العالم يودِّع أبرز رموز  النقد الأدبي في العصر الحديث

العالم يودِّع أبرز رموز النقد الأدبي في العصر الحديث

عواد علي
لا تراجع عن دور النقد في إثارة التساؤلات وكشف الحقائق، في إنجاز إنساني لصيق بالفلسفة والفن والوعي، وقليلون هم النقاد والمفكرون الذين تحلوا بالشجاعة وقدموا أعمالهم بجرأة بعيدا عن الحسابات الأيديولوجية أو غيرها، فانتصروا للفكرة قبل الانتصار لصاحبها، ومن هؤلاء كان الفيلسوف والناقد الفرنسي البلغاري الأصل تزفيتان تودوروف،

الذي غادرنا مساء الثلاثاء السابع من فبراير الجاري، في وقت حرج من تاريخ الإنسانية الذي يتصاعد فيه التطرف والعنف يوما فآخر، ولا بديل عن دور المفكرين من أمثاله في تقويم مساره.

فقد النقد الأدبي الحديث، برحيل الناقد والمفكر الفرنسي، البلغاري الأصل تزفيتان تودوروف (1939 2017-)، واحدا من أبرز رموزه في النصف الثاني من القرن العشرين. بدأ مسيرته النقدية عام 1965 بكتاب “نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس”، بعد فراره من نظام شمولي يحكم بلده بلغاريا إلى باريس.
ومن خلال هذا الكتاب عرّف الغرب بنصوص هذه الجماعة التي أحدثت ثورة في مجال تحليل الخطاب الأدبي، وفق منهج موضوعي، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بتأكيدها على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها، ورفضها مناهج النقد الأدبي الاجتماعية والنفسية والتاريخية التي كانت سائدة حينها. لكنها قُمعت بتهمة تقاطعها مع المنظور الاشتراكي للأدب.

الشعرية والحوارية
تواصلت مسيرة تودوروف لينشر 20 كتابا نقديا وفكريا، منها: “الشعرية”، “شعرية النثر”، “فتح أميركا”، “ميخائيل باختين: مبدأ الحوارية”، “حول التنوع الإنساني”، “مفهوم الأدب”، “الأمل والذاكرة”، “الحديقة المنقوصة: تركة الإنسانية”، و”الأدب في خطر”، وهو آخر كتاب له صدر عام 2007 يستذكر فيه ماضيه الشخصي والفكري.

من الشعرية إلى
ألف ليلة وليلة ومن البنيوية إلى فكر الأنوار
رغم أن فرنسا منحته بحيويتها الثقافية، وجامعاتها ومراكزها البحثية، فرصة شحذ ملكاته التأملية والمعرفية، وافتخرت بإنجازاته، فإنها ضاقت أحيانا بجرأته وحكمته المنحازة للعدل والحقيقة ضد جموح السياسة عندما تنفصل عن الأخلاق والحس الإنساني، وفضحه خيانات الغرب الديمقراطي للأسس التي بنى عليها مجده، وللقيم الإنسانية التي بشّر بها.

بتأثير من التوجه الألسني، وجهود الشكلانيين، خاصة جاكوبسن، التي تمحورت حول القواعد الجمالية التي يتشكل منها النص الأدبي، والتحول من الشكل إلى البنية، وإقصاء المؤلف، والانشغال بالأنساق الداخلية للنص، انصبّ الاشتغال النقدي لتودوروف على موضوع “الشعرية” (البويطيقا)، ليخلص إلى أن العمل الأدبي ليس في حد ذاته موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي (الخطاب الأدبي)، وكل عمل عندئذ لا يُعدّ إلاّ تجليا لبنية محدودة وعامة، وإنجازا من إنجازاتها الممكنة. وبتعبير آخر تُعنى الشعرية بالخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي “الأدبية” التي تشكّل مجالا أشمل منها، كون موضوعها هو علم الأدب الذي يُعنى بالآليات، وطرائق الصياغة والتركيب.

اهتم تودوروف بمفهوم “التناص” من خلال المفهوم المعادل له، وهو “الحوارية”، مؤكدا أنه من الوهم الاعتقاد بأن العمل الأدبي له وجود مستقل، ذلك لأنه يظهر مندمجا داخل مجال أدبي ممتلئ بالأعمال السابقة، وعليه يتحول كلّ عمل فني عبر دخوله في علاقة معقدة مع أعمال الماضي.

واقترح المفكر في كتابه “ميخائل باختين، المبدأ الحواري” تقسيم المبدأ الحواري إلى مفهومين: مفهوم “الحوارية”، بمعناه الضيق، ومفهوم “التناص” كما حددته جوليا كريستيفا، مع احتفاظه بـتسمية “الحوارية” لبعض الحالات الخاصة للتناص، مثل تبادل الأجوبة بين متحاورين، أو في التصور الذي أعده باختين عن الشخصية الإنسانية. ورأى أن مفهوم “الحوارية” ينتمي إلى الخطاب وليس إلى اللغة، فالعلاقة الحوارية تنشأ بين النصّ السّابق والنصّ اللاحق، ويتسم الخطاب الأول بسمة أحادية، بوصفه حدّا، أما الخطاب اللاحق فهو متعدد القيم.

ألف ليلة وليلة
انطلق تودوروف في كتابه “شعرية النثر” من تحليل دقيق لأشكال المسرود ووظائفه ووجد نفسه ملتزما بتفكير يتم فيه التساؤل حول تقدم الداخل على الخارج والأصيل على المنسق والحضور على الغياب والكائن على الآخر. واستعرض خصائص النص المسرود في الأوديسة، مبينا أساليب استخدام الكلام المموه، ومؤكدا أن الأوديسة لا تحوي أي مفاجأة، فكل شيء قد قيل سلفا، وكل ما قيل فيها حصل، معتبرا أن هذا يضعها في تناقض كبير مع المسرودات اللاحقة، إذ تلعب المفاجأة دورا أكثر أهمية بكثير.
وفي دراسته لحكايات “ألف ليلة وليلة”، ذهب تودوروف إلى أن أحداثها غير المتعدية هي التي تجليها، فالحدث يقتضي نفسه، ولا يقتضيه غيره ليكون أثرا دالا على هذه السمة الشخصية أو تلك. ولذا عدّها من “الأدب الإسنادي”، حيث يكون التركيز فيها دائما على المسند، وليس على المسند إليه في الجملة. ويرى أن المثل الأبرز على اختفاء المسند إليه تعبّر عنه حكايات السندباد البحري، فهي، رغم كونها تُحكى على لسان الشخص الأول، تبقى غير شخصية (مبنية للمجهول).
ولاحظ تودوروف، في السياق نفسه، أن الشخصية في “الليالي” هي الحكاية المحتملة، إنها حكاية الشخصية، وإن كل شخصية جديدة تعني عقدة جديدة، ويصف ذلك بـ “مملكة البشر- الحكايات”، فما إن تظهر شخصية جديدة حتى تنقطع الحكاية السابقة لتبدأ حكاية أخرى تُتلى علينا. وهكذا تشتمل الحكاية الأولى على الثانية. وهذه الطريقة تسمى “التضمين”. وثمة حكايات في “الليالي” تبعث على الدوار، مثل حكاية “الصندوق الدامي” التي تضرب الرقم القياسي في التضمين. وتُعدّ الحكاية الأخيرة من الدرجة الخامسة. وتصل طريقة التضمين إلى ذروتها مع التضمين الذاتي، أي عندما تجد الحكاية المتضمنة نفسها وقد تضمنت ذاتها في الدرجة الخامسة أو السادسة.
وربط تودوروف بين استمرار رواية الحكايات وتعددها في “الليالي”، وبقاء الرواة على قيد الحياة (فـ “روى” يساوي “عاش”)، والمثل الأكثر بداهة هنا هو شهرزاد نفسها، التي تعيش فقط ما دامت تستطيع أن تتابع الحكي، وإذا ما توقفت فإن مصيرها الموت على يد شهريار، ويتكرر هذا الموقف في داخل الحكايات.

الخاصية البنيوية الأخيرة التي وجدها تودوروف في “الليالي” تتمثل في حاجة الحكاية المتضمنة إلى أن يُعاد أخذها في حكاية أخرى لأنها لا تكتفي بذاتها، بل تحتاج إلى تطويل، وإلى إطار تصبح فيه جزءا بسيطا من حكاية أخرى، وكأنها تمتلك شيئا تتمه، أو فائضا، أو ملحقا يبقى خارج الشكل المغلق الذي ينتجه تطور العقدة. وتأخذ هذه التتمة عدة أشكال، أكثرها شيوعا هو البرهان والحجة.

قدّم تودوروف في هذه الدراسة تحليلا بنيويا بارعا، من خلال ملاحظته التقاليد السردية التي تنفرد بها حكايات ألف ليلة ولية، يبرز ثراء هذه الذخيرة العربية وخصوصيتها البنائية من جهة، ويكسر القواعد التي استنبطها النقد الغربي، ممثّلا بهنري جيمس. في تحليل مفهوم وسلس لا يغرق القارئ في ترسيمات وتهويمات شائكة.