سعد كما لا يعرفه الناس!

سعد كما لا يعرفه الناس!

علي امين
كان راقداً في سريره النحاسي الضخم
المصحف ملفوف في غلاف ابيض جميل، ومعلق وراء ظهره في عمود السرير على رأسه طاقية حريرية بيضاء وفي وجهه احمرار الشباب وفي عينيه بريق الاصحاء، وفي ابتسامته سخرية الاقوياء!
ودخلت عليه، كعادتي كل صباح، احمل له الجرائد والمجلات.
ولم استفسر عن صحته، فان ابتسامته العريضة اغنتني عن كل سؤال!

وطلب مني ان ابدأ فاقرأ له اخبار رحلة الملك فؤاد في ايطاليا.. ثم انباء نشاط ثروت باشا رئيس الوزراء واجتماعه بالسنيور موسوليني. والبرقيات الخارجية! ثم ماذا تقول جريدة الاتحاد التي تهاجم سعد، هل ردت على مقال العقاد الذي نشره في البلاغ؟
واعضاء الوفد في اوربا؟ لماذا خلت الصحف من اخبارهم هذا الصباح!
واذكر انني في هذا الصباح لم امسك بتلابيب سيبويه ولم امرغه كعادتي في التراب الا ثلاث مرات! وكان سعد في كل مرة يردني الى الصواب ويشرح لي ضاحكا قواعد اللغة ومتى يجوز الجر ومتى يجوز النصب!
واذكر ان احدى الصحف التي سطرت في ذلك اليوم اشارت الى العلاقات بين الوفد والاحرار، فسألني سعد:
- ما رأيك في هذا الكلام؟
قلت له: انني شخصياً لا احب الاحرار.. باستثناء محمد محمود!
فقال لي: وما رأيك.. اذا قلت لك انني احبهم، واريد ان اعيد كل الذين كانوا معي في بدء الحركة الى حظيرة الوفد.. انني اريد اندماج الاحرار في الوفد، فان عند الوفد القلوب، ولكن عند الاحرار الرؤوس! وانا اريد ان اجمع الرؤوس والقلوب! اريد لطفي السيد واسماعيل صدقي.. وحتى عبد العزيز فهمي وان كان لا يحبني!
واراد سعد ان يسترسل.. ولكن الممرضة اشارت لي برأسها ففهمت.. وخرجت!
خرجت والاطمئنان يملأ قلبي على صحة سعد!
واذا بي ارى ام المصريين وراء الباب والدموع تنساب من عينيها!
وكانت ام المصريين تكره الائتلاف وتعارض سرا في فكرة اندماج الاحرار في الوفد، دون ان تجرؤ على معارضة رأي سعد، لانها كانت تؤمن ان من واجب الزوجة ان تسير وراء زوجها معصوبة العينين!
واعتقدت على الفور ان ام المصريين سمعت حديث سعد معي، وانها تبكي لانه يتجه هذا الاتجاه الجديد.
ولكن اعتقادي لم يعش طويلا، فقد قالت ام المصريين لوصيفتها فريدة:
- ارسلى اثوابي على الفور الى المصبغة لتصبغ بالسواد! ان سعداً سيموت!
وادهشني هذا التصريح الغريب، واحتججت على هذا التشاؤم العجيب وقلت لها: ان صحة سعد مدهشة اليوم! انه يضحك ويقهقه.. وفي وجهه نشاط ابن العشرين.
ومسحت ام المصريين دموعها، وسكتت لحظة، ثم قالت والدموع تسابق الكلمات:
- يا بني.. انها صحوة الموت! انه سيموت!
وبعد 30 ساعة من هذا الحديث كان شبح الموت في طريقه الى السرير النحاسي الضخم الذي يطل عليه المصحف الملفوف في غلاف ابيض جميل!

سعد.. الانسان
ولقد عشت في بيت سعد عشر سنوات.. اكلت فيها معه ونمت فيها بجانبه تحت سقف واحد وعلى بعد خمسة امتار من حجرته ورأيت سعد "الزعيم".. ورأيت سعد الزوج.
كان سعد الزعيم جباراً.. وكان سعد الزوج انساناً!
ولقد نشر الكتاب والادباء في الثلاث والعشرين سنة الاخيرة الاف المقالات عن سعد الجبار، الذي كان يبطش بخصومه، ولا ينحني امام العاصفة الهوجاء.
وساكتب اليوم عن سعد الانسان.. الذي كان ينحني في داخل بيته امام النسيم!

صينية الكنافة!
كان هذا الرجل الجبار يستطيع وهو جالس في مكتبه ان يهز الامبراطورية البريطانية وان يعصف بالحكومات ويعزل الوزراء.. ولكنه كان في بيته ضعيفا محروما!
كان مريضا بالسكر وكانت زوجته تقف له بالمرصاد، تمنعه من تذوق الكنافة التي يحبها. ومن اكل طواجن الارز التي كان يحلم بها.
وكان يعرف اننا اذا جلسنا معه على المائدة، سنفرض عليه اكل الطعام المسلوق، فكان رحمه الله اذا عرف ان الاوسطى احمد الطباخ قد اعد صينية كنافة. يقلب الدنيا باحثا عن مدعويين لا تعرفهم زوجته ولا تستطيع مجالستهم على المائدة.. وبذلك يخلو له الجو مع صينية الكنافة او طبق ام علي!
وكان سعد ذواقة الى اختيار الطعام، ولكنه كان ايضا ذواقة في اختيار زملاء المائدة.. وكثيرا ما ضحى بصينية الكنافة حتى لا ياكل مع ضيف ثقيل الدم!
مقال زوج
وكان سعد يعاكس زوجه ويداعبها ويشاغبها وكان شابا في العشرين!
وكانت ام العشرين كثيرة النسيان.. تنسى اين وضعت المفاتيح واين تركت منديلها وتنسى اين خبأت حقيبتها!
وحدث مرة ان افتقدت ام المصريين خاتما من الماس فلم تجده، وقلبت البيت رأسا على عقب ولكنها لم تجد اثرا للخاتم وبعد ثلاثة ايام تلقت طرداً بالبريد المسجل، وفتحته فاذا في داخله الخاتم الضائع!
ومع الخاتم خطاب، كان الخطاب من سعد الى زوجته يداعبها فيه ويروي لها كيف عثر على الخاتم في الحمام وكيف ابقاه في جيبه ثلاثة ايام وكيف تركها تبحث عنه وكيف انه تعمد ان يوقعها في الحيرة حتى لا تهمل مرة اخرى!

اراء سعد في الجمال:
وكان سعد جميلا يحب الجمال.. وكثيرا ما دخل مع زوجته في مناقشات طويلة حول جمال زائرة!
هي تقول انها سيدة كاملة ولكن ليس فيها ذرة واحدة من الجمال، وهو يثبت بمنطقة الجبار ان لها سحر هاروت وماروت.
وكان منطق سعد يطوى الحقيقة ويلين الواقع فيجعله بين يديه قطعة من المطاط!
وكثيرا ما خدر منطقة المستمعين والمستمعات.. فما يلبث ان يكسبهم الى صفه ضد ام المصريين فاذا استسلمت الزوجة لمنطق زوجها العجيب، التقط خيوط المناقشة من جديد، واثبت ان زوجته كانت على حق، وان الزائرة ليست جميلة كما اجمع الحاضرون!

سعد.. معلم النحو!
وقد مات سعد وانا على ابواب الرابعة عشرة، ومع ذلك لا ازال اراه امامي كانه لم يمت الا منذ عامين!
شكت له مرة ام المصريين من اننا نحطم الاثاث ونكسر الابواب، فاستدعاني انا ومصطفى امين وكنا في السادسة من عمرنا، وطلب منا ان نكتب له مذكرات يومية بما يحدث في بيت الامة.. ملخص خطب الوفود، وملخص خطب سعد وندون رأينا في كل خطيب!
وكنا نكتب الصفحات الطوال المزدحمة بحوادث مقتل سيبويه وذبح علماء النحو وشنق ائمة الصرف!
ومع ذلك كان وقت سعد الزعيم يتسع يجلس ساعة كاملة مع طفلين، كل يوم، يصلح لهما الاخطاء النحوية، ويفسر الرموز التي كانت اقرب الى اللغة الهيروغليفية منها الى اللغة العربية!
واستمر سعد سنين طويلة وهو يراجع معنا مذكراتنا الساذجة بلذة غريبة، وصبر عجيب!
ومن يومها.. لم تشك ام المصريين من تحطيم الاثاث، وتكسر الابواب، ومن يومها بدأنا نمسح بلاط صاحبة الجلالة الصحافة!

الزوج السعيد
وكان سعد زوجا سعيدا.. وكانت امنيته ان ينجب اطفالا ولكنه كان يخفي هذه الامنية عن زوجته، بل كثيرا ما سمعتها تثير هذا الموضوع امامه وتساله: لماذا تحملها كل هذه السنين وهي لم تنجب له اولادا، فكان رحمه الله يغلق الباب بلباقة غريبة!
كان يقول: كل المصريين اولادي! او يقول : ان الزعامة تتطلب شجاعة والابوة تتطلب الحرصنوع من انواع الخوف والجبن.. ولو كان لنا اولاد ما اصبحت ام المصريين وما اصبحت انا رئيس الوفد!

جثة سعد
وفي الساعة العاشرة من مساء 23 اغسطس سنة 1927 خرج شبح الموت عن بيت سعد يحمل الروح التي بعثت الحياة في قلوب الملايين!
وسمعت بكاء فتح الله بركات ثم تحبب اعضاء الوفد، ورأيت دموع ام المصريين وجاء المصور رياض شحاتة يريد ان يصور جثة سعد وهو على فراش الموت..
ولكن ام المصريين رفضت، ودخلت مع اخي الى حيث يرقد سعد، وكشفنا الملاءة البيضاء التي تغطي وجهه!
ودققت النظر في وجه الميت.. فرأيت وجها غير وجه سعد زغلول!
لقد صغر رأسه، وتضاءل جسمه، وبدأ شخصاً نحيلا غير الرجل الضخم الذي عرفته! وقلت لمصطفى : ليس هذا سعد!
وظهر انني كنت على حق.. فقد رأيت يومها جثة.. واثبتت الايام والسنون بعد ذلك ان سعد حتى لايموت!

آخر ساعة/ تموز- 1950