من الذاكرة.. عندما كان مكتب رئيس الوزراء يضم عشرة موظفين فقط

من الذاكرة.. عندما كان مكتب رئيس الوزراء يضم عشرة موظفين فقط

د فخري شهاب
في مطلع عام 1958 عينت مديرا عاما لدائرة جديدة أحدثت في مقر مجلس الوزراء العراقي سميت بدائرة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وبعد شهرين أو ثلاثة شهور استقالت الوزارة التي عينت في عهدها (وكان يرأسها رجل كريم وسياسي محنك هو المرحوم علي جودت الأيوبي، أحد افراد الرعيل الهاشمي الذي قاد الثورة العربية ابان الحرب العالمية الاولى)،

فخلفه سياسي أصغر سنا، كان هو ايضا لين العريكة، طيب القلب، وعلى خلق عظيم، هو المرحوم عبد الوهاب مرجان، وكانت تلك وزارته الأولى. كما عيّن بعد نحو شهر من تعييني في منصبي الجديد مديرا عاما لدائرة الشؤون السياسية.
وقد كنت عرفت الاستاذ السيد عبدالوهاب مرجان قبل ذهابي الى اكسفورد وفي ظروف لا تنسى، ذلك أني عرفته يوم كنا، نحن الاثنين، محاميين اتفق أن ترافعنا في محكمة الحلة البدائية، ويظهر أنه كان قد بدر منه في خلال المرافعة ما استفزني، فأجبته بخشونة أذهلته.
ويخجلني اليوم أن أتذكرها، ومع أني كسبت القضية التي جمعتنا، الا أن سلوكي تجاه زميلي كان لا يغتفر!

في مكتب رئيس الوزراء
وافترقنا بعد هذا فلم نجتمع حتى جمعتنا ظروف العمل في مقر مجلس الوزراء العراقي ببغداد: هو رئيس للوزراء وأنا موظف مدني في مكتبه. وكانت قد جرت العادة أن يخف موظفو المجلس، عند تغيير الوزارات، الى تهنئة الرئيس الجديد بمنصبه، وهذا ما فعل زملائي في مكتب الرئاسة. أما أنا، وكانت العلاقة بيني وبين الرئيس الجديد على ما وصفت، فقد قررت ألا أفعل! وقد وصلت الى ذلك القرار لقناعتي بأن السيد عبدالوهاب، وقد سبق أن عرفني في حلبة أخرى، كان حتما سيحاول التخلص مني بنقلي الى منصب آخر خارج مقر المجلس، وانتظرت اسبوعا، فلم يتحرك ساكن، وقبعت في مكاني أترقب الأحداث.
ولم يطل انتظاري، إذ سرعان ما رن جرس التلفون في مكتبي رنينا طويلا مزعجا، ليخبرني عامل التلفون (ولم يكن التلفون الاوتوماتيكي معروفا يومئذ) أن «فخامة الرئيس”يريد أن يكلمني. هذه هي اذاً اللحظة المنتظرة، قد أزفت، وأتى أخيرا ما كنت توقعت! فرددت على نداء «فخامة الرئيس»، وتوجهت توا الى مكتبه كما طلب.
دخلت مكتب رئيسي الجديد، ففوجئت بقيامه لاستقبالي؛ ثم أشار لي بالجلوس، فاخترت كرسيا قريبا كان على يمين مكتبه، وجلست غير آبه بهذه الحفاوة الشكلية التي غمرني فخامته بها، فهي ولا شك، تقدمة لما سينكشف من نواياه! وبعد ترحيب مختصر، افتتح فخامته الحديث فقال: «أردت أن أبحث معك موضوعا مهما تطرقت اليه في الخطاب الوزاري، هل قرأته؟”ولا داعي للقول إن الجملة الاولى التي افتتح رئيسي بها حديثه كانت مباغتة لم أكن أتوقعها ولا كنت مهيأ لها، فأرتج علي وبدا علي ارتباك حاولت التغلب عليه، فقلت: «واي فقرة في الخطاب تعني، فخامة الرئيس؟» (وكان ذلك ردا أسعفتني البديهة به اذ لا داعي للقول إني ما كنت قرأت خطاب الاستيزار الذي جرى العرف الدستوري يومئذ بكل وزارة جديدة أن تعده لمجلس النواب فور استلام الحكم)، قال فخامته شبه معتذر: «آسف، أقصد الفقرة التي ورد فيها ما قطعته هذه الحكومة على نفسها من تحقيق العدالة الاجتماعية للعراقيين»، ثم أردف يقول: «أعدْ قراءته رجاء، واكتب لي مذكرة شاملة تفصل الخطوات التي على الحكومة اتخاذها لانجاز ما وعدت به». ثم اختتم فخامته الاجتماع بقوله: «اتركوا أي شغل آخر أنتم عاكفون الآن عليه لانجاز هذا التقرير قبل نهاية الاسبوع إن أمكن”- وقال جملته الأخيرة بصوت اقرب للتضرع منه الى الأمر! فأكدت لي نبرة صوته وملامحه واستعماله صيغة الجمع في مخاطبتي، أنه كان جادا في طلبه، وأن مخاوفي كانت أوهاما لا مبرر لها في الحقيقة. واستأذنت بعد هذا وعدت الى مكتبي.
سذاجة وجهل
راودت ذهني أفكار شتى بعد ذلك اللقاء القصير الغريب: أذكر بوضوح اليوم منها عظيم ارتياحي لاحتفاظي بوظيفتي التي خشيت فقدانها، وأذكر منها ما بدا على رئيسي الجديد من جدية واستعجال لتحقيق مطلبه، وفكرة أخرى ما انفكت تلازمني حتى الان، وهي محاولتي اقناع نفسي بأن ما عشته خلال الدقائق الماضية، كان أمرا قد وقع فعلا، وليس حلما تراءى لي! فقد أذهلتني سذاجة رئيسي الجديد وعظيم جهله! أكان يحسب جادا أن ما كان موضع نقاش عقودا طوالا بين المفكرين والسياسيين وقادة الرأي العام، وما ناقشته الاحزاب المختلفة نقاشا مستفيضا في الغرب، سيلخص في مذكرة أحررها أنا خلال أيام قلائل؟ ثم عدت الى واقعي الذي كنت أعيش فيه: هذا سياسي جديد، يريد أن يبني كيانه السياسي، وقد اكتشف فكرة بناءة اكتسبت شعبية واسعة (في الغرب)، وخاصة بعد أن تبنتها الحكومة البريطانية في أخريات الحرب العالمية الثانية، وتبناها بحماس ووسعها ثم قنننها وعمل بها حزب العمال، بعد فوزه بالانتخابات بعد الحرب، ثم عمت العالم المتحضر بأسره، فلمَ لا تطبق في العراق اذن؟
والرد أنه لا مانع، بديهة، من اقتباسها والعمل بها، ويعلم الباري تعالى أن مجتمعنا أحوج ما يكون اليها، والبطالة بيننا منتشرة، والأمراض متفشية، والفقر مدقع، والامية شائعة! الا أن ما أذهلني وآلمني في الوقت ذاته هو سذاجة رئيس الوزراء الجديد، وقناعته أن تنفيذ مشروع ضخم، واسع، مكلف، كهذا هو من البساطة، بحيث أنه لا حاجة به للدرس والتحضير! فليس لصاحبنا الا فكرة غامضة عامة عما ينوي الاقدام عليه!

فكرة إيجابية
ثم أعدت النظر في الأمر، فقررت اتخاذ موقف ايجابي مما جوبهت به، فعسى أن تكون هذه المحاولة بدء تجربة اجتماعية تنفع الشعب!.. وهذه فرصة سنحت لخدمة العباد، أفليس من الواجب ان أغتنمها وأعين على تحقيقها؟ ولم أجعل جهل الرجل الذي يحاول ادخالها سببا لإحباطها بدلا من إعانته على تحقيقها؟ وافرض أن دوافعه كانت سياسية، أفليست الفكرة في ذاتها فكرة ايجابية، والشعب بحاجة ماسة لها؟
خطر لي، وأنا أعرض هذه الافكار في ذهني، المثل المشهور: «الأعور في مملكة العميان...الخ»، وقلت: فليسْد. هذا «الأعور”الى هؤلاء المساكين ما يمكن لتخفيف بؤسهم وآلامهم! وكذلك بدأت العمل.
كان لا بد أولا من الاطلاع على بيان الاستيزار لأرى ما وعدت به الحكومة الجديدة المواطنين، لتكون تلك نقطة البدء التي يبنى عليها المشروع، ولكن كانت تلك فاتحة متاعبي كما سيرى القراء الكرام.

مجلس وزراء من (10 ) اشخاص
هنا استميح القارئ الكريم في استطراد لا بد منه لأعطي فكرة عن تكوين مقر مجلس الوزراء العراقي في عصر الملكية:
كان مقر مجلس وزراء «المملكة العراقية”يتكون مما لا يزيد عن عشرة أشخاص: «فخامة الرئيس»، ومرافق له هو عادة ضابط من الجيش برتبة «مقدم»، وشرطي («عريف») يحرس الرئيس، وفراش يخدمه وينقل أوراقه (الضمير يعود للرئيس)، ويعاون رئيس الوزراء وزير (مسن، لا يتغير بتغير الوزارات!) لشؤون مجلس الوزاء، يضطلع بوضع جدول الأعمال لاجتماعات المجلس الاسبوعية، وهو يشارك الرئيس في خدمات الشرطي الحارس والفراش، كما كان للرئيس ووزيره «رئيس كتاب”يخدمهما ويخدم كل من طلب المساعدة ممن قد يريدها، مثلي أنا ولم يكن لي سكرتير أو سكرتيرة أو مساعد، بل «فراش”واحد!، وأخيرا كان للمجلس بكامله كاتب واحد (وعنوان وظيفته: «كاتب الصادرة والواردة») لتسلم ما يرد الى المجلس من وثائق من الوزارات المختلفة وتسجيلها، وحفظها، وتسجيل ما يصدر عنه (المجلس) من وثائق للوزارات وتسجيلها، ومن كاتب للحسابات كنت أراه عند تسلم مرتبي آخر كل شهر، واذا كان ثمة موظفون آخرون، فإني لم أسعد برؤيتهم او التعرف بهم.
عودة الآن الى ما كنت بصدد الحديث عنه: محاولة الاطلاع على خطاب الاستيزار، ونزولا عند تعليمات «فخامة الرئيس»، والتزاما مني بإنجاز ما عُهد به الي من تقديم تقريري في موعده، قبل نهاية الاسبوع، وعلما أنا كنا في يوم الأحد يومئذ، فقد بادرت بالعمل فورا.

رهان على الخيل
وكانت الخطوة الاولى استدعاء «كاتب الصادرة والواردة”للاستعانة به في البحث عن خطاب الاستيزار لأطلع على فحواه، واستعين بما ورد فيه عن نية الحكومة الجديدة في تطبيق برنامجها لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب! وبعد البحث والتحري عن الكاتب المذكور اتضح أنه، كعادته في كل يوم أحد من كل أسبوع، غادر مكتبه مبكرا لوضع رهانه في سباق الخيل الذي كان يقام مرتين في الاسبوع: الاحد والخميس! واذن فلا بد من تأجيل البحث عن خطاب الاستيزار الى الغد، وما على «فخامة الرئيس»، وعليّ، بل وعلى الشعب العراقي بأسره الا أن ينتظر، وذلك ما حصل!
وفي صباح الاثنين حضر الكاتب المعني الى مكتبي مرتبكا معتذرا، فلم أعاتبه على تصرفه، وبادرت فأخبرته عما أردت البحث عنه، وحسبت، وأنا انظر اليه ساعتئذ، أن ارتباكه قد ازداد، ولكنه وعد بانجاز ما طلبت، وانصرف على عجل. وانتظرت نحو ساعتين، فلم أسمع من الرجل، فخابرته تلفونيا، فقال أنه مازال مستمرا يبحث عن الخطاب المطلوب، وأنه لم يجده، وأنه سيحضره لي فور أن يجده، ومضت ساعة أخرى فحضر صاحبنا صفر اليدين، فليس من وثيقة في ديوان مجلس الوزراء العراقي لها صلة من قريب أو بعيد بالخطاب! قلت لصاحبي، وقد ضقت ذرعا بالفوضى التي وجدتني فيها، «افرض أنه تعذر العثور على نص الخطاب في ملفات ديوان مجلس الوزراء، ألا يمكن البحث عنه في الصحف التي نشرته قبل أيام؟»، وجاءني رده فورا: «الديوان يتخلص من الصحف اولا بأول: نحن لا نحتفظ بالصحف بعد الانتهاء منها». فتجاهلت ما سمعت وتناولت الهاتف على مكتبي وطلبت من عامل التلفون ان يصلني برئيس تحرير أكبر صحف بغداد اليومية، جريدة «الزمان”يومئذ، على ما أذكر، ورجوت الرجل أن يتكرم فيرسل لي شخصيا نسخة سابقة من الجريدة التي نشر الخطاب فيها، ففعل ووصلتني الجريدة المطلوبة في نحو نصف ساعة، وكفى الله المؤمنين شر البحث عن خطاب «فخامة الرئيس”في ديوان مجلس الوزراء العراقي الموقر.
وأخيرا وصلت الجريدة التي كنت أبحث عنها، وقد ملأ صفحتها الأولى عنوان الخطاب المنشود، ويا ليتها لم تصل! إذ بعد أن قرأت الخطاب من أوله الى نهايته، لم أجد فيه غير جملة واحدة عابرة عن «العدالة الاجتماعية”التي أشار فخامة الرئيس اليها، وهي الآتية: «وستعمل هذه الوزارة على تحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد»! هذا ما أسفرت عنه جهود البحث حتى الآن!
ولا داعي للقول إني لم أر حاجة للرجوع الى فخامة الرئيس للاستنارة بإرشاداته، فما حسبت أن ارشادات فخامته ستسعفني أو ستشفي مرامي، وقد أكد الواقع ذلك على ما سيرى القارئ الكريم بعد قليل.
النموذج البريطاني
وتوكلا على المعين الوهاب، وعلما بأني كنت تابعت برنامج الحكومة البريطانية للرعاية الاجتماعية الذي بدأ الحديث عنه في اخر سني الحرب العالمية الثانية، واني كنت في بريطانيا وتابعت سير التشريعات والنقاشين البرلماني والاعلامي اللذين صحبا تلك التشريعات، قررت الشروع في كتابة مقترحات يمليها العقل وتجارب البلاد الاخرى، وعلى الله الاتكال!
بدأت تقريري اولا بتعريف العدالة الاجتماعية، فقلت إنها توفير البيئة التي تتعادل فيها الفرص أمام المواطنين لاظهار ما لديهم من كفاءات وطاقات لمصلحة المجتمع بأسره من دون تمييز مصدره العرق او الجنس أو اللغة او الدين. وقلت إن ذلك يتم عملا بأن يضمن المجتمع (ممثلا في الدولة) للفرد حدودا دنيا تضمن له سلامة حياته، وصحته، وسكنه، وتعليمه. وتضمن له بعد أن يصل آخر العمر مستوى من المعيشة مقبولا تتوافر فيه الشروط المتقدم ذكرها.

14 مليوناً
ثم انتقلت الى احتساب ما يعني ذلك عملا: ففحصت الموقف السكاني (الديموغرافي) يومئذ، وما يتوقعه الاحصائيون من تغيرات في تركيب «الهرم» السكاني في أرجاء المملكة كافة، وأوضحت ما تعني هذه التوقعات من الناحية المالية، فخرجت بنتيجة لا تقبل النقاش، وهي أنه بناء على تلك المعطيات، فان الحكومة بحاجة الى أربعة عشر مليون دينار سنويا خلال كل سنة من السنوات الخمس المقبلة لتحقيق برنامج للعدل الاجتماعي في المملكة. ثم طرحت سؤالا مهما، وهو كيف ستواجه الحكومة نفقة هذا البرنامج؟ فكان الجواب: اما عن طريق الضرائب، أو عن طريق واردات النفط (وكانت برمتها مخصصة لمناهج الاعمار يومئذ). قلت إن ذلك قرار سياسي يترك للحكومة الفصل فيه. وجاء التقرير في أربع عشرة صفحة مطبوعة! وبما أن فخامة الرئيس كان هو الذي كلفني بإعداد الدراسة، فلم أر من واجبي أن اقدمها عن طريق وزير شؤون المجلس، بل رفعتها الى رئيسي الذي كلفني باعدادها بادئ ذي بدء، أعني رئيس الوزراء نفسه.

مذكرات فخري شهاب - بغداد 2001