من كان وراء مقتل بكر صدقي..؟

من كان وراء مقتل بكر صدقي..؟

كاميل صبري
اجمع المؤرخون على ان الملك فيصل الاول كان من الشخصيات القوية وان له من القابليات ما يندر وجودها في غيره، وبهاتين الميزتين اصبح المسيطر الوحيد على رجالات الدولة وشؤونها ومع مرور الزمن على اقامة عرشه، عرف قابليات ونوايا وسجايا افراد شعبه في السياسة والادارة والمالية فوضع كل شخص بنسبة كفاءته في المنصب الذي يؤدي فيه عملاً بناء وليس عملاً اعتباطياً

مما جعل العراق على الرغم من حداثة نشوئه وتحمله اعباء التبعية واحداً من البلدان المستقرة.
واثر وفاة الملك المؤسس فيصل الاول في الثامن من ايلول 1933 والمناداة بالامير غازي ملكاً على العراق رأى الذين حرموا من الطعام الدسم ان يتقربوا من الملك الجديد ليتسنى لهم تدوير دفة البلاد كما يريدون فاتخذوا من الفتن والدسائس والحط من قيمة الاخرين وسيلة لنيل مبتغاهم وارواء غليلهم فتنافسوا على اشغال المناصب.
وتعيين من يرغبون فيهم في مجلس الامة او مجلس الاعيان بل حتى في المناصب الخطيرة بغض النظر عن الكفاءة. بهذا التكالب على الغنائم هدرت حقوق وتضخمت رشاوي واخذ الكيان الذي بناه فيصل الاول ينهار شيئاً فشيئاً وفي الوقت ذاته تحرك الخاصة والعامة يعبرون عن سخطهم وكراهيتهم لما يحصل. القوى السياسية.. صراع واختلال في التوازن بعد وفاة الملك فيصل عام 1933 قرر حكمت سليمان العمل على كسر الطوق الذي اجاد رؤساء الوزارات السابقين وغلقه حولهم وان يستند إلى قوة يحطم بها اعداءه فاختار الاستفادة من مواهب الفريق بكر صدقي الذي تلألأ صيته في سماء العراق ولم يمض وقت طويل حتى استطاع حكمت سليمان ان يحول بكر صدقي الى جانبه واختمرت بينهما فكرة قيام الجيش بانقلاب عسكري، نوى حكمت سليمان في حالة نجاحه تبديل الملكية بنظام جمهوري وتنصيب نفسه رئيساً له.

كيف اصبحت ديالى منطلقاً للانقلاب؟
اخذت الاحلام والافكار الملتوية تراود ذهن حكمت سليمان زاعماً بان بكر صدقي وافق على خطته بدعوى انقاذ الشعب العراقي مماهو فيه وتواصل سعيهما في الاعداد للانقلاب حتى صار اليوم الذي قررت وزارة الدفاع فيه قيام الفرقتين الاولى بقيادة الفريق عبد اللطيف النوري والثانية بقيادة الفريق بكر صدقي بتمارينها العسكرية الموسعة ضمن حدود محافظة ديالى فتنفس بكروحكمت الصعداء بدخولهما الى المرحلة الاولى من مراحل تنفيذ الانقلاب وبعد ان تسلم بكر صدقي وكالة رئاسة اركان الجيش اثر سفر رئيس الاركان الى خارج العراق امر الفرقتين بالمباشرة بتنفيذ التمارين في 15/10/ 1936 وتأمين متطلباتها من عتاد وسواه وفي مساء يوم 27/10/1936 ذهب بكر صدقي الى بلدروز وفاتح قائد الفرقة الاولى بما اتفق عليه مع حكمت سليمان مقنعاً اياه بان الغاية من تقدم الجيش لاتتجاوز الضغط والتهديد لاسقاط الوزارة لكي تتشكل وزارة غيرها واوعده ان يكون نصيبه فيها وزيراً للدفاع. في 28/10/1936استبدل بكر صدقي خطة التمارين بخطة جديدة تضمنت تقدم وحدات الفرقتين باتجاه بعقوبة تمهيداً لزحفها الى بغداد في29/10/1936.

مقتل جعفرباشا العسكري
مع شروع وحدات الفرقتين بالتقدم نحو بغداد حمل العقيد شاكر الوادي كتاباً من بكر صدقي الى حكمت سليمان ليسلمه بدوره الى الملك غازي طالباً منه اقالة الوزارة فوراً وراجياً اياه ان لايدع مجالاً لسفك الدماء وقد دهش رستم حيدر رئيس الديوان الملكي مما قرأه في الكتاب واشتدت دهشته حين رأى ثلاث طائرات تلقي مناشير من ارتفاع واطئ تشير الى مساوئ وزارة الهاشمي وتطالب بحلها، وبعد ساعتين قامت الطائرات بقصف بناية رئاسة مجلس الوزراء ومبان حكومية اخرى مما اكد جدية ما دعا اليه بكر صدقي فطلب الملك غازي من ياسين الهاشمي تقديم استقالته. اراد ياسين الهاشمي ترتيب استقالته باسلوب يحافظ على ماء الوجه وسخن الجدل في البلاط عما يجب اتخاذه من تدابير رادعة لهذه الحركة المفاجئة غير ان جعفر العسكري خشي حدوث تطورات لاتحمد عقباها في حالة دخول الجيش الى العاصمة وما قد يتبعه من انفلات للامن وازهاق للارواح لذلك كله سارع الى توجيه كتب الى بكر صدقي وعبد اللطيف النوري واسماعيل نامق آمر الخيالة واسماعيل حقي آمر المدفعية والعقيد سعيد التكريتي يرجوهم فيها ايقاف تقدم الجيش وانتظار اوامر لاحقة تجيز لهم دخول بغداد وعلى الرغم من خطورة الموقف قرر جعفر العسكري ان يذهب بنفسه الى بكر صدقي ليثنيه عن قراره فاخذ كتاباً من الملك الى بكر صدقي مستصحباً معه مرافق الملك طاهر محمد الزبيدي والنقيب شاكر القره غولي. علم بكر صدقي بنبأ توجه العسكري اليه من خلال برقيتين تسلم من علي غالب الاعرج احد اتباعه والثانية من وزارة الدفاع فقرر ان يحول دون وصول العسكري الى الوحدات المتقدمة خشية حصول بلبلة في صفوفها لما لجعفر العسكري من مكانة طيبة لدى منتسبي الجيش كما صادر بكر صدقي الكتب التي ارسلها جعفر العسكري الى آمري الصنوف في الفرقتين بعد ان اطلع على مضمونها وهو يتخبط بعصبية شديدة وفي هذه الاثناء وصل مأموره النقيب اسماعيل عباوي وأخبره بوصول جعفر العسكري وانه اوقفه على بعد خمسة كيلو مترات فازدادت عصبية بكر فقال منفعلاً (يجب ان يقتل فوراً.... من الذي يقدم على ذلك؟) ولدى سماعهم هذا الكلام اطرق جميع الضباط الحاضرين برؤوسهم نحو الارض واجمين بلاحراك واذا ببكر يصدر الامر لمرافقه جمال جميل والملازم الاو ل الطيار جواد حسين والمقدم جميل فتاح والنقيب اسماعيل عباوي بعجلة النقيب حسيب الربيعي (بعدا ن صادر بكر الكتب منه) والتوجه الى جعفر العسكري. تبنى النقيب اسماعيل عباوي قيادة العجلة وما ان وصلوا الى جعفر العسكري طلب منه عباوي الركوب الى جانبه ليوصله الى بكر صدقي ومن الطريق العام استدار عباوي باتجاه منطقة خان بني سعد، تنبأ جعفر العسكري بما يبيت له فقال لاسماعيل عباوي (انا اعلم انكم ستقتلوني بعد قليل فاني لا اخاف ولا اهاب الموت وهو حق ونهاية حتمية لكل حي يرزق الا اني اقول لكم انكم جميعاً ستتحملون تبعة هذا العمل وستجرون البلاد الى ويلات لا نهاية لها) وعلى الرغم من ذلك اوقف عباوي العجلة في المكان المحدد له وانزلوا الفريق جعفر العسكري من العجلة واطلقوا النار عليه فأردوه قتيلاً هكذا انهى هذا المجاهد حياته على ايدي عناصر من الجيش الذي بناه وكان دعامته الرئيسية.

تكتلات ومؤامرت بعد مقتل العسكري
ما ان حل عصر يوم 29/10/1936 حتى شاع خبر انقلاب بكر صدقي وحل وزارة ياسين الهاشمي وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان وفي اليوم التالي تأكد مقتل جعفر العسكري وظهرت احاديث كثيرة حول نوايا بكر صدقي لتسخير الجيش لخدمة اغراضه الشخصية واشتد قلق الخاصة والعامة ازاء عملية تنقلات كبيرة شملت الكثير من ضباط الصنوف بين المحافظات نزولاً عند ارادة بكر ثم ارتفعت وتيرة الشائعات الى حد جعل من الصعب تحديد الجهة التي تخطط لاغتيال بكر لدوافع كثيرة منها:
1 - الثأر لمن قتلهم بكر اثناء تصديه وقمعه لحركات التمرد في مختلف مناطق البلاد.
2 - تمسك بكر بمجموعة من الضباط الصغار الذين استغلوا ثقته بهم فأباحوا لانفسهم عمل كل شيء ما اثار حفيظة الاخرين.
3 - تسليم المناصب المهمة والخطيرة العسكرية والمدنية ومراكز الشرطة الى اتباعه بصرف النظر عن الرتبة والكفاءة وخلافاً للضوابط والسياقات المعتادة مما ادى الى تأجيج كراهية الناس له.

مقتل الفريق الركن بكر صدقي
كان بكر صدقي على يقين بان هناك اكثر من جهة تخطط لقتله وبعد ان كان مطمئناً الى ان اتباعه سوف يفشلون اية محاولة لقتله بان عليه القلق واخذ يقلل حضوره الى الاجتماعات العامة ويبدل العجلة التي يستقلها وضاعف عدد حراسه وامرهم بمنع دخول اي شخص عدا جماعته ونشر الحرس الى مسافات بعيدة عن داره لتفادي وصول القنابل اليدوية الى الدار مما جعل المارة يمتعضون من استجواب او اعتقال الحرس لهم دون ذنب ثم ازداد قلق بكر فاصبح لا يخبر احداً عن مكان مبيته وفي ظل هذا الكابوس المفزع تلقى دعوة لمشاهدة المناورات العسكرية التركية ولأجل تضليل اعدائه عمد الى ترويج معلومات كاذبة عن طريق سفره الى تركيا وبالتالي سافر جواً لئلا يعلم احد وقت وصوله والجهة المقصودة. هبطت طائرة بكر صدقي بعد ظهر يوم 11/8/1937في مطار الموصل واتجه فور نزوله الى مطعم ضباط السرب الاول دون اشعار مسبق وقد فوجئ آمر السرب المقدم الطيار موسى علي الذي اعتاد على الحضور عصر كل يوم الى مطعم الضباط فوجئ في ذلك اليوم بوجود بكر صدقي في حديقة المطعم وعلى يساره جلس العقيد الطيار محمد علي جواد آمر القوة الجوية وامامهم الملازمان الطياران كاظم عباوي واحمد عزيز واحمد التك شعر آمر السرب بالسرور لان ضيفيه وصلا الى المكان وبعد اداء التحية طلب منه بكر ان يجلس الى جواره فانسحب محمد علي جواد جانباً وجلس آمر السرب بمكانه. شرع بكر بملاطفة آمر السرب والسؤال عن احوال وحدته ولدى اعتذار آمر السرب عن عدم قيامه بواجب الاستقبال لعدم علمه قال بكر انه حضر الى الموصل لبضع ساعات ثم يغادر الى تركيا لحضور المناورات العسكرية في تركيا ولما كان من عادة بكر التحدث بصوت منخفض فقد اضطر الرجلان ان يقربا راسيهما من بعض حتى وصلت المسافة بين رأسيهما الى حوالي خمسة عشر سنتمتراً وبينما كانا مستمرين في الحديث صاح محمد علي جواد (شتريد) اي: ماذا تريد فانتبه الحاضرون واذا بهم يشاهدون جندياً خيالاً حاسر الرأس واقفاً خلف بكر على بعد خمسة امتار ويداه خلفه اما بكر فقد بقي ثابتا دون ان يلتفت واذا بالجندي يطلق النار من مسدسه باتجاه بكر صدقي ومحمد علي جواد رافعاً يديه الى الاعلى طالباً ايقاف الرمي صارخا (لا.. لا.. لا..). سكت بعدها بكر دون حراك وسقط محمد علي جواد على الارض مصاباً كل هذا حدث بسرعة البرق وفي عجلة الاسعاف قال محمد علي جواد مخاطباً آمر السرب الذي رافقه (اصبت بطلقتين) اجابه آمر السرب (ان شاء الله خفيفة.. تشجع..) فقبل محمد علي جواد آمر السرب مضيفاً (انتهى امري يا موسى احلف لي بانك لاتدع القوة الجوية تموت) ثم لفظ انفاسه الاخيرة.

لغز اغتيال بكر صدقي
مقتل بكر صدقي.. بقي لغزاً بحاجة الى حل إذ دأب بكر صدقي في ايامه الاخيرة على تضليل وغش الاطراف المعنية بأمر تحركاته فلايكاد احد يعرف الى اين يتجه حتى المقربين اليه فضلاً عن كتمانه لتوقيتات حركته والواسطة التي سيستخدمها ووقت وصوله الى الجهة المقصودة. ولذلك فأن تدابير وتنفيذ عملية اغتياله التي تمت خلال النصف ساعة الواقعة بين وقت وصوله ووقت التنفيذ مما جعل من المنطقي طرح الكثير من الاسئلة فمن الناحية العملية لا يمكن تنفيذ الاغتيال بدون علم الجهة المتآمرة قبل زمن وصوله بمدة ساعة او ساعتين ليتسنى لها احضار القاتل بل ربما كان المتأمرون على علم بوقت وصوله والمكان الذي سيمكث فيه وا لاكيف تمكنوا في نصف ساعة تحديد طريق الدخول والتقريب واصابته اصابات قاتلة؟ ولابد ان يأتي اليوم الذي ستكشف فيه الحقائق للعبرة والتاريخ.