ماكس مالاوان يروي ذكرياته عن مس بيل

ماكس مالاوان يروي ذكرياته عن مس بيل

كان ماكس مالاوان مستقلا قطار الشرق السريع في أوروبا إلى سورية، مروراً بتركيا، وفي مقطورة الطعام كان جالسا مع ثلاثة مسافرين أوروبيين أيضاً، اتضح أن احدهم هو عالم الآثار الفرنسي الشهير كلود شافير (في طريقه إلى مدينة اوغاريت السورية التي نقب فيها في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين). وعلى حين فجأة انحنى مساعده جورج شينيه إلى الأمام وسأل مالاوان:

هل سبق لك أن قرأت الرواية البوليسية "مقتل روجر اكريود" لاحاثا كريستي؟ - نعم – إنها رواية ممتازة بحق، لا تغرب عن بال قارئها –أ- وما رأيك بـ"الرجل ذو البدلة البنية، و"جريمة قتل في قطار الشرق السريع" هل قرأتهما؟ - نعم قرأتهما ، وكذلك بقية روايات المؤلفين وذلك لأنني أنا روجها لوهلة لم يحمل كلامه على محمل الجد، ربما لان اثنين من رفاق الرحلة كانا على علم بالوضع وأخذا هذا الكلام على سبيل المزاج.
وعلى اية حال، هذا هو ماكس مالاوان، الذي ربما عرف كزوج لاجاثا كريستي اكثر منه عالم اثار لامعا.
لكنه في كتابه "مذكرات مالاوان" الذي اعيدت طباعته اخيراً، والذي يحمل عنوانا ثانويا آخر، هو "اجاثا وعالم الآثار"، يحدثنا عن اشياء شيقة كثيرة، فضلا عن - الزوجية – باجاثا.
وكنت ارجئ الحديث عن اجاثا، وابدأ الكلام عن اعماله التنقيبية في العراق وسورية وما يتخلل ذلك من طرف وحكايات ممتعة، لولا ان حديثا هامشيا عنها لفت اهتمامي وشدني اليه: اجاثا والموسيقى جاء في مذكرات زوجها ماكس مالاوان: اورثت تنشئة اجاثا في باريس (التي انتقلت اليها في صغرها من لندن)، عندما حب الموسيقى اكثر من اي شيء اخر كانت موهبتها الطبيعية وتقنيتها في العزف على البيانو تؤهلانها لان ترقى الى مصاف المحترفين: كانت بها رغبة للتمرن ست ساعات في اليوم، وكانت تعرف لرامز، وبيتهوفن، وموتسارت بصورة لافتة للنظر، لكنها في الوقت الذي تجيد فيه العزف في الخلوة، كانت ترتبك عندما تعزف امام الجمهور. لهذا نصحها استاذ متمرس بان لا يحلم في ان تكون عازفة امام الجماهير اذا كانت غير قادرة على السيطرة على اعصابها، لان على الفنان ان يكون اكثر من بارع في الفن، ينبغي ان يكون قادرا على التحكم فياعصابه لشد اهتمام الجمهور اليه من جهة اخرى، كانت تسيطر على نفسها عندما تغني.
هنا كانت تستطيع الغناء دون ان ترتبك، وكان لها صوت سوبرانو عالٍ، وربما كان بمقدورها الغناء في الحفلات الموسيقية، ويؤهلها على ذلك انها كانت خارقة الجمال، وشقراء، ولها عينان زرقاوان.
كان لها جمال اسكندينافي، مع سيماء محببة جدا. كانت تعتقد ان صوتها لم يكن جزءاً من نفسها، بل كان حضوراً اخر خارجيا – وكان طموحها الحقيقي ان تصبح مغنية اوبرا.
لكنها علمت من اساتذتها انها لم تكن تتمتع بحجم الصوت الذي تتطلبه الاوبرا. وربما جاء هذا كله لكي تصبح اجاثا كريستي واحدة من اشهر كتاب الروايات البوليسية، ان لم تكن اشهرهم ولن استفيض في الحديق عن اجاثا اكثر من ذلك، فلا بد من ان يعطي زوجها حق قدره، وهو عالم الاثار الكبير على إنني قبل ذلك، أيضاً، سأتطرق إلى ذكرياته عن المس بيل (جيرترود بيل)، المسؤولة عن الاستخبارات البريطانية في العراق في الحرب العالمية الأولى وحتى تأسيس الدولة العراقية، وحتى وفاتها في العراق، فحديثها ذو شجون تعرف مالاوان على المس بيل عندما كان يعمل في فريق ليونارد وولي في العشرينيات من القرن العشرين، الذي اكتشف مقبرة اور الشهيرة (مع الكنوز الآثارية) قد اهتزت سمعتها السياسية (في عين البريطانيين)، لأنها لم تصغ إلى تحذيرات المندوب السامي، السير ارتولد ولسون، التي تنبأت بإمكانية حدوث "قلاقل"، في العراق، والمقصور بذلك القسمة بنسبة خمسين في المائة للعراق ومثلها للمنقلبين، بيد ان العراق لم يكن يحلم بان تنتصر لحصته نمرة (مؤنث نمر) بمثل قوة واصرار جبروترود بيل، كما يقول ماكس مالاوان.
كان عمرها يومذاك 57 عاما، لكنها كانت لا تزال تتمتع بقوة غير طبيعية في تحمل مشاق العمل، وفي 1926 زارها مالاوان مع زميل له، في بغداد، في منزلها الصغير، ليعبرا عن احترامهما، وهما في طريق عودتهما الى بريطانيا.
فقد كانت تعاني من الوحدة والإهمال لأنها لم تعد تتمتع بمركزها السابق في البلد، وبعد هذه الزيارة بثلاثة أشهر لقيت حتفها بعد أن تناولت حبوبا منومة مضاعفة، يظن أنها تناولتها عن عمد، كانت جيرنرود بيل، بشهادة مالاوان، تجيد الكلام بالعربية على أفضل وجه، وكانت مؤرخة واسعة الاطلاع، ومؤلفة من طراز جيد يحدثنا مالاوان عن روح التضامن او روح الجماعة، التي تنشأ بين العاملين (في الحفريات)، رؤساء ومرؤوسين، فاذا كانت الادارة جيدة، سيشعر الجميع بانهم يعملون لهدف واحد ويتملكهم شعور بالاعتزاز في عملهم المثمر لكن العمل التنقيبي كثيرا ما ينطوي على مفاجآت كالحادثة الآتية:
عندما كان مالاوان يعمل مع ليونارد وولي في اور، عثروا على قبر كانوا على ثقة من انه يحتوي على لقية ذهبية (عصابة ذهبية لجبين الملحود في القبر)، لكنهم عندما ازاحوا عنه التراب، لم يعثروا على اللقية الذهبية.
وهذا يعني انها سرقت في عقله، هنا توجه اصبع الاتهام الى 169 عاملا عراقيا، واستثنى المشرف عليهم جون توماس، الذي ينبغي ان يكون بريئا، كما يقول مالاوان، وفي اليوم التالي، طلب وولي من العمال، الواحد بعد الآخر، ساعة تسلم يوميتهم، ان يقسموا بالقرآن لاثبات براءتهم، ففعلوا ذلك، بحضور مدير شرطة لواء الناصرية، وبعد ان ادى زهاء مائة وخمسين عاملا القسم، اشاروا جميعهم باصابعهم الى السارق، الذي لم يكن سوى "البريء"، جون توماس، الذي بنى، مثل اياغو، على مدى السنين ، سمعة من البراءة، وهنا يعقب مالاوان قائلاً: لو كنا اكثر حكمة لكان علينا ان نتذكر شكسبير.
وتتضمن فصول الكتاب تنقيبات مالاوان في نينوى، في البدء مع العالم الاثاري البريطاني المعروف كامل تومبسون (مؤلف معجم النبات الاشوري)، ثم وحده في ما بعد، وكذلك تنقيباته المجزية في الاربحية (في الموصل ايضا)، وفي الخابور، وتشاغار بازار (القامشلي)، وتل براك، ووادي البالخ، ثم في نمرود ، حيث اكتشف قلعة شلمانصر، ويقول مالاوان هنا: "كان التنقيب – في 1957 – عن قلعة شلمانصر اخر عمل للمدرسة البريطانية في اثار العراق في نمرود، وسيبقى إضافة مجيدة حوليات الاركيولوجيا الأشورية، ولعله لقي العاجيات في هذه البناية كانت اروع من اية مجموعة لمثل هذه العاجيات في اي مكان آخر.
ويعتقد حتى الان ان معظم المادة العاجية جاء في انياب القيلة السورية، وهي نوع اسيوي من صنف الفيلة الهندية، ربما انقرض في سورية بعد الافراط في صيدها بعيد 700 ق.م. ومالاوان هو مكتشف التمثال البرونزي الشهير لراس الملك الاكدي الشهير سارغون.
الكتاب، مذكرات ماكس مالاوان اجاثا كريستي وعلماء الآثار
الناشر: هارير كولينز