81 عاما على رحيل الزهاوي.. حياة مليئة بالشعر وعشق العلم

81 عاما على رحيل الزهاوي.. حياة مليئة بالشعر وعشق العلم

في صبيحة الثالث والعشرين من شباط سنة 1936،، استيقظت بغداد على خبر هزها من الاعماق، واحدث انفعالات في نفوس اهلها.. فقد مات الزهاوي (72 سنة) فجأة بالسكتة القلبية، ودفنت معه هموم (الفالج) الذي كان يعاني منه، وانطوت بذلك صفحات مشرقة لرائد من رواد شعرنا العربي، سبق عصره

في توظيف شعره وكتاباته لمواضيع ربما كانت حديثة او غير معروفة انذاك كنظريتي النشوء والارتقاء والنسبية، ومن يقلب دواوينه سيجد حتما اشارات واضحة لتلك النظريات.. ومن الطريف ان الزهاوي كان يعتبر نفسه من دعاة نظرية النشوء والارتقاء تماما كزميله المفكر اللبناني فرح انطوان الذي كان من دعاة هذه النظرية وهو يعيض في مصر!

جنون الشباب!
* بخط يده كتب الزهاوي سيرة حياته في كتابه (المجمل مما ارى):
- ابى مفتي بغداد محمد فيضي الزهاوي وهو كردي ينتسب الى امراء السليمانية (لبابان). وامي السيدة فيروزج من اسرة وجيهة كردية. وقد ولدت في بغداد يوم الاربعاء آخر يوم من ذي الحجة سنة 1279 هـ، الموافق 18 حزيران سنة 1863م. وكنت في صباي اسمي المجنون لحركاتي غير المألوفة، وفي شبابي (الطائش) لشغفي في اللهو. وفي كهولتي الجرئ لمقاومتي الاستبداد، وفي شيخوختي الزنديق لمجاهرتي باراتي الفلسفية!
تعلمت كثيرا من علوم الاولين فلم ترق لي، ومن علوم الاخرين فولعت بها. ونشرت لي المجلات والصحف في مصر وبيروت وبغداد مقالات كثيرة وقصائد. وطبعت لي ثلاثة كتب اثنان منها فلسفيان وسبب تأليفي لهذا سياسي، ونشرت لي المجلات رسائل مختلفة معظمها فلسفي وطبع لي اول ديوان في بيروت باسم (الكلم المنظوم) ومغلوط فيه وقد هذبته اخيرا وحذفت منه مالم استجده وادمجت الباقي بديواني العام وجعلت مجموع ما نظمته اربعة اجزاء اسميت الثلاثة الاولى (ديوان الزهاوي) واسميت الرابع منها (رباعيات الزهاوي) وهو يحتوي على الف ومائتين من الرباعيات ومجموع ابيات دواويني الاربعة هو اربعة عشر الف بيت، ولي رسائل لم تطبع بعد منها رسالتان في النور والبصر ورسالة في لعبة الداما واودعتها الفا وخمس مائة لعبة الف منها من مستنبطاتي وسميتها (اشراك الداما).
* وفي مكان آخر يكتب الزهاوي عن نفسه: (.. رجعت الى بغداد معلما للمجلة في مدرسة الحقوق ونشر لي بعد برهة في (المؤيد) مقال دافعت فيه عن المرأة فاثار علي الشعب بايغار اعدائي وارادوا اهانتي او اهلاكي ولم اخرج من بيتي اسبوعا وسعى احدهم الى ناظم باشا وهو يومئذ والي بغداد ليعزلني عن وظيفتي ففعل، ودافع عني كبار الكتاب في مصر وسوريا واعادني جمال باشا (والي بغداد بعد ناظم باشا) الى وظيفتي!

صالون الجمعة...
حين عرضت على الذين عرفوا الزهاوي عن كتب، او تتلمذوا على يديه وكانوا من مريديه، او كتبوا عنه وعددهم قلة، فكرة اعداد ملف عنه، رحبوا بالمشروع، مع ان البعض منهم قد اساء اليه في حياته.
وانصفه ودافع عنه بعد مماته انتهزها فرصة لاستعادة ما علق بذهنه عن بغداد ومجالسها الادبية التي انتعشت منذ العشرينات، ولم تبق منها الان الا الذكريات، ومن بين هؤلاء السيد محمود صبحي الدفتي(90 سنة) ومجلسه (صالون الجمعة).. وانصافا للتاريخ نقول ان الدفتري لم يسيء للزهاوي انما لعب دورا في اصلاح ذات البين بينه وبين الرصافي!
* وهو يحاول جمع شتات افكاره المبعثرة، نقفز الى ذاكرته اكثر من صورة عن تلك الايام..
- ان صالون الجمعة كان يستقطب اهتمام الادباء والمفكرين والصحفيين وكذلك السياسيين بينهم ابراهيم صالح شكر. الزهاوي، الرصافي، الاثري، نوري ثابت، ياسين وطه الهاشمي، مزاحم الباجه جي والمدفعي، وقد وصف المرحوم نوري ثابت في احدى مقالاته صالون الجمعة وكيف كان يتحدث الدفتري الى زواره فيقص عليهم بعض ذكرياته، وكانت توجد غرفة صغيرة ملحقة بالصالون اعتاد ان يختلي بها السبعاوي وعبد الوهاب محمود وابراهيم صالح شكر حيث يتهامسون ببعض الاخبار والتعليقات التي تتضمن تجريحا ولدغا لبعض السياسيين لذلك سميت هذه الغرفة بـ (الكورة) باعتبار ان (الزنابير) المتجمعة فيها تلدغ لدغات موجعة وشديدة.
* ووقعت في هذا الصالون – كما يتذكر الدفتري – احداث بعضها يتعلق بالادب واخرى بالسياسة.. ففي الاولى تمت المصالحة الشهيرة بين الزهاوي والرصافي في 8/6/1928 بعد ان بذل الدفتري جهودا في اقناع الرصافي المتعب ووفق شروط منها عم مفاتحته مباشرة اثناء اجتماعه مع الزهاوي في صالون الجمعة بامر الصلح وانما يجب ان يترك الامر على سجيته بحيث يجتمع كلاهما ويتحدثان كما لو كان لم يقع بينهما شيء، وقد كتب الرصافي بهذا المعنى رسالة الى الدفتري، وفي هذا اليوم قرأ الرصافي لاول مرة قصيدته المعروفة (غادة الانتداب) وكانت شديدة القوة ومتطرفة حمل فيها على الانتداب البريطاني حملة شعراء فيما انشد الزهاوي قصيدة بالمناسبة ختمها بهذا البيت:
جمع الاديب الحر صبحي شملنا
في داره اكرم بها من دار
ولاول مرة، وبعد خصومة استمرت سنوات اجتمع على مائدة الدفتري انصار الاثنين.

طيبة بلا حدود!
* ويستدرك الدفتري، ان الزهاوي كان طيب القلب. نزواته كثيرة، لا يحقد على احد ولا تخلو حياته من نوادر ونكات طريفة.. مرة تغزل بشابة في الثامنة عشرة من عمرها فجعلها في العشرين، ولما سألته لماذا قال لي بعفوية (والله عمرها 18 سنة.. لكن ضرورة القافية خلتني اسويها عشرين). وكان يحب المديح لشعره كثيرا ويكره من ينتقده ويصحح بعض ابياته، واذكر ان زوجته السيدة زكية خان كانت تشد وثاقه بجنب سرير نومه لانه اعتاد المشي اثناء النوم، وفي احد الايام نسيت ذلك واستغرقت بنوم عميق. لكنها استيقظت مذعورة منتصف الليل فلم تجده وظلت تبحث عنه في انحاء الدار حتى عثرت عليه متسلقا جدار السطح غارقا في نوم عميق!
* وكانت افلام الحبر تستهويه، ولان الشلل اصاب ساقيه فكان يتعذر عليه الذهاب الى (اوروزدي باك) للبحث عن اقلام جديدة، فيكلف احمد حامد الصراف بالذهاب الى هناك ليحضر له الاقلام..
الصبر طيب!
* وحين ينتقل الحديث الى تلميذه المحامي احمد حامد الصراف يكتسب الحوار معه اهمية استثنائية، فالصراف كان من مريديه، وكثيرا ما كان يقوده الى مقهى الشط وهو على حماره ثم يعد المقالب له ويهاجمه غير الصحف باسماء مستعارة وبايعاز من كامل الجادرجي.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:
* متى عرفت الزهاوي؟ يجيب الصراف:
- وقعت عيناي لاول مرة على محيا الزهاوي سنة 1916 يوم سفر انور باشا وزير الحربية العثماني في القطار الى الشرقاط فرأيت شيخا شاب شعر رأسه وتهدل على وجنتيه وقد امتلأ سيماه يغضون دل على صراع عنيف مع الزمن غير صراعه مع مجتمعه وبيئته في جميع شؤونه وشجونه وبالاخص عقائده فلقب من قبل معاصريه (بالزنديق). ولدى سقوط بغداد واحتلالها من قبل الجيش البريطاني فتح الانكليز مدرسة لتهيئة مدرسين للمدارس الابتدائية وقد اختير الزهاوي لتدريس اللغة العربية فكنت من احسن تلاميذه، واتصلت نفسيتي ونفسيته مما واخذ يساعدني في المدرسة كثيرا، ولما نشأت وترعرعت وصار لي صلة كبيرة به. كنت عصر كل يوم امر عليه مع تلميذه وصديقه شكري الفضلي فنركب العربة ونذهب الى الباب الشرقي ثم نرجع مساء لنقضي مدة ساعتين او اكثر في بيته وربما تعشينا. وكان الزهاوي طريفا جدا يحب المزاج والفاكهة والطرب حتى اني كنت اخذ بين حين واخر الى اماكن للهو والذي كانت تغني فيه سليمة مراد. وكانت الاغنية المفضلة عنده:
(الصبر طيب هون عليك ياسيدي).
* قاطعته: ولماذا كنت تهاجمه في الصحف وباسماء مستعارة، وانت صديقه؟
- لان يده طويلة يمدها فيختطف عن الادب الفارسي ليحصل على بعض المضامين كما كان زميله الرصافي يفعل ذلك مع الادب التركي.
* لكنك اشتركت او اسهمت مع هؤلاء كما يقولون وبتوقيع مستعار؟
- اذا حدث هذا فكان بتحريض من المرحوم كامل الجادرجي، فقد كتبت مقالا اهاجم فيه الزهاوي باسم (حصف) قلت فيه هذا الزهاوي الذي يريد ان يهدم بمعول حقده هيكل الرصافي الخالد في المدمر ولن يستطيع الى ذلك سبيلا، لان الرصافي هو الشاعر الذي يقتبس من الشمس والكواكب كما يقتبس من عصر ارسطو وافلاطون.. وعندما ظهر المقال سألني الزهاوي (تعرف منو كتب هذا المقال؟) وهنا انتهزتها فرصة للنيل من المرحوم روفائيل بطين فقلت له (هذا روفائيل ماكو غيره) فنظم الزهاوي قصيدة هجا فيها بطي اذكر بيتا منها يقول الزهاوي:
وعندئذ رفعت الكف مني
اذود به عن الادب الذبابا
* وكادت المسألة تنتهي عند هذا الحد لولا ان المرحوم الجادرجي حكى القصة بتفاصيلها لمحمود صبحي الدفتري الذي نقلها هو الاخر بحذافيرها للزهاوي فطردني شر طردة!
* ويبدو ان هذه الحادثة بالذات تركت بصماتها على حياة الصراف الذي يروي تفاصيلها بعد رحيل استاذه الزهاوي باسابيع من خلال رسالة عثرت عليها، يقول الصراف:
- تمر على عيني صفحة تتلوها صفحة من ذكريات تلك الايام وفيها من المتناقضات والمسرات والحزنات ما تشجى وتهيج،’ وهذا شتاء عام 1927، وهذا صالون الدفتري وقد جاء الحكيم دار الدفتري يوم الجمعة وتصدر المجلس وهو حانق على الصراف لانه ما لا يرضيه!
ثم يأتي الصراف فيهم الزهاوي بالخروج فيخرج الصراف من الدار رغم انفه وهو يتعثر باذيال الخجل فيناديه صبحي الدفتري (شوف احمد لا تزعل الزهاوي صاير شويه عصبي وانا احاول ارضاءه) ثم يرجع الدفتري الى المجلس:
(يا استاذ احمد مثل ابنك).
- يا ابني هذا ما يصير له جاره، هذا ما يفتهم شي: افندم عجن ايدي وخبز ايدي).
* آه يا استاذ ليتك اليوم حيا فتطردني في اليوم عشر مرات وتمر الايام فيرضى الاستاذ على تلميذه فيأتي الشيخ الى دار الدفتري، يتوكأ على عصاه وعلى كتف الصراف..
- سلام الله (باليدين) افندم البارحة كان شرجي وكانما خناجر غرست في رجلي. لكن اليوم غربي وذلك ببركة يوم الجمعة (قهقهات.؟!!).
ويدور البحث وبتدفق ذلك السيل فيسكر الحاضرون بخمر الحديث وتكتمل حلقة الادب من ابراهيم صالح شكر والاثري وبطي ومحمود احمد السيد والصراف.
اسمعنا يا استاذ من شعرك.
- افندم نظمت قصيدة طلبوها مني من قصيدته متصفحا الوجوه ومتفرسا في اساريرها، فيكثر الهتاف والاستحسان ثم يلتفت اليه الدفتري:
- يا استاذ انت راضٍ عن احمد؟
- افندم احمد مثل ابني له مستقبل زاهر!
فيرد عليه احمد:
* استاذي مستقبلي وليد اثرك وتعليمك واذا ازهر او ازدهر مستقبلي فهو حافر بمآثرك وجلائل الانك!

من ايام بغداد..
* في كتابه (من ايام بغداد المدوية) يروي السيد خيري العمري بانه عندما اعلن الدستور العثماني للمرة الثانية في تموز عام 1908 واقيمت الاحتفالات والمهرجانات في بغداد ابتهاجا بنشره خيل للشاعر الزهاوي ان الفرصة قد سنحت له ليلعب الدور الذي لعبه قاسم امين في مصر فطلق يتبني دعوة تحرير المرأة العراقية والدفاع عن حقوقها، وكان يومها استاذا في مدرسة الحقوق ببغداد يدرس احكام المجلة ويحاول وهو في مستهل شبابه ان يشق طريقه في عالم الفكر والادب وان يلفت الانظار اليه. فنشر في جريدة (المؤيد) المصرية عام 1910 عدد 6138 مقالة جاء فيها: اجاز المسلمون ان يقسو الرجل فيطلق المراة ويستبدلها بغيرها كسقط المناع رادا الى حضنها اطفالها الذين هو نتائج شهوته.. وربما كانت المراة الشرسة هي السبب لهذا الفراق ولكن ما حيلة المراة الوديعة اذا منيت برجل شرس الاخلاق؟ لماذا لم يجز المسلمون ان تطلقه لتنجو من شراسته!..
ولم يكد هذا العدد من الجريدة يصل الى بغداد وتناقله الايدي ويطلع عليه الجمهور حتى ثارت ثائرة الرأي العام واسرع الشيخ (سعيد النقشبندي) يرد عليه برسالة نارية عنوانها (السيف البارق في عنق المارق) وطافت في ازقة بغداد جماهير غفيرة يتقدمها (مصطفى الواعظ ومحمد سعيد الراوي) تطالب بعزل الزهاوي من وظيفته في مدرسة الحقوق، واتخاذ الاجراءات الشديدة ضده فنزل الوالي ناظم باشا عند رغبتها وعزله من المدرسة، ولم يستطع الزهاوي الصمود امام هذه العاصفة التي اثارها فسرعان ما انهارت اعصابه واستولى عليه رعب شديد، وبالرغم من ان بعض الكتاب في مصر كولي الدين يكن وغيره قد تطوعوا للدفاع عنه، الا انه لم يتمكن من الثبات في الميدان فتوارى عن الانظار خائفا وجلا واسرع يرسل الى الصحف ويقسم الايمان غليظة على ان المقالة المذكورة مدسوسة عليه من بعض المغرضين وقد نشر في مجلة (العلم) التي كان يصدرها هبة الدين الشهرستاني في النجف بيانا بهذا المعنى في العدد 9 كانون اول 1919.
هذا حساب فلان!
* قلت للسيد العمري: وماذا عن الجوانب الخفية من حياة الزهاوي؟ اجابني:
- كان شديد الوساوس، يخاف كثيرا ويتحاشى المرور في ازقة و (درابين) بغداد اذا عرف وجود حائط مائل للانهدام فكان اذا سئل لماذا؟ يرد على السائلين: الا بوجود احتمال واحد بالمليون ان يسقط الجدار اثناء مروري فلماذا اقدم على هذه الحماقة؟!
* ومن المظاهر الشاذة في حياته، كما يكشف العمري النقاب عنها، حب الزهاوي للثناء والمديح.. يقول: كان يأخذ من زوجته (يومية) يضعها في كيس وهي تتألف من (آنات) متكررة وينصرف الى المقهى التي تحمل اسمه حيث يتحلق حوله تلاميذه فيسمعهم ما ينظمه من شعره الجديد، ويسمع منهم عبارات الاعجاب والثناء والاطراء، مشفوعة بنقد الرصافي فيطرب لذلك اشد الطرب. واذا حدث ان قام احدهم يريد الانصراف يخرج الزهاوي من كيسه (أنة) قائلا لصاحب المقهى هذا حساب فلان، اما اذا سمع نقدا او تعريضا يشعره ذلك اليوم فانه يتجاهل دفع الحساب لمن تسول له نفسه القيام بذلك!

استدراج الزهاوي!
* يروي السيد مصطفى علي انه كان من انصار الرصافي ضد الزهاوي وقد توصل الى حيلة يستدرج من خلالها الزهاوي عندما زاره في بيته فاستقبله احسن استقبال مرحبا به وشاهد في دار الزهاوي قفصا فيها بلبل ينشد فخطر لمصطفى علي مقلب معين فاخذ يخاطب الزهاوي (يا استاذ انت شاعر تتغنى بالحرية وتحب الطيور تغني على الاغصان والاشجار وهي تنتقل من غصن لآخر فكيف تبيح لنفسك ان تحبس هذا المخلوق الضعيف وتقيده في هذا القفص اللعين) فصدق الزهاوي الكلام واطلق سراح البلبل، وفي اليوم التالي كتب مصطفى علي مقالا حمل فيه على الزهاوي قائلا: (كيف تطلق سراح هذا المخلوق البسيط وانت تعرف ان السماء مليئة بالصقور والنسور التي ستلاحق هذاالمخلوق وتأكله)، فاحتار الزهاوي بين هذين الطلبين المتناقضين وادرك انها لعبة استهدف منها اغضابه!
خطيب بغداد الشهير!
* ويزيح الكاتب الفولكلوري عبد الحميد العلوجي الستار عن جوانب اخرى من حياة الزهاوي يروي ان مس بيل التي كانت تلقب: (خاتون بغداد) وهي تشغل منصب السكرتير الشرقي للمعتمد السامي البريطاني سنة 1920.. ان مس بيل هذه، ومن خلال رسائلها التي كانت تبعث بها الى ابيها هيو بيل وزوجة ابيها فلورنس وبعض الصحفيين والسياسيين الانكليز، شاءت ان تذكر شاعرنا الزهاوي اربع مرات، الاولى في رسالة مؤرخة في 3 تشرين الثاني 1919، والثانية في 17 تشرين الاول 1920، والثالثة والرابعة في مايس و 30 حزيران 1921، ففي اليوم الاول من تشرين الثاني 1919 اقيمت في رصافة بغداد حفلة تمهيدية لتأسيس مكتبة باسم المستنصرية، وقد القى الزهاوي فيها خطبة حول الثقافة والخدمات المكتبية ومركز بغداد الحضاري على الصعيد الفكري، وفي اليوم الثاني نوهت مس بيل عن هذه الحفلة الى ابيها.. قالت:
"حضرت حفلة اقيمت لمنفعة مكتبة عامة تفتح للاهلين، وقد الغى كبير الادباء قصيدة نظمها خصيصا لهذه المناسبة، فقوبلت بنجاح عظيم، وقد كان الجمهور يقاطعه بعد كل بيت بليغ بكلمة (احسنت، احسنت) و(اعد) احيانا، واستمرت الحماية حتى النهاية، فكونت بعض ملاحظات ثمينة في فكري عن الطريقة المثلى لاقامة حفلات اخرى تكون مقبولة لدى الجمهور البغدادي، فان قواعد ذلك تختلف تماما عن قواعدنا".
* وحين اقرت وزارة المستعمرات البريطانية اعادة تعيين برسي كوكس مندوبا ساميا في بغداد وصلها من ايران عبر البصرة الى بغداد بالقطار، وفي مساء 11 تشرين الاول 1920 هبط محطة غربي بغداد. وهناك هيأت له مس بيل ورجال دار الاعتماد استقبالا حافلا، وكان الزهاوي بين المستقبلين وقد القى خطبة وقصيدة، وهذا اللقاء استغرق مضمون الرسالة التي خاطبت مس بيل فيها اباها في 17 تشرين الاول 1920 وقد شاءت بين سطورها ان تسمى الزهاوي (خطيب بغداد الشهير)، وفي الاسبوع الاول من شهر مايس 1931 شهدت بغداد تظاهرة خطابية في احدى المدارس، وكان الزهاوي بين شعرائها، وقد تغنى بمحاسن العراق في قصيدة رائعة، وقد ذهبت مس بيل الى هذه الحفلة برفقة الكابتن الانكليزي غولد سمث (الذي عرفته مدينة السماوة حاكما سياسيا في سنوات الاحتلال الاولى) وشهدت فيها ما حفزها على تدوين بعض وقائمها في رسالتها المؤرخة 5 مايس 1921، قالت لابيها: (ذهبت مع الكابتن سمث الى حفلة مدرسية هذا الاسبوع، فكانت شيئا هائلا، حيث ان بغداد كلها كانت هناك – كنا نحن الانكليزيين الوحيدين فيها – فاستغرقت ثلاث ساعات كالمعتاد وقد جلسنا نستمع الى الخطب والاناشيد والقصائد، واعتقد في الحقيقة بان جمهور المستمعين قد استساغ فقرات الحفلة، وقد كانت احداها حين القى شاعر نصف مشلول يدعى جميلا الزهاوي قصيدته التي استغرقت خمسا وثلاثين دقيقة، وهو وقت طويل بالنسبة لقصيدة من القصائد. ومع هذا فقد كان الاستماع اليها يستاهل الجلوس، انه ليس بشاعر عظيم فقط، بل هو خطيب عظيم ايضا. وقد بدا بالسقوط فوق المنصة، واضطر المسؤولون عن الحفلة الى رفعه اليها واسناده، بينما الحاضرون يهمسون قائلين (الله.. الله). وفي مساء 29 حزيران 1921، وتحت المصابيح الكهربائية التي تدخل القطر لاول مرة اقامت بلدية بغداد في حديقة (مود) حفلة ترحيبية بمقدم فيصل الاول من البصرة الى بغداد حضرها اعيان بغداد ووجوهها ومس بيل وكان الزهاوي قد القى قصيدة بهذه المناسبة اشارت اليها مس بيل في 30 حزيران 1921 كان نصيب الزهاوي منها عابرا!..

عن ملف نشره الراحل رشيد الرماحي
في مجلة الف باء 1978