اللقاء الاول بين عبد الكريم قاسم والجواهري

اللقاء الاول بين عبد الكريم قاسم والجواهري

د. عقيل الناصري
رُفِعَ عبد الكريم قاسم في 12/04/1947 إلى رتبة مقدم ركن، ونقل إلى لواء المشاة التاسع. وفي هذه السنة يسافر إلى خارج العراق لأول مرة، وكانت واجهته لندن. كانت السفرة لأجل التطبيب الناجم عن عمله, وكذلك قيل معالجة الشق في شفته العليا، الذي ورثه منذ الصغر, وهذا ما أشار إليه بعض مُدرسيه.

يمكث قاسم في لندن ويستغل الفرص الزمنية المتاحة له من أجل الاطلاع ودراسة التطور الاجتصادي الذي شهدته بريطانيا وديناميكيته، ومستويات المعيشة ونموها مقارنةً بواقع العراق. ويركز الانتباه على كيفية حل مشكلة السكن. لأن هذه المشكلة كانت ولا تزال واحدة من المشاكل الاجتماعية/ الصحية المستعصية في أغلب بلدان عالم الأطراف ومنها العراق، لأن الأسر الفقيرة والفئات الوسطى المتوسطة وما دونها كانت تعاني من عمق هذه الأزمة منذ ذلك الوقت. وهو بالذات عاش هذه الظروف وتحسس معاناتها على نطاقه الذاتي أو/و الاجتماعي.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم مبررات توجهه إلى التركيز على هذه الناحية بعد الثورة، كمحاولة لاجتثاث الصرائف وأكواخ الطين التي كانت بمثابة أحزمة بؤس تطوق المدن الكبرى. لذا لم تخل مدينة عراقية في فترة حكمه من مشروع سكني حكومي، أو على الأقل توزيع الأراضي السكنية على الجمعيات التعاونية للموظفين وأصحاب الدخول المحدودة من كسبة وحرفيين, للعمال ومراتب القوات المسلحة، بل حتى ضباطهم.”كان قاسم مصراً ومصمماً على أنه سيوفر السكن لكل عراقي، لا يملك السكن خلال فترة قصيرة، وإن كل التشريعات التي تعرقل تنفيذ خطته هذه ستلغى وستبدل بغيرها”كما يعترف بذلك حتى مناهضوه.
و”اصبح هذا الفقير المعدم ذو الثياب المهلهلة حاكماً مطلقاً، ليزحف زحف الذين كفروا على الأكواخ والصرائف وعلى كل ما فيها من تعساء وليحيلها شققاً وعمارات وبيوت ترى لأول مرة النور والكهرباء والحدائق والشوارع، منتقماً من فقره وماضيه، ثائراً على مرارة واقع البؤساء”.
لقد حفزت هذه الزيارة ذهن قاسم وروحه المتمردة على التفكير بضرورة الإسراع لتهيأت الظروف الذاتية لحركة الضباط الأحرار لأجل إنجاز التغيير الكبير المرتقب عندما يحين ظرفه الموضوعي، بغية التماثل النسبي مع الأبعاد الحضارية التي تنعم بها أوربا.
ويتعرف قاسم أثناء الزيارة عن قرب بالجواهري الكبير، الذي كان أحد أعضاء وفد نظمته السفارة البريطانية في بغداد لمجموعة من الصحفيين العراقيين لزيارة لندن والاطلاع على معالمها وتعمير، ما خربته الحرب العالمية الثانية بفترة زمنية قصيرة. مَثَلَ هذا اللقاء بين الجواهري وقاسم بداية العلاقة المتميزة والقلقة بينهما.
وبصفاء لغته واعتزازه الكبير بذاته المتمردة يصف الجواهري هذا اللقاء بالقول:
“في الملحقية العسكرية بلندن… كانت بعثة عسكرية خاصة تضم ملحقين ومفدين من ضباط يتسابقون عليَّ ويجرني الواحد بعد الأخر من أرادني؟ وكان بينهم ضابط شاب، كان من دونهم، أشد إلحاحاً علي بأخذ حصة أكبر، أو الحصة الكبرى من الجلسات واللقاءات، من جملة ذلك أن اصطحبني إلى بيته وهو شقة متواضعة بملحقيتها. هذه”الدويرة”شهدت ثلاثة لقطات، تصح أن تكون على بساطتها ذات كلمة ومغزى، لما سيكون لهذا الرجل من دورٍ خطير في تاريخ العراق… لم يكن هذا الرجل سوى عبد الكريم قاسم”.
اصطحب الزعيم قاسم، الجواهري إلى مختلف مناطق لندن ليطلعه على معالمها، بعدما نفر من البرنامج الموضوع لهم ومن صحبة بعض الصحفيين الذين كانوا معه ضمن الوفد. كما كان قاسم بمثابة مترجم له عند مراجعة الأطباء وزيارة المعالم الثقافية. كان قاسم معجباً أيما إعجاب بالجواهري الكبير، في كثير من مواقفه السياسية المناهضة لسياسة نخبة الحكم وارتباطها ببريطانيا وفي دفاعه عن الفقراء والمحرومين، وفي قصائده الشعرية موضوعةً وهدفاً، المتميزة بالصورة الجمالية وصفاء اللغةً، وسلمها الموسيقي المنفرد في انسيابيته.
في ذات الفترة يسافر الوصي عبد الإله إلى لندن, حيث كان يقضي أجازته فيها,”وقد أرسل في طلب الجواهري, وتحادث معه طويلا حول ترشيحه إلى الانتخابات النيابية, وطلب إليه تمديد اقامته في لندن ليعود معه في وقت واحد إلى بغداد. لكن الجواهري اعتذر له بعدم امكانية بقائه لمدة أطول في لندن, وكان متضايقاً من اقامته فيها.
... خرج الجواهري من اجتماعه بعبد الإله متوجها إلى الموعد مع صاحبه (الضابط برتبة رائد), حيث حجز له موعدا مع طبيب الاسنان وفي الطريق تحدث إليه عن الانتخابات النيابية المزورة, وخلو مجلس النواب من أصوات وطنية محترمة, لكن الضابط أنتقل بالحديث , إلى حفلة المساء الماضي وأبدى دهشته وارتياح الجواهري على كرنلواليس. وأخذ يترجم له الخبر المنشور تحت الصورة في الجريدة وخبر رويتر قائلا ببراءة أن الشعراء مسموح لهم كل شيء, وهم يشكون من عدم وجود الحرية. أما نحن العسكريين, فلا نتمتع بأية حرية ولا نشكو من انعدامها”.
بعد ذلك, كان قاسم”يتابع مواقفي الوطنية والاجتماعية، وبخاصةً الشعرية منها. وكنت الوحيد الذي يناديني ب”الأستاذ”أمام اتباعه وغيرهم وفي أكثر من موقف…”. كما كان قاسم منذ بدء علاقته”صادقاً معي كل الصدق وأميناً كل الأمانة ونظيف كل النظافة في حفاظه على تلك العلاقة، وصحيح كذلك أنه لم يصل مدني واحد في العراق هذه الدرجة من الثقة والوطادة والعلاقة… حتى وصل الحد به إلى أنه أعلن وهو يفعل ما يقول: أنني لا أرد طلباً للجواهري …".
استمر هذا الفراق المؤجل لغاية ثورة 14 تموز حيث تجددت العلاقة بينهما ثانيةً ببعدِ جديد ذا علاقة خاصة ومضامين بنائية مستهدفة.. وقد”تقاسم الصديقان الزعامة!! عبد الكريم قاسم زعيم السلطة السياسية. والجواهري زعيم السلطة الثقافية وزعيم الصحافة”. وكان عبد الكريم قاسم”... يتعامل مع الجواهري صديقاً وسياسياً, كما هو شاعر كبير, فيشاوره في الأوضاع السياسية, ويجالسه طويلاً في الإسبوع أكثر من مرة...

ويشير د. الأعرجي إلى واقعة ذات دلالة. يقول:”فقد كان يحز في نفسه أنّ هذه الأحزاب العراقية يوم تقتسم المناصبَ السياسية, أو يوم يُخيَّل لها أنّها ستقتسم لا ترى فيه أكثر من شاعر, ومن هنا كان يروي بمرارةٍ أنّه زار الزعيم عبد الكريم قاسم ذات مَرّة في مقرِّه بوزارة الدفاع, فوجد الفقيد الأستاذ عامر عبد الله عنده, فكان في جلسة عامر ما يوحي أنه أعطى ظهره للجواهري, وتنبه الزعيم إلى ذلك فقال لعامر بشيء من العصبية:
عامر , هذا الأستاذ الجواهريّ!
فعدل من جلسته".(التوكيد من-ع.ن).
هذه الصفة التي تمتع بها الجواهري في دفاعه وتبنيه مطالب الجماهير الفقيرة وتوحدهِ مع معاناتهم, هي التي دفعت قاسم أكثر فأكثر إلى لقياه, كمشروع مشترك وَمعلَمَاً أدبياً رفيعاً, والذي كان آنذاك في خضم التهيئة لانضاج البعد الذاتي لحركة الضباط الاحرار. وفي الوقت نفسه إعجابُ الشاعر العميق في لا وعيه يومها بشخصية عبد الكريم قاسم وهو يحث الخطى في اشباع جزء من الحاجات المادية للجماهير الواسعة من الفئات والطبقات الكادحة التي دافع الجواهري عنها وتوحد معها وتطلعاتها.

ثم انتكست هذه العلاقة ضمن الخارطة الجديدة للقوى السياسية وموقف كل منهما إزاء ما كانت الحياة تطرحه من ضرورات ولزومات، من مهام وأعمال، وما رافقها من صراع سياسي/فكري طال المجتمع العراقي بكل مكوناته عمودياً وافقياً، وبالتالي أوجد ما أوجد من تفسيرات مختلفة ومتباينة لحل مثل هذه الإشكاليات.

وحدث الافتراق بينهما والذي كان للبعد الذاتي فيه دورا كبيراً لكلا الطرفين.. وإن كان للجواهري الكبير وروحه المتمردة ونرجسيته العالية القدح المعلى في ذلك وعدم تحقيق”أحلام الجواهري التي كانت قد لازمته أربعين عاماً في ان يصبح وزيرا ً... ومن شعوره العميق بأنّه هو الزعيم الحقيقي الذي عليه أن يُوجَّه وليس سواه سواء أكان هؤلاء الزعماء زعماء سياسيين, ام جمهوراً, أو أجزاباً”. وقد عبر عنها بعد ثلاثة عقود من الزمن في مذكراته، بصورة غير متسقة مع ماهية ذاته، ولا مع واقع صيرورتها الموضوعية، وغير مقنعة لا لنفسه ولا للآخرين.

يقول الجواهري:”...غير أني أستطيع التأكيد ثانيةً أن عبد الكريم قاسم كان يملك ضميراً حياً ونزاهة نادرة, وبساطة في اللباس والحياة والمأكل, مما جعله يضاف إلى قائمة المترفعين عن المظاهر والمكاسب وجاه الثورة وهو ما أغفله الكثيرون من الكتاب والصحفيين والمؤرخين... وأراها مناسبة للقول إن الكثيرين من هؤلاء لم يتعاملوا مع التاريخ ولا بل أمانة مع واقع حال هذا الرجل وكثيرون منهم كتبوا إما بدوافع سياسية أة بدوافع شخصية أو بدوافع مصلحية... الاسباب التي جعلت لأكثرهم يبتعد عن الحقيقة... وبذلك لم أعتمد أحداً منهم وأنا أكتب تاريخ هذا الرجل إلا القلة النادرة.