا هذا العزف بموسيقى باغانيني وفرانز لست. وأنا أعتقد أن الموسيقى (العربية)، أو موسيقى العود على وجه الخصوص، أصبحت فناً محترماً منذ تقنيات الشريف محيي الدين حيدر. وهذا يذكرني بمقولة سارتر في حوار سيمون دي بوفوار معه: «التقنية نظام ميتافيزيقي». وسأقول من دون مجازفة إن مقطوعات الشريف محيي الدين حيدر الثلاث، المشار إليها أعلاه، تبقى أروع ما سمعته من موسيقى على العود. وأنا أدعو القرّاء إلى سماعها، ربما بواسطة اليوتيوب، لكن ليس أداء الشريف نفسه، فقد سجلها في أخريات أيامه، بل أداء سلمان شكر إذا توافر. (أنا أحتفظ بأداء سلمان على شريط خاص بي).
وأعتز أيضاً بعزف سلمان شكر مقطوعات من تأليفه. كما أعتز بعزف لمنير بشير، وعزف لنصير شمة. إن موسيقى نصير شمة تتميز بتقنية عالية في العزف. وأنا لم أسمع لعازفين آخرين، لذلك أرجو ألا أكون قد غمطتهم حقهم. لكنني سأشير إلى عالمية منير بشير التي قرأت عنها - إشارة إليها - في كتاب ألماني مترجم إلى الإنكليزية، نعته المؤلف بالأسطوري منير بشير. وأنا سأتوقف قليلاً عند تسجيل لموسيقى منير بشير أرسله إليّ صديق قبل سنوات عدة، لا أزال أعتّز به، وأسمعه بخشوع. هذا التسجيل ينتهي بصوت سوبرانو وأصوات أجراس كنسية جميلة، أنا أعتبره من بين أفضل ما أبدعه منير بشير. وأنا حضرت مرة عزفاً له في أواسط التسعينات في بودابست، في صالة فرانز لست. ومنير ذو فيزيونومية تملأ العين. وهو يحيط نفسه بشيء من الطقوسية. فتجده يضع عوداً آخر قربه للاستبدال، ويعزف بكل أبهة. وقد قوبل عزفه بتصفيق حاد.
بعد ذلك، أعود إلى موسيقى الغيتار التي سجلتها قبل سنوات لأوغستين باريّوس، وميكي ثيو دوراكس (مؤلف موسيقى زوربا على ما أظن)، وكاريو دومنيكوني، عزف جون وليامز. استمعت إليها الآن مرتين. وقد تخللها كلام كثير لم تلتقطه أذناي المعطوبتان للأسف. لكنني التقطت التصفيق وكان طويلاً. هنا، استمعت إلى عزف غيتار كلاسيكي مذهل، كان تقنياً في قسميه الأولين، ودغدغة للقلب في قسمه الأخير.
ثم انتقلت إلى سماع عزف الغيتار في دنيا الروك آندرول، فاستمعت إلى جيمي هندريكس، مع أن هذه الموسيقى كانت آخر ما يمكن أن يرد على بالي. لكنني استمعت إلى هذا العازف المجنون على الغيتار بكل إعجاب وانشداد. كانت براعته في العزف شيئاً مذهلاً. ومن أسف أنه مات عن عمرٍ يناهز السابعة والعشرين بعد تناول جرعات مضاعفة من مسكن الباربيتوريت. لقد اعتبر أعظم عازف غيتار في كل الأزمنة.
أنتقل الآن إلى أصل كل من العود والغيتار. كان يعتقد أن العود آلة من صنع سكنة الجبال في قفقاسيا وشمال العراق. وكان صاحب هذا الرأي شتاودر. وهو رفض رأي كورت زاكس الذي جعل أصل العود يرجع إلى الحثيين في آسيا الصغرى. واستند شتاودر إلى مصدر آثاري يرجع إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. لكن الدكتور صبحي أنور رشيد من العراق أثبت بطلان هذا الرأي بالاستناد إلى مصدر آثاري أقدم هو عبارة عن ختمين أسطوانيين آكديين يعودان إلى المرحلة (2350 - 2170 ق. م.) كان قد نشرهما فان بورن لأول مرة في 1933. هكذا، يبدو أن أصل العود كان في العراق. وكان يعتقد أن كلمة (العود) العربية هي أصل اسم العود من (عود) الخشبة. وهذا هو رأي حتى بعض الدارسين الأجانب. لكنني اكتشفت في دراسة فقدت مصدرها، أن أصل كلمة العود سومري، هو gudi، وقد عرّبها العرب إلى (العود).
وقبل أن أنتقل إلى تأريخ آلة الغيتار، أحب أن أتطرق إلى آلة البزق التي يمكن اعتبارها من أسرة العود والماندولين. والبزق كلمة تركية تعني «منكسر»، أو «بتصرف». وهذه الآلة تدعى باليونانية بوزوكي bousouki، وقد انتقلت إلى اليونان من آسيا الصغرى في أوائل القرن العشرين. وجسم البزق أصغر من جسم العود وله رقبة طويلة، وصوته ذو جرس معدني. وأنا ألمس هذا في الموسيقى اليونانية. لكن صوت البزق الذي كان يعزف عليه «أمير”البزق السوري محمد عبدالكريم كان يبدو لي أقل معدنية، وأقرب إلى صوت العود. وأنا أعترف بأنني كنت أجد لذة كبيرة عندما كنت أستمع إلى عزف محمد عبدالكريم من إذاعة الشرق الأدنى قبل سنوات.
وكنت أود أن أتطرق أيضاً إلى آلة السيتار الهندية الشهيرة التي تعتبر من أسرة العود (والغيتار)، لكنني سأشير إليها عند الحديث عن الغيتار. والحق أن العود، والغيتار، والسيتار، هي أهم الآلات الوترية ذات الصندوق، التي يمكن اعتبارها بنات عم، لأنني أحذر من اعتبارها من أسرة العود.
الغيتار نعتت في الإنترنت بأنها آلة قديمة ونبيلة. وأنا أعتقد أن هذا ينسحب على العود طبعاً، والسيتار. لكن العود أقدم من الغيتار، رغم أنه لا يعتبر جدها. الغيتار ظهرت وتطورت بصورة مستقلة عن العود. وينبغي ألّا نقع في وهْمِ الربط بين كلمة guitarra الإسبانية التي تقال للغيتار، وكلمة kithara اليونانية التي تقال للقيثارة ذات القاعدة المربعة الإطار. ويحسن بنا هنا أن نشير إلى آلة الطنبور المعروفة في كل بلدان الشرق الأوسط منذ القديم، والتي تتخذ اسم الساز بالتركية، وتامبوريتسا في البلقان، وسيتار setar بالفارسية، و panchtar بالأفغانية، وبوزوكي باليونانية. والطنبور هو آلة وترية ذات عنق طويل مع جسم صغير بيضوي أو كمثري الشكل. لكن الغيتار تختلف عن هذه الآلات كلها، وعن العود أيضاً، لا سيما في جسمها المسطح المخصّر من الجانبين. فالغيتار لها رقبة طويلة ومعتبة بخطوط، وصندوق صوتي مسطح، وخاصرتان، وظهر مسطح أيضاً. إن أقدم نموذج لها تجتمع فيه كل هذه المواصفات يظهر في منحوتة حجرية من آلاتشا هيوك في جنوب تركيا يرقى إلى 3300 سنة خلت من المرحلة الحثية.
أما الاسم guitar فمشتق من اللغة السنسكريتية التي تقال للوتر «tar». إن معظم الآلات الوترية من آسيا الوسطى وشمال الهند تنتهي أسماؤها بهذا المقطع tar. ففي تركستان آلة تدعى الـdotar أي ذات الوترين؛ وفي إيران السيتار الـsetar (ثلاثة أوتار)؛ وأيضاً الـchartar (أربعة أوتار) في إيران أيضاً. والظاهر أن اسم الغيتار الإسباني guitar وفي الإسبانية القديمة guitarra جاء من هذا الأسم الفارسي. أما السيتار sitar الهندية، فلا بد من أنها من الفارسية setar.
زبدة القول إن الجذور الأولى للغيتار تعود إلى مصر ووادي الرافدين. واسمها (رباعية الوتر) من chartar الفارسية. ثم اتخذت هذه الآلة شكلها النهائي الحديث في بداية القرن التاسع عشر. أما الغيتار الكهربائي فقد عرفت منذ أواخر عشرينات القرن العشرين. ومع استعمال تكبير الصوت أصبح بالإمكان الاستغناء عن الصندوق الصوتي.
في سياق كتابتي هذه الكلمة استمعت إلى موسيقى على العود للشريف محيي الدين حيدر، سلمان شكر، منير بشير ونصير شمة. وكان في ودي أن أستمع إلى موسيقيين وعازفين آخرين، لكن نماذج من موسيقاهم لا تتوافر لديّ. وكما قلت أذهلتني مقطوعات الشريف محيي الدين. وأعجبني منير بشير في مقطوعاته التي سجلها في بودابست. كانت عملاً كلاسيكياً. كما أعجبتني مقطوعات (رحيل القمر) لنصير شمة التي سجلها في السويد في 1994. وأعجبني كثيراً عزف جون وليامز الذي أشرت إليه آنفاً على الغيتار. واستمعت أيضاً إلى هندريكس المدهش وإلى موسيقى السيتار الهندية، وكذلك موسيقى السارود (الهندية أيضاً). وأذهلتني كونشرتو السيتار لرافي شانكار، عزف ابنته آنوشكا على السيتار.

ج. الحياة 12 كانون الاول 2014