ديريك والكوت.. عملاق العالم السُّــفلــــيّ..

ديريك والكوت.. عملاق العالم السُّــفلــــيّ..

جمال المراغي
اعتبره النقاد هوجو.. وشكسبير وتشيكوف وتولستوي وفولتير وموليير وجورج أليوت وغيرهم من كبار الشعراء وكتاب المسرح مجتمعين وهو كذلك للبلد الأكبر قليلا والتي اعتبرها مركزا للإشعاع.. كما دلل موقف الغزاة القدامي والجدد علي قيمة هذا الرائد الفني والمسرحي عندما دارت معركة مؤخرا بين الطرفين أحدهما استعبد أهله

فيما مضي والأخري نبذه أهلها المتعصبون وحاولوا تشويه سمعته..بينما لم ينتبه لهما ديريك كونه اتخذ موقفه تجاههم وتجاه غيرهم قبلما يزيد عن ثلاثين عاماً.

"ديريك والكوت”الذي ولد عام 1930 بمدينة”كاستاريس”عاصمة جزيرة ودولة”سانت لويسا”شرق البحر الكاريبي عند نقطة التقائه بالمحيط الأطلسي.. والتي لا تزيد مساحتها عن620 كيلو مترا مربعا.. ولم يصل عدد سكانها بعد إلي 200 ألف نسمة بعد.. وتاريخ هذه المنطقة يعج بالصور الاستعمارية وأسوأ أشكالها من الإسباني إلي الإنجليزي ثم الفرنسي ولفترات طويلة.
ووالكوت من نسل عائلة من عبيد هذه المنطقة لدي الفرنسيين.. وقد حمل تراث العبودية علي كاهله.. وظل ما رواه له آباؤه وأجداده نبراسا يوجهه طيلة حياته الشخصية والأدبية.. إلي جانب الذكريات المؤثرة عن أحداث العنف التي مرت بها البلاد أيام الاحتلال وما بعدها.
لعبت والدته دورا كبيرا ومؤثرا في حياته ورعايته هو وأخيه التوأم.. واستوعبت موهبتهما ودأبت تعضدهما.. فأخوه أيضا كاتب مسرحي مثله.. حيث كانت تعمل الأم مدرسة بالمدرسة الوحيدة بالمدينة.. وشجعته منذ نعومة أظافره علي القراءة والفنون بمختلف روافدها وخاصة الرسم.
بعد انتهائه من دراسته الأساسية.. التحق بكلية”سانت ماري”بوطنه ثم جامعة جزر الهند الغربية بجامايكا.. وبدأ كتابة الشعر وهو في الثامنة عشر بشكل جدي.. وأكمل ديوانه الأول بعدها بعام.. ولكنه وقف عاجزا أمام إمكانياته المادية الضعيفة.. وعدم اهتمام الناشرين بطباعة ديوانه.
لجأ لوالدته مهموما وصارحها برغبته في نشر ديوانه الشعري والذي تكلفته 200 دولار أمريكي.. فتململت نظرا لصعوبة الموقف وقلة وضعف مرتبه.. ولكنها في النهاية تدبرت الأمر.. وأخذت سلفة من جهة عملها لمساعدته.. وهو ما أثر فيه كثيرا.. وأمل ألا تضيع تضحيات والدته هباء.
ولكن ديوانه بطبيعة الحال لم يحقق مبيعات كبيرة ولم يكن هم ديريك أن يربح ثروة من وراء هذا الديوان ولكنه أراد ألا تضيع ما جادت به والدته.. فدار بنسخه في الشوارع لبيعها من أجل إعادة المال لها في المقام الأول.. وكاد أن يتوقف عن كتابة الشعر.. ولكن والدته عادت من جديد تدعمه وتصر أن يستكمل ما بدأ.. مما جعله يكتب دواوين أخري حققت قدرا من النجاح أهداها جميعا لوالدته.
ومن مركز قوة كشاعر اعتبرته المنطقة من أبنائها الواعدين.. اتجه للكتابة المسرحية كونها يمكن أن تبرز بصورة أكثر تأثيرا ملامح الثقافة المتميزة بمنطقة الكاريبي.. وكان ذلك هو همه الأول والمتمثل في رصد المزيج المنصهر في هذا المجتمع بين أفراده الأفارقة والآسيويين والأوروبيين خلال سنوات طويلة.. تلك المنطقة التي مرت بتفاعلات وتطور بصورة طبيعية دون مؤثرات لتوجيه مجالها في اتجاه ما قصرا.
قصد والكوت آفاقاً أخري أكبر.. فانتقل إلي ترينداد أكبر دول المنطقة والتي اعتبرها قلب الكاريبي النابض بروافدها الثقافية والفنية التي عمل بها مدرسا وصحفيا وناقدا ثقافيا ومسرحيا.. ومن أجل استكمال رحلته مع تاريخ الكاريبي قام بالبحث عن أهم مراحله ونشرها تباعا في عموده الخاص بالصحيفة الرسمية بترينداد.. ولأجل ذلك أيضا أسس ورشة مسرحية عام 1959 بالجهود الذاتية.. تحولت رويدا إلي مسرح رئيسي لها.
علي الجانب الآخر برز ولع ديريك باللغة الإنجليزية منذ صغره مما جعله يتعمق فيها.. حتي تفوق في استخدامه لمفرداتها علي كل معاصريه.. وأراد أن يسجل وقام بعمل موسوعة كاريبية بها.. وكرس الكثير من جهده ووقته للسفر هنا وهناك بحثا عن تراث هذه المنطقة وتاريخها.. وانتقل من كتابة ما رصد في مقالات صحفية إلي مرحلة جديدة لمناقشته هذا التاريخ المليء بالأحداث المرتبطة بالاستعمار خلال سنوات طويلة..ولكن في نصوص مسرحية من زوايا مختلفة.
تميزه في اللغة الإنجليزية والأدب والمسرح جعله يعمل أستاذا متفرغا بجامعة بوسطن بداية من عام 1981 والتي أسس بها هي أيضا مسرح كتاب بوسطن.. ثم أول رابطة مسرحية بها عام 2007.. واستمر تفوقه في كتابة نصوص كاريبية الهوي.. تقدم مزيجا بين مناقشة القضايا الجادة والقصص الخيالية والملاحم المأخوذة من تراث الكاريبي..وتوجها بنيل جائزة نوبل عام 1992.
إلي جانب محاضراته الفلسفية المثمرة مما جعله زميلا لعدد من الجامعات آخرها ألبيرتا عام 2009 وإيسكس عام 2010.. ثم نال جائزة إليوت عام 2011.. ويستمر نجم والكوت ويزداد بريقا جامعيا ومسرحيا.. فينتقل من بوسطن إلي جامعة هارفورد التي واجه فيها عنصرية شديدة إلي درجة أن بعض الأساتذة المتعصبين بها دبروا له فضيحة جنسية مع صبي صغير.. ولكن أبناءه وزملاءه المخلصين الذين يعرفونه عن قرب.. وأدركوا أخلاقياته التي تمثل قيم المنطقة التي جاء منها.. وقفوا جميعا بقوة أمام هذا الافتراء.. حتي أثبتوا براءته وأن ما تعرض له ليس أكثر من مجرد مكيدة.
أعيد فتح هذا الموضوع من قبل متعصبين آخرين عندما انضم لأوكسفورد عام 2009 وذلك عند ترشيحه رئيسا لقسم الأدب هناك.. فناء بنفسه بعيدا وتنازل عن الترشيح الذي قاده له زملاؤه وتلاميذه.. بل وترك الجامعة بأسرها.. وتطور الأمر عند استقالت زميلته من رئاسة القسم بعد نجاحها في الانتخابات لتضع المتعنتين والمتعصبين في ورطة ومأزق كبيرين.
كتب والكوت ما يزيد عن 30 مسرحية باللغة الإنجليزية ذات اللهجة الكاريبية.. وحاول فيها إبراز هويتهم وقيمة الشرف والكرامة عنده.. والتقاليد التي تحترم الأصول والجذور ولا تعتبرها عائقا للترابط بل هي السبيل الأمثل للتوحد والقوة.. تلك القوة التي منحته تميزا جعل الفرنسيين والأمريكان يتعاركون علي انتمائه لكل منهما.. فالفرنسيين اعتبروه فرنسيا بحكم أن سانت لويسا كانت فرنسية وقت ميلاده وتناسوا أنهم استعبدوا أهله لسنوات طويلة.. والأمريكان اعتبروه أمريكيا بحكم قضاءه لفترات طويلة بجامعاتهم.. وكأنهم لم يلتفتوا لازدراء أهلها له عندما اقترب بتفوقه من رئاسة أحد الأقسام بإحدي جامعاتهم العريقة.. بينما والكوت فخر بكونه عملاق العالم السفلي وهو اللقب الذي منحته إياه صحافة الكاريبي.
حرص مسرح الجامعة بترينداد إلي جانب مسارح الجامعات الأمريكية المختلفة علي تقديم مسرحياته بالنهج الذي يتراءي له.. وتقدم الجامعة التريندادية والجامعات الأمريكية خلال هذه الفترة ثلاثة عروض متميزة تبين بوضوح نهج والكوت الكاريبي أولها عرض”تي جين وأخوته”.. عن ثلاثة أشقاء القوي والمفكر والمتدين.. والذين وجدوا في اتحادهم قوة يقاومون بها الشيطان.. وهو يمثل الأمل في اتحاد سكان الكاريبي ضد الغزو الخارجي.
ويستعرض فيه ذكريات الزمن الغابر.. وكيف كان يعيش الغزاة في ترف بينما أهل البلد في فقر وقمع.. وأن هذه الآلام يجب أن تتجدد بما تحمله من فكر..حتي يكون أبناء وشباب المنطقة وأجيالها القادمة مدركين..وأن يتخذوا من الحرص والحيطة حتي لا ينزلقون في أفخاخ المستعمرين بأشكاله الجديدة.
وعرض”بانتومايم”والذي يتبني فيه فكرة أن الصمت أبلغ من الكلام.. وأن التعبير أهم باللغة القومية الكاريبية الثقافية.. وكان حريصا علي انتهاج لغة حوار خاصة بصيغة نحن وهم.. مبينا كيف زرع الغزاة بذور الفتنة حتي يضمنوا السيطرة بعد خروجهم من هذه البلدان.. كما ناقش كيفية مواجهة هذه النبتات الشيطانية انتقالا إلي مرحلة ما بعد الاستعمار والصراعات الناتجة عن الجهل والحاجة.. ومتطلباتها التي تتوقف علي أمرين.. إزالة آثار هذا الاستعمار والتواصل بين مواطني المنطقة باختلافاتهم وخلافاتهم.
أما ثالث هذه العروض فهو”لحوم.. لا دجاج”الذي يقدمه المسرح الكاريبي بجامايكا عن أحداث واقعية يعود تاريخها لعام 1980 عندما حاول مستثمرون أمريكيون شراء مطعم ذي قيمة تاريخية من صاحبه لعمل مشروع خاص بهم نظرا لموقعه المتميز..ووقفته ضدهم.. ومراحل تطورها بداية من الحوار الذي تحول لتهديد ثم اعتداء جسدي مؤلم ونفسي أكثر إيلاما.
ويواصل في هذا العرض ازدراءه للدعوة الكاذبة للحياة الجديدة.. ومداعبة أحلام سكان المنطقة بمسميات مطاطة كالحرية والتجارة الحرة والثقافة الحرة”اللا ثقافة”.. والتي تؤدي إلي جعل الجميع يبدون في شكل وإطار واحد تحت مظلة العولمة التي تضيع معها المعالم والملامح والتقاليد والقيم الأخلاقية.

عن المصري اليوم