إعادة اكتشاف  الفارابي  في مشروع محسن مهدي

إعادة اكتشاف الفارابي في مشروع محسن مهدي

عمارة الناصر
يعتبر المفكر العراقي محسن مهدي (1924 - 2007) باحثاً سبقت أعماله شهرته؛ ذلك أنه يعمل على جبهتين مفتوحتين: جبهة الحضور في العالم الغربي حيث يتخذ هذا الحضور طابعه الإلزامي بحكم التدريس والتعاطي مع مؤسسات البحث الأمريكية والأوروبية، ومن ثمة الحاجة إلى دفع هذا الحضور العلمي في الغرب بإثبات القوة الفكرية للتراث العربي الإسلامي بما هو مجال البحث الأصيل لديه. وأما الجبهة الثانية فهي الحضور في الفضاء الثقافي العربي حيث يصبح هذا التمفصل المعرفي واللغوي ضروريًّا في المشروع «المحسني»

للحاجة إلى ربط الدراسات التراثية بمناخها القريب وتفعيل النتائج نفسها في بيئة العالم العربي الذي هو في حاجة إلى تغلغل أكبر في تراثه الفكري والفلسفي وإلى زوايا رؤية مختلفة.

وفي هذا المجال تندرج صفة «الاكتشاف”-على ثقلها- في المشروع المحسني على الحدود بين الجبهتين، بالنسبة للغرب قدم محسن مهدي التراث العربي الاسلامي -والفارابي بالأساس- في منظور مختلف يصوغه فيما يُسمّى بـ«العلوم الإسلامية”حيث يمكن النظر إلى هذه العلوم نظرة حضارية دون الخوف من التهديد الأيديولوجي الذي تمارسه «سياسة المعرفة» المعاصرة، أي ذاك التوجيه الإثني واللغوي والسياسي للعلم، أما بالنسبة للعالم العربي فإن بداية الاكتشاف تكمن في عمله على تحقيق علمي لكتب «ألف ليلة وليلة”وكتب الفارابي بالخصوص، ولعل أهمها «كتاب الحروف”الذي يعد تحقيقه، من أصله القديم، فتحاً معرفيًّا حقيقيًّا بالإضافة إلى بقية الكتب التي عاد فيها إلى مخطوطات من مكتبات إسطنبول وإيران.
وبهذا أمكننا وصف اشتغال محسن مهدي على مؤلفات الفارابي بالاكتشاف. ولكن ماذا يقدم هذا الاكتشاف للمعرفة الفلسفية والحكمة العملية؟
أولاً: الحاجة إلى الفارابي، الحاجة إلى التوفيق
إن أول سؤال يمكن طرحه على مشروع الاكتشاف لدى محسن مهدي هو: لماذا الفارابي؟ وما هي الحاجة المعرفية إلى استدعائه اليوم؟
يرى مترجما كتاب الفارابي «تحصيل السعادة» -في مقدمتهما للترجمة الفرنسية- أن «أهمية دراسات مؤلفات الفارابي تبرز من خلال مقاربتها للصراع الذي يهدد عالم اليوم بالتمزق، الذي مصدره الصراع حول مسألة الوحي أو العلاقات المتوترة بين الفلسفة والدين»، أو بين العلم والدين في الفكر العربي بالخصوص. ومنه يمكن اعتبار مشروع محسن مهدي في اكتشاف الفارابي واستدعائه محاولة لتجديد مبدأ التوفيق أو التلفيق (بمعناه الإيجابي) بين العلم والدين، لإيجاد الحلول الممكنة لمشاكل العالم المعاصر، وهو بهذا يرى أنه «توجد أكثر من طريقة يمكن بها توافق العلم والدين ويمكن الاثنان بصفتهما أن يملكا علاقة متناغمة دون أي توترات داخلية. وفي هذه الحالة، تشتمل المهمة توضيح هذا التوافق المشار إليه. أو بالإمكان تقديمهما كشيئين مختلفين جذريًّا لكن مع ذلك هما في حاجة لمثل هذا التوافق، صحيح أننا نتعامل مع مفهومين مختلفين تماماً مثل مربع ودائرة، لكن ولأسباب معينة، قد تكون ضرورية من وجهة نظر كل من الدين والعلوم، فإن الصراع بينهما لا ينبغي أن يتحول إلى صراع دموي، وينبغي بل ويستطيع الاثنان أن يتعلما التسامح مع بعضهما البعض..». فمبدأ اكتشاف الفارابي بالنسبة للعالَمَين الغربي والعربي الإسلامي مرهون بالقدرة على بعث ديناميكية التوفيق وفق نموذج الفارابي، أي بالانطلاق من العلم أو الفلسفة كمنظور لقراءة الدين، وهو بالتالي عمل فيه كثير من المزالق والمخاطر والتحديات والمواجهات.
ويركز محسن مهدي، بتأثير من أستاذه ليو شتراوس (Léo Strauss)، على علم السياسة أو فلسفة السياسة كمكان أنسب لالتقاء المعرفة (النظرية) بالحكمة (العملية) في مقابل الدين والوحي والقوانين الإلهية، وبذلك يرى أن «الأديان السماوية قد افتتحت عهداً جديداً لنظام سياسي ديني جديد، واضعة تراث الفلسفة اليونانية في مجابهة تحدّ هو تحليل هذا النظام وجعله معقولاً، هذا النظام المبني على النبوة والوحي والقانون الإلهي، ويمكننا التأكيد على أن الفارابي هو أول من رفع هذا التحدي». ومع أن هذه الرؤية لا ترتكز على مبدأ معرفي دقيق وإنما تتخذ من موقف الفارابي نفسه حجة في رفع التحدي، إلا أنها تؤسس لمقاربات معرفية مختلفة لحلول حكمية لمشكل التوفيق بين العلم والدين.
وبهذا يدشن الفارابي، بحسب محسن مهدي، «تقليداً سعى للانطلاق من العلم وحاول التوفيق بينه وبين الدين بقدر الاستطاعة دون التخلي عن ثوابت العلم، وهنا يصبح الدين موضوع دراسة، بل موضوع علم محدد، فمثلاً في كتاب الفارابي «إحصاء العلوم”قسمت العلوم إلى اللغة والمنطق والرياضيات والفيزياء وما وراء الطبيعة، وما أطلق عليه علم السياسة أو الفلسفة السياسية وهي تشمل دراسة القوانين الإلهية: الفقه واللاهوت. ويجد الدين مكانته داخل وجهة نظر علمية كونية». وعليه فإن محسن مهدي يحاول إعادة دمج هذا التقليد ضمن صيرورة التفكير الفلسفي في العالم العربي من خلال الطريقة التي نظر بها الفارابي إلى علاقة الدين بالعلم عبر رابطة السياسة ووفق هدف تحصيل السعادة.
سيكون اكتشاف الفارابي من جديد، بالنسبة لمحسن مهدي، هو اكتشاف مفتاح السعادة للعالم المعاصر، انطلاقاً من أن «الفارابي أكد أن أي علم وأية طريقة في الحياة هي عوامل ضرورية للسعادة»، أي انطلاقاً من رؤية علمية للدين تضمن تناغم العلم والدين في إطار معرفة دقيقة بالنظام السياسي الذي يمثل المجال الحيوي لتعايش الأفكار والمعتقدات.
ثانياً: أمام الفلسفة، أمام السياسة
يظهر أن محسن مهدي كان يسعى إلى تدشين مرحلة حكمية من الفلسفة الإسلامية أي باتخاذ موقف من القضايا الدينية والعلمية وفق «إرادة جيدة للمعرفة”أو «سياسة راشدة للمعرفة”والتي يمثل فيها استحضار الفارابي قاعدة أساسية لرسم الخطوط العامة لهذه الإدارة أو السياسة، باعتبار أن الفارابي كان قد أعطى الفلسفة نفسها دلالة سياسية، ومن ثمة فإن رؤية محسن مهدي مبنية على منظور سياسي لا يعتبر السياسة مجرد نظام وسلطة ومؤسسات، بل فلسفة واقع تمتزج فيها وتتعايش المعتقدات الدينية والمعتقدات العلمية والأفكار والتوجهات والمواقف...وهي في النهاية بؤرة لإنتاج السعادة وتوسيع فائدتها.
إن المعرفة السياسية بهذا الشكل ستمثل مبدأ التوفيق بين العلم والدين ولأن السياسة فن الممكن فإن مهدي يبدأ «التوافق بما هو ممكن، وبإمكاننا -يقول- أن نبدأ بفكرة خلق مخطط هرمي تحتل العلوم داخله مكانتها لكن أن تكون القيادة أو السلطة للاهوت. وهذه طريقة يمكن البدء منها. كما يمكن أيضاً أن نبدأ بوجهة النظر القائلة بأن الدين والعلم شيئان مختلفان كليًّا وجذريًّا، وعندما نقول: إن هذا هو بالضبط السبب لماذا هما بحاجة إلى التوافق، ولماذا ينبغي علينا أن نحاول المواءمة بينهما بقدر المستطاع بدلاً من أن نعمق الخلاف، فلأن العلوم والدين في خلاف أزلي، خلاف قد يجعل حياة البشر مستحيلة والاستمرار في العلم في أغلب الأحيان مستحيل، فإن الطريق الوحيد الممكن للحفاظ عليهما معاً هو تقليم أظافرهما، وتمكينهما من العيش معاً، وهذا يمثل نوعاً آخر من التوافق». وبهذا المعنى نفسه، يمارس محسن مهدي، عملاً سياسيًّا داخل حقل المعرفة الدينية.
ويمكن هندسة هذا العمل السياسي بهذا الشكل، أن نضع المتصارعين: العلم والدين في هرم قيادي، تكون فيه السلطة للاهوت، فإن لم يصمد هذا الهرم وتهاوى، أقمنا التوفيق والملاءمة أو المصالحة -بالمعنى السياسي الدقيق-، فإن لم يصمد هذا التوافق وتعثر مررنا إلى خطوة أقسى وهي تقليم أظافرهما وتقليص صلاحيات كل منهما بما لا يدع لأحدهما القدرة على ضرب الآخر، ومنه أمكنهما العيش معاً دون مخاطر.
وهكذا فإن العودة إلى الفارابي تمكّن من توجيه فلسفي لمسار العمل على هذه المراحل الثلاث للتوفيق بين العلم والدين، والتي تؤدي في النهاية إلى اكتشاف مفتاح السعادة للعالم الدنيوي». ومنه يضطلع محسن مهدي بمهمة تبيان دور الفارابي في تغيير وجهة الفكر العربي الإسلامي باعتباره «وسيطاً لقراءة أفلاطون من جهة ومعرفة أحوالنا والتعرف على الوضع البشري بشكل أفضل من جهة أخرى». وبهذا فإن هذا العمل الفلسفي داخل متون الفارابي ليس إلَّا خليطاً عقلانيًّا يربط التأسيس المعرفي للسياسة العربية الإسلامية وفق الفلسفة اليونانية، بأحوال العالم العربي الإسلامي اليوم من خلال الممكنات العقلانية التي تعمل على فك الثنائيات المتصارعة (العلم والدين، العقل والنص، الفلسفة والشريعة...).
ثالثاً: ماذا بعد محسن مهدي؟
لقد ختم محسن مهدي مقدمة تحقيقه لكتاب الحروف للفارابي بالعبارة التالية: «والحمد لله واهب العقل»، ولعله بذلك لخص مبدأً توفيقيًّا لثنائية العلم والدين متضمناً على أن إعمال العقل هو من حمد الله وعبادته، وإنما العلم هو الذي يعطي لهذا المبدأ فاعليته، يقول محسن مهدي: «إذا ما نظرنا إلى العالم الإسلامي اليوم والطريقة التي يرى بها العلاقة بين المعتقد الديني والمعتقد العلمي، سنكون بحاجة إلى توظيف مفهوم تاريخ «العلوم الإسلامية»، كما يستخدم في الأيديولوجية العربية والإسلامية. وهذا يعتمد على الافتراض التالي: العلم الغربي هو علم عربي أو علم إسلامي تم تطويره والإضافة إليه. وعليه فإنه بالإمكان تناوله بحرية مرة أخرى دون خشية أي إشكاليات جدية، أو قد يقترح أن العالم العربي هو جزء من الغرب وعليه لن تكون هناك أي مشكلة في تبني العلوم الحديثة». وبهذا فإن فتح الممكنات في المشروع المحسني هو أحد أهم المكتسبات التي ينجزها هذا المشروع، وسيكون هذا الإرث التوافقي التصالحي والحداثي في الوقت ذاته مصدراً لتفكير جدي حول القضايا العربية والإسلامية المعاصرة، تفكير يتخذ من العلم وممكناته التوافقية مبدأً لحل الأزمات وإدارتها ضمن ما يقصده بـ«العلوم الإسلامية”حيث يؤطر الدين تأطيراً علميًّا وعقلانيًّا.
إن إعادة إخراج التراث الفلسفي العربي الإسلامي، في مثال الفارابي ومشروع محسن مهدي، هو وضع العقل العربي والإسلامي أمام مرآة ذاته لتأسيس قراءة ثانية للروافد الفكرية اليونانية التي دشنت جدلاً كلاميًّا وعقلانيًّا بروابط فلسفية تمّ الأخذ بالكثير منها على أنها مسلمات لحل القضايا الفقهية والسياسية والعلمية.
ويفترض أن تعدد المصادر الحجاجية في المنظومة العقلانية للجدل الفقهي والكلامي والديني عموماً إنما استمدت دعائمها من تعدد المصادر الفلسفية اليونانية وتنوعها، وعليه فإن الجمع بين رأيي الحكيمين -كما أراد الفارابي- يكون لضرورة عقلية وليس خطأً معرفيًّا كما يعتقد بعض شراحه، لأن رؤية التوفيق، في سياق معرفي معين ووفق منظور حضاري محدد، تصبح رؤية عقلانية بذاتها تحتاج إلى اعتماد فلسفي مشروع من أجل إصلاح وترميم تصدعات العقل العربي الإسلامي وجراحاته.
عن موقع الحوار المتمدن