بهجة الأفاعي  وحزن الكتابة

بهجة الأفاعي وحزن الكتابة

يحيى الشيخ

في بادرة جميلة تحدوها روح المسؤولية الثقافية، تناول الشاعر أمير ناصر روايتي”بهجة الأفاعي”في مقالة بعنوان: (الفحولة المقدسة) نشرتها صحيفة”المدى”ضمن ملحقها”أوراق”ليوم السبت الرابع من شباط 2017، نشرتُها بدوري على صفحتي على”الفيس بوك".

أعرب له عن امتناني وتقديري الكبير لاهتمامه بالرواية، وأنه اخرجني من كسلي لاقف وجها لوجه مع عملي هذا لأول مرة، وأدلو بدلوي، كما يقولون، وأنا احمل أعباء مسؤوليتي الأدبية والأخلاقية إزاء الكتابة، التي لم أخفِ فيها نزعة تجريبية غلبت على نتاجي كله.

هنا لابد لي أن اكشف عن ازدرائي للكثير من صيغ الكتابة السائدة. إن كنت منصفاً في هذا أو غير منصفٍ، فأنا اقترفت هذا عن قصد قد يبدو أخرق. فكتابي، أو روايتي، كما تسمى، هي انتهاك لعرف سائد. انها جنس غريب كبطلها، مولودة من تزاوج قسري، اغتصاب شيطاني، جاء من خارج السياق. شخّص غيري (برهان شاوي، محمد عيد إبراهيم، عواد ناصر، ايمان البستاني) غرابة جنسها وخرافة موضوعها واستحواذ التجريب على بنائها. هذا لا يمنحها الحصانة من النأي عن كفة ميزان التقييم، بل يجبرها دون غيرها.
استُهلت الرواية بتحديد مكانين: الأول مكان أبطال الرواية (العانس وابنها) المعزول في طرف بلدة، في قصر منيف،”وسط بستان كبير، على ضفة خاصرة نهر يلف حوله مثل افعوان جبار، خلف سياح عالٍ متوج بشظايا الزجاج"... إذن! هي عزلة خطيرة وجارحة، وحالة حصار، فكل من عاش في هذا القصر؛ ولد وعاش ومات ودفن فيه. ومكان ثانٍ يشكل بعداً اجتماعيا للأول، وهو بمثابة بلدة بأسواقها، ومقاهيها، وشوارعها وحركة مرورها، ومستشفى، ومسرح، وملعب بلدي، وحدائق عامة ومتنزهات، يقطنها شعب كبير يزحف زرافات إلى مناسبات وحفلات وطقوس جماعية. وتبدو في بنيتها انها بلدة عصرية الطراز.
العلاقة الجغرافية بين المكانين قيست باحتدام الصراع بينهما: في المكان الأول شابة خارقة الجمال، رفضت رجال البلدة، بمعنى آخر رفضت نظامها وتاريخها ومستقبلها، فسميت بالعانس نكاية بها، وابنها”الفحل ذو الرأسين”الذي عزل نفسه في صومعته في القصر بحكم وضعه الخلقي الخاص، وفي المكان الثاني رجال عقيمين هيمنت عليهم فكرة خرافية عن المرأة ونسجوا بشأنها حكايات لم تنته حتى موتها، وعن ابنها، بفعل قوته الخارقة التي اجتاحت حياتهم واسرّتهم الزوجية، وهو غائب عن العلاقة بحياتهم. العلاقة بين المكانين هي علاقة ما بين سجن في طرف مدينة تقطنه امرأة وابنها”الفحل”الذي يحمل قدرات خرافية، وما بين مدينة يقطنها شعب حر، إنما عقيم... ما بين قوة حقيقة، حية، فعالة، وخصبة تعيش وتمارس حياتها سراً خلف سور عال يجسدها”الفحل"، وبين جدب وعقم وبلادة حياة تتفشى وتكشف دونيتها في المدينة. في الواقع وعلى الأرض، هناك قطبان متنافران يتمدد بينهما فعل تاريخي واحد لا غير هو الرغبة الطبيعية في الحياة: التكاثر. فزحفت النساء مسحورات بقوة”الفحل”الخارقة وسحره يطلبن شفاعته. جئن اليه بأرحام يابسة، خالية، وخرجن مخصّبات بأجنة مباركة، ليلدن في أحضان أزواجهن العقيمين. بين المكانين امتداد خفي، سري، بيولوجي غير معلن إلا تأويلا، ورمزاً، لكنه أمسى واقعاً فعالاً وحيوياً. أمسى رحماً لصراع الأضداد.
استبطنت الرواية شريانين رئيسيين: واحد للدم النقي والآخر للدم الفاسد، الاول يحمل الحياة بخصبها وعنفوانها محمولاً عبر شخصية الأم /"العانس”وابنها”الفحل"، والثاني حملته جمهرة غوغاء، عقيمة، مهمتها صناعة الضغينة والتاريخ الرث. يتسرب هذان الشريانان عبر انسجة ربطتهما في علاقة مصيرية مأساوية مرعبة، تشكلت من ذرية”الفحل”التي مارست نشاطها بعبث شديد القوة وخرّبت الحياة، وحوّلتها إلى كابوس انتهى بجريمة جماعية يرتكبها الرجال العقيمون بحق”الفحل"، الذي أكتشف جسامة ما اقترفته اهواؤه، فقرر بعد ان انتهت مهمته (الاخصاب) التكفير عن فعلته والاستسلام لهم والخروج رافع الرأس عاري الصدر لينال منهم الرجم.
حمل هذا النسيج”ذرية الفحل”بأمانة ونقاء، فكرة العمل التي ولدت مع ولادة بطلها ذي الرأسين، فكرة جاءت تسبح في كيس الجارة، وهي: أن الحياة لا تزكي الثوابت مهما طال امدها، حتى لو كان فكرة عظيمة، كالدين مثلا والأخلاق والأعراف، إن لم ينسجم ونظام الحياة، أو لا ينسجم مع الطبيعة. هنا لعب ذرية الفحل، (أبناء الحرام) لعبتهم في خلخلة الحياة وهدّها وإعادة ترتيبها كما يشاؤون. فاختلطوا ببعضهم كونهم متشابهون تماماً، ولم يعد الوالدان يعرفان من ابنهم الحقيقي. فاختلط الحابل بالنابل.
قام بناء الرواية على خبر صغير وهمي، تعاظم واتسع وتحول إلى تاريخ حقيقي يُعتد به. فالمرأة التي رفضت نظام البلدة وعقم رجالها انجبت من رجل غريب يمتهن التجارة والسحر، ولداً غريب الشكل والطباع أثار منذ الساعات الأولى حساسية الحياة، وكان أول وليد في البلدة بعد عقود من العقم. كانت صرخته الأولى إيذانا لحياة جديدة، خرافية وغريبة مثله.
لم يكن للحوار ضرورة أكثر مما جاء على لسان الفحل مع نفسه مرة واحدة، ومع امه مرتين، وحوارات قصيرة مبثوثة هنا وهناك، متقطعة ما بين الناس، أخرها كان حلم رجل عن سلحفاة تلد من فمها وهي تبصق أفراخها، فيغرق المكان بالفراخ وبلعاب اسود، فيهرب الناس. كان هذا الحوار آخر ما وصلت إليه الرواية من كشف لخراب العالم.
"بهجة الأفاعي”حكاية عن خراب الحياة، اقترفه الجميع بصمت وتواطؤ.
كشفت الرواية أعماق”الفحل”خفاياه، اهوائه، جماليات حياته وعلاقته مع المحيط، فنه/طلاسمه التي سحر به العالم وهيمن عليه، وأعرب في حياته السرية عن كل قدراته الروحية والجسدية، وعذاباته وتناقضاته وجمال روحه وتوقها للسمو. غموض واحد كان عصيا عليه: هو غموض الأخرين الذين استساغوا فعلته وهو يلقح نساءهم فيما يباركون هم الولادات ويقومون بحضانة الابناء بسعادة كونهم أباء حقيقين. رجال متواطئون مع أنفسهم ومع بعضهم ومع النظام الاجتماعي السائد، تبنوا فعلا تاريخيا مشينا واعترفوا به وقنونه، فعل ينتهي بفعل مشين: القتل للتخلص منه، والتخلص من آثامهم وخطيئتهم بارتكاب خطيئة أخرى.
عبر الرواية، فيما كان الرجال يعانون من عذاباتهم بصمت واستسلام، ويعضون ألسنتهم بحفلات جماعية، كان”الفحل”يعاني من صراعاته الداخلية، يهذي، ويخلق لغته الخاصة، فهو ولد ذو وجهين، ذو لسانين، فاختلق الطلاسم: لغته المرئية. في متنها ليس أدعية وتعاويذ، وأسماء مخلوقات خرافية، بل أفكاره هو وتخيلاته وعقله وخرافاته وتخريفه. الطلاسم التي ابتدعها هي حواراته مع الآخرين، وموقفه الصريح منهم.
الأمر الآخر لا يتعلق بالرواية، ولا بي شخصياً، أنما يتعلق ب”كافكا”. فكلما تحدث أحدهم عن مسخ، وهو أول ما فعلته الآلهة بنا منذ الخليقة، قبل كافكا، وقبل ألف ليلة وليلة، وقبل السرياليين وغيرهم، يذهب النقاد إلى”كافكا”وكأنه أول من ابتدع مسخ الكائنات. يذهبون إلى كافكا المسكين سواء كان المسخ بطلا، مثل كلكامش، او وحشاً مثل”الأميرة والوحش"...
مسخ”كافكا”كائن أوربي مأزوم، مضطهد، مسحوق، معزول، ويموت بفعل هذه العزلة. أما”الفحل”كائن اسطوري جبار، إله خصب ونماء، وعى أزمته وازمة الوجود، فاخترق كل الأعراف واقترف حياته بإرادته، التي أدرك أخيرا عبثها فسلم نفسه وقرر نهايته. هذا لم يفعله مسخ كافكا.