محسن مهدي مفكراً وناقداً للتطرف الديني والعقلانـي

محسن مهدي مفكراً وناقداً للتطرف الديني والعقلانـي

عواد علي
توفي في شهر تموز 2007 مفكران عراقيان من أبرز المشتغلين في حقلي الفلسفة والأدب هما: محسن مهدي، الذي وافته المنية في ولاية بوسطن الأميركية، ومدني صالح الذي وافته المنية في بغداد. واذا كان الأول قد نال شهرةً عالميةً كبيرةً لم ينلها مفكر عربي حديث إلاّ إدوارد سعيد، فإن الثاني لم تتعدّ شهرته حدود وطنه، وتلك هي واحدة من ضرائب المكوث خلف الأسوار أحياناً.

لقد نشرت الصحف ومواقع الانترنيت العراقية والعربية، حتى الآن، نحو عشرين مقالةً بأقلام كتّاب عراقيين عن الراحل مدني صالح، وكان الأولى بكتّاب تلك المقالات ان يكتبوا عنه وهو حي لعلهم يسهمون في تعريفه إلى القارئ العربي، في حين لم تُكتب عن محسن مهدي، حسب علمي، إلاً مقالتان بقلم كاتبين عراقيين مقيمين في فرنسا هما: كاظم جهاد، وانعام كجه جي.

ولد محسن مهدي في مدينة كربلاء وسط العراق عام 1926، وحصل على الشهادة الجامعية الأولية من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم نال درجة الماجستير ومن بعدها الدكتوراه في الفلسفة من جامعة شيكاغو في أميركا عام 1954. وعاد إلى العراق مرتين للتدريس في جامعة بغداد عامي 1947 1948و، ثم بين 1955 1957و. وفي عام 1958 عاد إلى شيكاغو ليعمل في جامعتها مدةً تزيد على عشر سنين، ثم لينتقل للعمل في جامعة هارفارد من 1969 وحتى تقاعده عام 1996.
وأدار في هذه الجامعة الأخيرة مركز الدراسات الشرق أوسطية، وكان أستاذ كرسي قسم لغات الشرق الأدنى وحضاراته. كما عمل محسن مهدي أستاذاً زائراً في كل من جامعات فريبورغ والقاهرة ولوس أنجلس وبوردو، وفي المعهد المركزي للدراسات الإسلامية في باكستان، لكن الإنجاز الحقيقي والكبير له كان في تبحره في الفلسفة الإغريقية، وأفكار العصور الوسطى، ودراساته ومحاضراته وكتبه وترجماته حول أفلاطون والفارابي وابن خلدون، التي جعلت منه مرجعاً عالمياً في العلاقة بين ما هو فلسفي وما هو سياسي في الإسلام.

الفارابي منطَلقاً لدراسة الفلسفات
أولى محسن مهدي اهتماماً خاصاً بفكر الفيلسوف أبي نصر الفارابي، فحقق مجموعةً من نصوصه، وقدّم لها بالعربيّة وترجم بعضها إلى الإنجليزيّة، وشرَحها باللغتين، ودرسها من منظور مقارن، واضعاً إيّاها بمواجهة كتابات فلسفيّة عربيّة وغربيّة قديمة وحديثة، منها: (كتاب الشعر) 1959، و(كتاب الحروف) 1990، و(الألفاظ المستعملة في المنطق (1991، و(كتاب الملة (2001. كما كتب مؤلفات فلسفية عديدة بالعربيّة والإنجليزيّة، منها: (فلسفة ابن خلدون في التاريخ) (لندن، 1957)، و(فلسفة أرسطو عند الفارابي) (بيروت، 1961)، و(كتاب الفارابي في الأدبيّات) (بيروت، 1969) و(الاستشراق ودراسة الفلسفة الإسلاميّة) (أكسفورد، 1990)، و(مدينة الفارابي الفاضلة: ولادة الفلسفة السياسية الإسلامية) (باريس، 2000).
وعن هذا الكتاب الأخير، وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها في معهد (العالم العربي) بباريس عام 1991، وصدر ضمن منشورات (فايار) الفرنسية، يقول كاظم جهاد إنه”يقدّم خلاصة دقيقة ومركّزة للشاكلة التي بها كان مهدي يرى عمق تفكير الفارابي وراهنيّته، فمن خلال هذا الفيلسوف، وبالاستناد إليه دوماً، انطلق مهدي إلى دراسة المفكّرين الآخرين، شرقيّين أكانوا أم غربيّين. وبالبحث عن نقاط التلاقي مع المعلّم الثاني أو الافتراق عنه، تبحّر في دراسة فكر إفلاطون وأرسطو وتوما الإكوينيّ ونصوص الإفلاطونية المحدثة والموسوعيّين الفرنسيّين وفكر الأنوار كلّه، وأعمال ابن رشد وابن خلدون وابن سينا وأبي بكر الرّازي وآخرين، دون أن ينسى الوقوف عند المعاصرين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد إقبال وطه حسين.
وغالباً ما كان يمارس السبّاحة ضدّ التيّارات السّائدة ويعارض القناعات الرّاسخة. فبمواجهة القائلين برفض ابن خلدون للفلسفة، كان هو يرى في المؤرّخ التونسي”فيلسوفاً مخفياً»، أي صاحب فلسفة تُقرأ بين السطور. وخلافاً لما هو مسكوت عنه، كان يرى أن ابن رشد يستلهم الفارابي وإن كان لا يُسميه، ويالتالي فهناك طبقات من تفكير الفارابي منبثة في الفكر الرشدي يكشف عنها الفكر المقارن والقراءة الدؤوب».

نزعة فكرية اعتدالية
يكشف محسن مهدي في هذا الكتاب عن نزعته الاعتدالية والوسطية، فيوجه نقداً عميقاً للتطرف بتياريه الديني والعقلاني، مؤكداً أن الأول لا ينظر إلى العالَم إلاّ من منظور الدين، والثاني لا ينظر إليه إلاّ من منظور العًلم أو المعرفة.
الموقف الأول هو منبع جميع الأصوليات المعروفة، ويقود إلى نسيان للشأن السياسي. وحتى عندما ينادي أصحاب هذا الموقف بشعارات سياسية أو يعمدون إلى اختراق المجال السياسي بصورة لافتة أو صاخبة، فهم لا يفعلون في الحقيقة سوى أن يختزلوا السياسي إلى الديني، عامدين إلى المطابقة القسرية بين الجماعتين الدينية والسياسية.
ومن ممثلي هذا التيار الإمام الغزالي الذي استعرض في”المنقذ من الضلال”العلوم الدينية وغيرالدينية، وابتدع طريقة لإدماج الفلسفة والعلوم في سياق علوم الدين، وذلك من خلال وجهة نظر ليست فلسفية تماماً ولاعلمية حقاً. والتيار الثاني يرى في الدين مجرد وهم وخداع، ويعتقد بأن بإمكان الفرد أن يعيش بصورة أفضل من دونه، وهو يتنكّر لصبوات الأفراد ولحاجات بعضهم الروحية أو المعتقدية، فيمارس بدوره إرهاباً أو يُحدث التباسات متساوقة مع هذه التي تنجم عن التيار الأول. وبين أشهر القائلين بهذا المذهب أبو بكر الرازي، ومن قبله السرخسي الذي كان أحد تلاميذ الكندي، وآخرون. هؤلاء ما كان في مقدورهم، من وجهة نظر مهدي، النجاح لأنهم لم يكونوا فلاسفة حقاً، بل هم أشبه ما يكونون بمَن يُدعون اليوم”مفكرين راديكاليين». كما يجد مهدي مثال هذا التيار في فكر الموسوعيين الفرنسيين، الذين كانوا يصدرون عن إمكان فرض العقلانية على كافة مناحي الحياة الإنسانية، ويرون أن المعرفة العلمية كفيلة بالإجابة على جميع أسئلة الإنسان.

البعد الفلسفي في النظرية الخلدونية
لقد عدّ محسن مهدي ابن خلدون في كتابه (فلسفة ابن خلدون في التاريخ) تلميذاً مخلصاً للفلاسفة القدامى ولا سيما ابن رشد، وانه بنى علمه الجديد على الأسس التي بنى عليها اولئك تفكيرهم الفلسفي.
واعتمد ابن خلدون على المبادئ المنطقية نفسها التي جرى عليها افلاطون وأرسطو، ولم يحاول تغيير تلك الأسس او التشكيك في صحتها.
ويرى بعض الباحثين أن هذا الكتاب يمتاز بكونه أول بحث من نوعه يدرس الناحية الفلسفية والمنطقية في النظرية الخلدونية حول العمران البشري، بعد أن كان الباحثون قبله لا يشيرون إلاّ إلى الناحية الاجتماعية منها.
ولكن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي يخالف مهدي جذرياً في القول بأن ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعية على نفس المبادئ المنطقية التي جرى عليها افلاطون وأرسطو ومن تابعهما من فلاسفة الإسلام، ويرى أنه كان ثائراً على الفلسفة القديمة بوجه عام، وعلى المنطق الأرسطي بوجه خاص. والدليل هو أنه لو كان سائراً على نفس المنهج المنطقي الذي سار عليه الفلاسفة قبله لما استطاع أن ينتج لنا علماً جديداً، ففي ظن الوردي أن الإبداع العظيم الذي جاء به ابن خلدون نشأ عن كون هذا الرجل قد استطاع أن يتحرر من المنطق القديم، وأن يتخذ لنفسه منطقاً جديداً.
ويعترض باحث آخر على رأي مهدي في أن ابن رشد وجد نفسه مضطراً لمسايرة الفارابي في آرائه السياسية والأخلاقية، لأنه لم يكن على اطلاع لا على كتاب السياسة فحسب، بل وكتاب الأخلاق لأرسطو أيضاً، مؤكداً، هذا الباحث، أن بعض الشذرات من شرح ابن رشد على كتاب الأخلاق النيقوماخية توجد حالياً في قبة القرويين بفاس، وقد نشرها عبدالرحمن بدوي في كتاب (الأخلاق النيقوماخية) لأرسطو الذي ترجمة اسحق بن حنين.

المنحى الديني لألف ليلة وليلة
في سبعينات القرن الماضي بذل محسن مهدي جهداً مضنياً استغرق عشر سنين في البحث والمقارنة والمضاهاة بين نسخ كتاب (ألف ليلة وليلة) ليتحقق من أيها الأصوب، والأقرب إلى النسخة الأم المفقودة، وأفضى جهده إلى تحقيق نسخة مجهولة أصدرها مسبوقة بدراسة ضافية وعميقة عن منشورات (بريل) الهولنديّة عام 1984، وهي تشمل ما يقرب من أربعمائة ليلة، ولكن مهدي عدّها كتاباً كاملاً نظراً للطبيعة البنائية للحكايات التي تسمح بتمديدها إلى ما لا نهاية.
يقول مهدي في دراسته إن الكتاب”لا يُعرف مؤلفه أو من روى أو جمع النسخة الأم»، ويعزو ذلك إلى الرواة والنسّاخ الذين”منهم من نقله بشيء من الدقة، ومنهم من نقله دون أن يتقيد بلغة أصله، ومنهم من أعاد صياغة أصله وتركيبه بصورة يفهمها القرّاء، ويرغب فيها القُصاص المعاصرون له.
ثم أن النسّاخ لم يتحرجوا من تغيير لغته، ووضع ألفاظ معروفة عندهم مكان ألفاظ لم تعد دارجة في أزمانهم. ولما لم يكن غرض الكتاب تعليم العلوم والآداب واللغة الفصيحة، وإنما غرضه الحكاية والسمر، لم يتورع النسّاخ، ورواة القصص والسيَر من أن يقحموا فيه، ويضيفوا إليه قصصاً أخرى، ارتضاها ذوقهم وفنهم».
ومؤخراً قام الكاتب العراقي حسين عجة بترجمة دراسة لمحسن مهدي تحمل عنوان (ملاحظات حول ألف ليلة وليلة) نشرت بالانجليزية في العددين التاسع والعاشر من مجلة (دراسات شرقية)، شتاء وربيع عام 1991. يعرّف مهدي (ألف ليلة وليلة) في مطلع هذه الدراسة بأنها”تتألف من مجموعة قصص نتدرج ضمن إطار قصصي أعم يروي الظروف الصعبة التي شهدها التاريخ العريق للعائلة الملكية الساسانية ذات الأصل الهندي - الفارسي، التي يُقال أن حكمها كان يمتد من سمرقند حتى الهند والصين. ويسرد سوء الطالع المرعب الذي لحق بهذه العائلة الملكية ومدنها الرئيسة بلغة متواضعة تخلو من أشكال الاعتناء، وتتصف أحياناً بالسوقية، وتضفي بالإضافة إلى النهاية السعيدة للعمل، على مجمل العمل، صبغة الملهاة بصورة جلية».
ومما يُلاحظ على محسن مهدي في هذه الدراسة أنه يركز كثيراً على المنحى الديني في الليالي، معتقداً بإمكانية القول عموماً أن كل موضوعها هو تاريخ العلاقة بين الملكية الوثنية وأديان الوحي، ذلك التاريخ الذي بدأ في الأزمنة القديمة بظروف يبدو أنها تقود هذه الملكية إلى مصير مأساوي، إلاّ أنها تنتهي بمهرجان تحتفل هذه الملكية وحاضرتها فيه بالنصر والحياة الرغيدة. ويكاد مهدي يؤول معظم الحكايات الرئيسة في هذه الذخيرة التراثية تأويلاً دينياً، فهو يرى، مثلاً، أن الجانب الأسود والمعتم من الدين الممثَّل بمسعود، في بداية الليالي، قد جرى إبداله بالجانب المغفل والمحبوب لدينازاد، أخت شهرزاد، تلك الأداة الموضوعة لا في خدمة عاطفة سوداء، بل في خدمة حكمة سرية.
وفي قصة الصياد، تنبثق علاقة جديدة ما بين الدين والسياسيين، فهي تبدأ بتخيل علاقة سعيدة بين الملك الوثني والفيلسوف الطبيعي الذي يشفي الملك من الجرب ويمكنه من التمتع بسلطته. ولكن الملك الذي كان، وبطريقة طفولية، على وشك أن يتبنى الحكيم بإعتباره وريثه الشرعي، يكتشف أن هذا الأخير متهم بأنه جاسوس أجنبي يخطط لنشر دين جديد وتحطيم الملك.
بيد أن هذا الاتهام باطل، فالخوف من الإله المجهول، الذي يعمي الملك كفاية، يجعله يتصرف بجنون، ويحطم نفسه ومصدر سعادته. وجهل الفيلسوف الطبيعي، أو عدم رغبته في الكلام عن الأشياء الإلهية والسياسية والأشياء الملفقة ببراعة، وأيضاً عدم قدرته أو رغبته في مواجهة الاتهام بأنه جاسوس قد يخون الملك بهذه الطريقة أو تلك، وكذلك فإن عدم رغبته بالقيام بأي شيء لإنقاذ حياته الشخصية، أو مساعدة الملك المجنون والجاحد ليثنيه عن قتله، لم يؤد إلى التحطيم الذاتي وحسب، بل وإلى تحطيم الملك الذي التجأ إليه بعد سفره، أو إرغامه على السفر من بيزنطة. لقد كان الملك والفيلسوف الطبيعي، حسب رأي مهدي، مخلوقين لكي يحطم أحدهما الآخر من قبل الوزير، والذي هو نفسه ليس متديناً ولكنه يفهم قوة وفعالية الدين ويستخدمها لصالح هدفه السياسي الشخصي.
فالدين، الذي هو دين الناس الآخرين أو خوفهم من الله - قد جرى الإعتراف به بوصفه أداةً جديدةً وفاعلةً في السلطة السياسية... ومادام الحكيم قد أستفاد سلفاً من الملك وأصبح حليفه بفضل فنه الطبيعي، فإن الخطر الوحيد الذي يمثله هو أن يكون عميلاً لملك بيزنطة (المسيحي)، الذي يزمع قتل الملك أو تحويله هو والمدينة إلى الديانة الإلهية. يستخدم الوزير خوف الملك من الدين ليدفعه لقتل الحكيم الوثني، والحكيم نفسه يستخدم سراً طبيعياً، كتاباً مسموماً، ليقتل الملك بعد أن يكون رأسه هو بالذات قد اقتطع.
ويعتقد مهدي بأن قصة التاجر والعفريت تميز ما بين إيمان ذلك التاجر التقي، الملتزم بالقانون، ودين ذلك العفريت المخبول، الذي لا يمكن تهدئته إلاّ بفضل قصص الرجال والنساء الأشرار.
كما أنها تميز بين الجماعات الدينية الأربع التي يظل ممثلوها مخلصين إلى العهود حتى وإن وضعوا داخل مقلاة حامية، والدين الجديد اللا اجتماعي واللا سياسي، والتي تكون كاهنته هي الملكة - الساحرة.
وهكذا يتأسس الفارق ما بين الأديان القديمة القائمة، التي جرى تحويل أتباعها من قبل الملوك إلى مواطنين يلتزمون بالقانون مع مرور الزمن، والأديان الجديدة التي يتكون أنبياؤها من المعدمين، وكهانها من النساء، التي يمكنها أن تهيج المشاعر القوية تماماً، والتي تكتسح أمامها كل قوى العدالة والنظام.
إن ميزة هذه النسخة التي حققها محسن مهدي تتمثل في كونها محرَّرة بعربية عامية تجتمع فيها لهجات عديدة، وفي كونها سلًمتْ من كل رقابة أو تنقيح أو تفصيح قسري لاحق، فاللّغة التي بها تتخاطب شخوص الليالي كما أظهرها مهدي إلى النّور تشمل لهجات لا يمكن عزوها إلى أمصار مختلفة فحسب، بل كذلك إلى فئات اجتماعيّة وأوساط مهنيّة متباينة. فالخادمات مثلاً لا يتكلّمن كسيّدات القصور، بل تراهنّ يؤنّثن الذّكر ويذكّرن الأنثى وتختلط لديهنّ الضمائر والأسماء بصورة عجيبة. وبانغراس صيَغ الكلام هذه بمنشئها الاجتماعيّ والطبقيّ تمنح هي في تضافرها العملَ عفويّة فائقة وتسبغ عليه طبيعة كرنفاليّة أو احتفاليّة وبوليفونيّة (تعددّية صوتيّة).
ولذلك تُعدّ هذه النسخة من الليالي أهم من نسخة (بولاق) الشهيرة بالنسبة للباحثين في الأقل.