الذين ورثوا سليمان نجيب!

الذين ورثوا سليمان نجيب!

كل الذي قالوه عن سليمان نجيب ليس فيه المبالغة والخيال. ومع ذلك لم ينصفوه لان الحقيقة اكبر بكثير مما وصفوا وصوروا..
ان إنسانيته لم يكن لها حدود، وقلبه كان في اتساع المحيط.. لقد اخذ بيد الناس جميعا ودعاهم ليدخلوا قلبه وحياته وبيته.. والنفس الصافية الكبيرة وسعت ثلاثة ترك لهم سليمان نجيب كل شيء.. ثيابه وسيارته ومطبخه وبيته.. ولو علم انهم من هواة القراءة لترك لهم مكتبته الرائعة..

لم يترك لشقيقه ولا لأسرته شيئاً، ولكنه ترك لأصدقائه الثلاثة: الشاذلي وحسن ويوسف، كل بيته، تماما كما كان يتركه لهم عند سفره الى أوروبا، غير انه في هذه المرة لن يعود..
كل الذي كتبوه عن سليمان نجيب لم يصور حقيقته كما ينبغي.. لان قصة حياته أروع بكثير من كل ما عرفه الناس.
قصة سليمان نجيب مع خادمه وسائقه وطباخه تمثيلية رائعة.. وكل تمثيلياته رائعة.. ولكن هذه اروع ما اخرجه وقدمه سليمان نجيب بعد وفاته..
في حياته قدم للناس ألوانا رائعة، وبعد وفاته يقدم أروع تمثيلية للوفاء والإخلاص والإنسانية.. "سليمان نجيب مع خادمه وطباخه وسائقه".
الشاذلي محمد، خادم سليمان نجيب الخاص منذ 25 عاما، وأولاده الثلاثة محمد ومحمود وعباس.. ولدوا في بيت سليمان نجيب، وهو الذي رباهم وأدخلهم المدارس، حتى لقد وصل احدهم الى التفافة، والثاني الى الإعدادية، ولايزال الثالث في الروضة، وفي حياتهم كلها لم يشتر الشاذلي لواحد منهم سوى قميص واحد بسبعين قرشا، وكان سليمان نجيب في اوروبا، وعندما رجع علم بالخبر فصرخ في وجه الشاذلي وقال له "ليه.. هو أنا مت".
الدكتوران مورو وصبحي شخصيا!!
وقبل وفاته بشهر كان سائقه حسن يعرج فسأله: مالك يواد؟ فاجابه "بان رجله تسلخت عند ركوبه موتوسيكل في يوم الاجازة".
واسرع سليمان نجيب بسيارته الى مستشفى مورو، وترك سائقه هناك ليعالج!! مع انه يسكن في شارع قصر العيني!! وقبل وفاته باسبوع اصيبت عين محمود، ابن الشاذلي، باحمرار، ورآه سليمان نجيب فذهب به الى الدكتور صبحي طبيب العيون العالي، واحضر له الدواء بنفسه!
وكان الشاذلي واولاده والطباخ يوسف والسائق حسن، كلهم يحملون مفاتيح لشقة سليمان نجيب، الا هو فقد كان يستعير المفتاح منهم اذا أحس بانه سيتأخر حتى لا يزعج أحدا منهم!
ويصرخ محمود وهو يروي قصص من إنسانية سليمان نجيب فيقول: كان له فوتيل مفضل بجوار المكتبة.. ويجلس عليه ليطالع الصحف والمجلات والتمثيليات العالمية، وفي ذات ليلة عاد متأخرا فوجد محمود جالسا على الفوتيل، وقد ذهب للنوم وفي يده مجله والراديو مفتوح بجواره، فأيقظه وضحك وقال له: "والله ابن عز.. وباين عليك ابن أصل".
ويقول الشاذلي في صوت مبحوح حزين: تصوروا ان البيه كان يرجع البيت قبل حضوري، وكنت انا اسهر في القهوة العب الدومينو، وعندما ارجع اجده جالسا يطالع الصحف، وينظر الى ويبتسم قائلا لي: "الشاذلي بيه وصل.. سعادتك فليت الصعايدة اللي في القهوة والا ضحكت الناس علينا..!".
وفي احدى المرات اعددنا طعاما للعشاء ووضعناه في الفريجيدير وجاء اولادي فاكلوا كل ما يوجد من طعام، وعندما حضر هو من الخارج قال: حضروا الأكل، وذهبت فلم اجد شيئاً..
وخفت ان اخبره بالامر، ولكنه فهم وصرخ يقول: "بالهنا والشفا ياولاد الشاذلي! ".

سايبلك البيت
وعندما كان يغضب من الشاذلي او احد من اولاده يرتدي ثيابه بسرعة ويغادر المنزل ويقول وهو يغلق الباب بعنف: انا سايبلكم البيت عشان تستريحوا وفي الليل يرجع وهو يضحك ويقول: انا رجعت تاني.. ادخل والا امشي!
وذات مرة تشاجر مع الشاذلي في حضور الأستاذ حسني نجيب، وانضم الأستاذ حسني الى الشاذلي ووقف خارج الغرفة، يداعبه ويقول: "بقى الشاذلي يتغمز بعينك وتشاور على راسك، يعني سليمان "بيه" مجنون!.
وازدادت ثورته وجعل يسب ويلعن، وتكررت هذه القفشة من حسني "بيه" وهو في كل مرة يزداد ثورة، وأخيرا فهم المداعبة، وقال: "بقى بتعملوا علي الاعيب.. انا سايب البيت لكم يا غجر" ونزل غاضبا..
وكثيرا ما كان يحضر لزيارة الشاذلي ويوسف الطباخ كثيرون من ابناء بلدهما، فيفتح لهم الباب بنفسه ويقول تفضلوا ويقابلهم باحترام شديد.. وينادي علينا ويطالبنا باكرامهم حتى " لايفضحونا ويشتموا علينا ويقولوا سليمان نجيب شحات..".

مسجد القرشية
وكان يعطي سائقه بعض قمصانه الحريرية الفاخرة وعندما يسأله فين القمصان الي اخذتها يقول السائق: اصلها حرير والدنيا شتا، فيضحك سليمان نجيب ويقول: اما حمار يا واد البس.. يعني بتفهم! ".
وذات يوم سمع مناقشة دائرة في المطبخ بين الشاذلي وبعض بلدياته، وفهم انهم يبنون في بلدتهم مسجد القرشية، فتدخل هو وذهب الى وزارة الأوقاف، ولم يرجع الا بعد ان حصل على أمانة قدرها 368 جنيها، وإعانة أخرى دائمة الانفاق على المسجد قدرها 30 جنيها، ودفع مبلغا من جيبه.

دادة والست الكبيرة
وحدث عندما توفيت "الدادة" التي كانت تربي سليمان نجيب واخاه حسني انهم اخفوا الخبر عنه، ولكن حدثت مشادة بين عائلة الدادة وعائلة سليمان نجيب عندما رفضوا ان تدفن في نفس مقبرة الست الكبيرة، (والدة سليمان نجيب) واتصل اولادها بسليمان فحزن جدا عندما علم بالخبر، وامر بدفنها مع والدته وقال: "هو كمان فيه تقاليد في الموت، بيه وباشا حتى في المقبرة، عجايب على الناس دول.. كلها نومة واحدة".
والذين حضروا لعزاء سليمان نجيب دهشوا عندما شاهدوا طفلا اسمر يكاد يقتل نفسه من البكاء.. ان اسمه يوسف ابن البواب.. لقد كان يفتح الاسانير لسليمان نجيب ويتمتع بعطفه وهداياه..
ان هؤلاء الثلاثة، هم ورثة سليمان نجيب الذين ترك لهم كل ما عنده، ولم يترك خلفه ثروة، لانه كان يؤمن بالمثل "اصرف ما في الجيب يأتيك مافي الغيب" وفي يوم وفاته كان يطالع مجلة فنية، فوجد مقالا طريفا عنوانه "ما حدش واخذ منها حاجة" وضحك بصوت مرتفع وقال: يا شاذلي اسمع: "ما حدش واخذ منها حاجة! ".

آخر ساعة/ شـــباط - 1955