شيخوف بين برودة الحدث وحلم الشخصيات

شيخوف بين برودة الحدث وحلم الشخصيات

صباح هرمز
كتب تشيكوف مسرحية (طائر البحر= النورس) قبل مسرحية (الخال فانيا) بثلاث سنوات، ومثلت مرتين، في المرة الاولى لاقت فشلا ذريعا في 17اكتوبر عام 1896، والمرة الثانية التي قام بإخراجها ستانسلافسكي، نجاحا باهرا في 21 تشرين الاول من نفس العام.

وهو كما في مسرحيته (الخال فانيا) كان في هذه المرة ايضا، خاضعا لنزعته الطبيعية، يستقي عناصر مسرحيته الاساسية من الناس الذين يحتك بهم ويتعامل معهم، اذ مثلما استفاد فيها من قصة الحب التي عاشها مع (ليديا افلوفا) ووظفها في شخصية (يلينا) التي أحبها الكل، كذلك فأنه عاد ليوظف الجزء الآخر الذي عاشه معها في هذه المسرحية بالاضافة الى القصة التي عاشها مع (لايكا) موظفا اياها في شخصية (لينا).

تتكون هذه المسرحية التي تضم ستة ادوار رجالية وثلاثة نسائية من اربعة فصول تجري احداثها في الحديقة الواقعة ضمن ممتلكات سورين الذي يعيش معه في منزله بالاضافة الى اخته الممثلة (اركدينا) (وهي تحب الحياة واقامة العلاقات الغرامية) ابنها الشاب (تربليوف) الذي لا يملك المال والموهبة الحقيقية في كتابة القصص والنصوص المسرحية، حيث يحب (نينا) بطلة المسرحية التي أعدها، فتتذمر منه والدته، لأنه لم يسند هذا الدور اليها، وتعمد الى السخرية من المسرحية أثناء عرضها، وهي بذلك تجرح مشاعر ابنها الذي يأخذ قضاء معظم اوقاته قرب البحيرة بعيدا عنها.
ويتضح قلق نينا وترددها من حب تربليوف، اثناء ابداء رأيها لماشا وهي ابنة (شامراييف) وكيل مزرعة سورين، وتحب تربليوف ولا يبادلها نفس المشاعر بمسرحية تربليوف التي مثلت فيها في كونها غير مثيرة، وانجذابها الى (تريغورين) وهو كاتب معروف وله تجربة طويلة، ظنا منها بأنه سيحقق امنياتها بالوصول الى قمة الشهرة والمجد في ادائها على خشبة المسرح، فتتزوجه، ويتخلى عنها، بعد ان تنجب منه طفلا ويموت، وفي آخر لقاء مع تربليوف تعترف له بأنها كانت تحب (تريغورين) وماتزال اكثر منه، فينتحر، وهو الانتحار الثاني له، بعد انتحاره الفاشل الاول، واستمد تشيكوف هذه الواقعة من الانتحار الفاشل للرسام (بوتا نبكو)، وما يصيب به من ضعف بعد هذا الانتحار، الذي أحب (لايكا) وغدرها بالتخلي عنها، كما تخلى تريغورين عن لينا في المسرحية.
اذا كان تشيكوف في (الخال فانيا) قد اشتغل على المفردات الشعرية المتمثلة بحالات الجو والطقس والمؤثرات الصوتية، فأنه اتبع نفس الاسلوب في هذه المسرحية، ولكن ليس بحجم وكثافة الخال فانيا، معززا إياه باسلوب آخر، وهو التعويل على النبرة الحوارية للشخصيات، هذه النبرة التي بوسعها عبر لمزاتها وغمزاتها، اشاعة الجو النفسي محل الحدث في المسرحية، اوكما يقول هنري ترويا: (أهمية المسرحية تكمن في نبرة الحوار المكتوب بدقة وبأيماءات واستطرادات غير معبر عنها، اكثر مما تكمن في حبكتها العادية جدا. لقد أحل فيها الجو النفسي محل الحدث، ولم يكن الانفعال في الحركات والصراخ، بل في سر الافئدة، ان تطور المشاعر الصامت هو الذي سيمسك بأنفاس النظارة، لاتقلبات المواقف، وبأختصار فأن المؤلف لم يكن يسعى الى أن يصعق الاخرين وانما يسحرهم.)(1)
ولعل عدم فهم (كاربوف) لها وهو مخرجها، على هذا النحو، فشلت في عرضها الاول، وبهذا الخصوص يقول تشيكوف.
(احلم انهم يزوجونني من إمراة لا أحبها، وانهم يشتمونني في الصحف). ان كاربوف مدير المسرح، الذي كان يقوم بالاخراج لم يستطع فهم شئ من دقائق المسرحية، كان الممثلون الذين لم يحسن كاربوف ادارتهم، يتكلمون بتشدق يصدم دون المؤلف الذي كان يحجب الاعتدال، فكان يكثر من مقاطعتهم، ويرجوهم ان يكونوا طبيعيين اكثر الا انه عندما حضر تدريبات العرض الثاني الذي اخرجه ستانسلافسكي، شعر ان الممثلين فهموا مسرحيته، وعند المراجعة الثانية، اقترح بعض التعديلات على التمثيل، وطلب ان يحل ستانسلافسكي محل الممثل الذي يؤدي دور تريغورين)(2)
وبهدف ان تسير المسرحية في هذا المنحى المبني على الحوارات الداخلية للشخصية وليس على الحوارات الخارجية، ليكون بوسعها ان تقول في السر اكثر مما تقوله في العلن، او كما يقول ترويا: (الناس هنا يتركون ارواحهم تتكلم عوضا عن ان يتصرفوا)، فأن أول ما تبدأ المسرحية، تبدأ بالجمل التي توحي الى اليأس، وتطلقها (ماشا) في قولها: (انني تعيسة) في حوارها مع (مدفيدينكو)، وللايماءة الى عدم حبها له الذي تتزوجه فيما بعد نسيانا لحب (تربليوف)، وتستمر هذه النبرة في حوارات كل الشخصيات، الا انها تبدو اكثر وضوحا في حوارات سورن، خال (تربليوف)، مرة من عدم ملائمة حياة الريف، ومرة اخرى شكواه من نباح الكلب، والمرة الثالثة اعترافه بولعه في قراءة الكتب.
1- سويرن: ان حياة الريف لا تلائمني بشكل ما يا بني، من الواضح انني لن اعتاد عليها ابدا.
2- سويرن: هذا يعني بأن الكلب سيواصل النباح مجددا طوال الليل، الغريب في الامر هو أنني لم أعش في الريف بتاتا بالطريقة التي تحلو… ولكن حالما اصل الى هنا حتى يبدأ الناس بأزعاجي بكل انواع التفاهات..)
3- سويرن: علي ان اعترف بأنني مولع في الكتاب يابني، اتعلم؟ منذ سنوات كان لدي امران ارغب بهما بحماس. كان الاول يقضي بأن اتزوج، والآخر بان اكون روائيا، لكنني لم انجح في اي منهما، أجل، حتى ان تكون كاتبا قاصرا هو امر لطيف نوعا ما، حين يكون كل شئ قد قيل ونفذ…).
وهذا ما يحدث لشخصيات هذه المسرحية، اذ ان كل الشخصيات تفشل في حبها وفنها.
وهذه النبرة الموحية الى اليأس، تتصاعد تدريجيا، كلما تقدمت المسرحية بخطوة الى امام، وتتجلى بوضوح في الحوار الدائر بين تربليوف ولينا:
نينا: ما هذه الشجرة؟
تربليوف: انها شجرة البق.
نينا: لم هي مظلمة هكذا؟
تربليوف: لقد تأخر الوقت، فكل شئ يصبح الآن مظلما.. لاتذهبي.. أتوسل اليك…
ويعلق الاراديس نيكول على هذا الحوار قائلا:
(في بداية المسرحية نجد مدفيدينكو يسأل ماشا:لماذا تصرين على لبس السواد دائما.؟ وهذه الاشارة الى ثوبها الاسود ليست كما يتبادر الى الذهن تمهيدا رمزيا لموضوع يتصل بالمأساة، فأنها تجيب قائلة: انا في حداد على حياتي، انا شقية..وهذا يظهرنا في الحال على الحالة النفسية التي يراد منا ان نشهد المناظر المقبلة، فالامر جد ولكنه ليس الجد الذي يدفع الى المأساة)3
ان اقتران جملة (لقد تأخر الوقت)، بـ (كل شئ اصبح مظلما الآن) لاتوحي ان العرض سيبدأ بعد قليل، وعليه ستنطفئ الاضواء في القاعة، وتتحول الى ظلمة، بل الى هذيان رجل حالم، يرى في منامه كوابيس، تنبؤه بمستقبله الحالك، أما كيف تنبأ تربليوف بذلك، فهذا ما لايخبرنا المؤلف به، ذلك ان الشخصيات عندما تتحاور، فأنها لا تهتم بما تقوله للشخصية المقابلة، بقدر اهتمامها بما تلقيه هي من حوارات مع نفسها. ولعل إجابة تربليوف على سؤال لينا المتعلق بصعوبة التمثيل في مسرحياته، أدل نموذج على ذلك، وهو يقول:
– شخصيات حية، لسنا مضطرين لتصوير الحياة كما هي، او كما ينبغي ان تكون، وانما كما نراها في احلامنا.
وترد عليه نينا: بالكاد يوجد حدث في مسرحيتك، فهي تقتصر على الكلام…
كما ان الابيات التي تلقيها أركدينا من مسرحية هاملت، ويكملها تربليوف، تعبر عن نفس المعنى، وتؤكد ان هذه المسرحية تبحث عن سر الافئدة وليس عن تقلبات المواقف.
اركدينا: اوه يا هاملت كف عن الكلام انك تجعلني أنظر بعيني الى صميم روحي وهناك ارى مواضع سوداء ومتجزعة كما لو انها لاتريد التخلي عن لونها.
تربليوف: دعيني استميل قلبك لأن هذا ما سأفعله. اذا كان مكونا من سدود قابلة للاختراق.
وهي بالاضافة الى ذلك ايماءة الى العلاقة القائمة بين هاملت ووالدته في مسرحية (هاملت) شكسبير، التي تزوجت من عمه، بشأن خيانتها المعروفة لزوجها، وقلقه جراء ذلك، هذا القلق الذي يقوده الى الشك بكل المحيطين به، بما فيهم حبيبته (اوفيليا) مخاطباً اياها بالجملة المشهورة: (اذهبي الى الدير وترهبي)، اشارة الى قلق تربليوف وخيانة لينا. واذا كانت هذه النبرة الموحية تتكرر في اكثر من مكان، فأن اطلاق نينا على نفسها بـ (النورس) في الحوار الدائر مع تربليوف، من اكثر الحوارات الدالة على الجو النفسي الذي تعيشه هذه الشخصية من جهة، والمصير الذي تؤول اليه من جهة اخرى، وذلك عبر تشبيه عشقها للمسرح بعشق نورس للبحيرة، اشارة الى ربط حياتها بحياته، اذ كليهما يقتلان على يد تربليوف، النورس بطلقة رصاصته، ونينا بعدم موهبته.
نينا: لايسمح والدي وزوجته بأن آتي الى هنا، انهما يقولان بأن هذا المكان بوهيمي… ويخافان صعودي على خشبة المسرح، في حين انني انجذب الى هذا المكان، والى هذه البحيرة، كما لو انني نورسا.
وتربليوف هو الاخر يتحدث بالصيغة التي تتحدث فيها لينا، وبشكل مباشر، ويربط حياته بما آل اليه النورس، بقتل نفسه:
تربليوف: لقد كنت حقيرا بما يكفي كي اقتل هذا النورس اليوم، أنني أضعه عند قدميك.
نينا: مابالك؟ (تلتقط النورس وتنظر اليه)
تربليوف: (بعد وقفة قصيرة) سأقتل نفسي قريبا بالطريقة نفسها.
وماشا، وان لم تلجأ الى قتل نفسها، فهي بزواجها من مدفيدينكو الذي لا تحبه، ولم تعد تعرف الى اين تنتمي، وليس لديها هدف في الحياة، انما تقتل نفسها بطريقة اخرى، ربما هي اكثر قساوة من طريقة نينا وتربليوف.
ماشا: سوف اتزوج مدفيدينكو
تريغورين: أتعنين المدرس؟
ماشا: أجل
ترغورين: لا ارى الغاية من وراء هذا الزواج.
ماشا: ماهي غاية الحب بدون أمل.. وانتظار وقوع أمر ما… لايعرف المرء ماهو.. انما حين يتزوج لن يكون هناك وقت للحب وستمحي الاهتمامات الجديدة… وعلى كل سيعد ذلك تغييرا…
وتتصاعد صيغة هذه اللغة التي تتسم باليأس والحلم، وصولا الى شخصية اركدينا وهي تخاطب تريغورين: فليدخلوا، لا أخجل من حبي لك (تقبل يديه) يا محبوبي العزيز الطائش… انت لي.. لي.. هذا الجبين هو ملكي، وهاتين العينين، وكذلك هذا الشعر الحريري الجميل.. كلك ملكي.. انت موهوب جدا وحاد الذكاء، أنت الافضل من بين كل الكتاب العصريين، وأمل روسيا الوحيد…
لم يستخدم تشيكوف في هذه المسرحية المفردات الدالة على حالات الجو والطقس والمؤثرات الصوتية، بحجم وكثافة مفردات الخال فانيا، ولكنه مع ذلك اعتمد عليها، للتوكيد على الاسلوب الخاص الذي يتمتع به اولا، وايحاء الى علاقات الحب ثانيا. اذ جاءت المفردات الدالة على الطقس والجو سبع مرات موزعة بنصيب مرتين في الفصل الاول ومرة واحدة في الفصل الثاني واربع مرات في الفصل الرابع، اما المؤثرات الصوتية المتمثلة (بالصفير) و (الضرب على اللوح الخشبي) بدلا من (ضرب العصا بالارض) في الخال فانيا، فقد جاء الاول مرتين على التوالي في الفصل الثالث فقط، والثاني مرتين في الفصل الرابع.
1- المفردات الدالة على الجو والطقس.
ماشا: انها قريبة، ستقع عاصفة رعدية الليلة على ما أظن، أنت دائما إما تتفلسف أو تتحدث عن المال.
وهذه الجملة اشارة الى عدم حبها لـ مدفيدنيكو من جهة، والى ماتحدث من خصومه بين أركدينا وابنها تربليوف.
أما مفردة الطقس، فتجئ على لسان بولينا، لاستمالة دورين الطبيب اليها: لقد أمسى الطقس هنا رطبا في الخارج، ارجوك ان تعود وتنتعل كلوشيك.
ويرد عليها، بأنه يشعر بالحر، اشارة الى عدم الاستجابة لها. والجو حار من قبل أركدينا للملل من الريف، والطقس المروع من قبل مدفيدنيكو الى انتحار تربليوف.
ويأتي تريغورين بمفردتي الطقس والرياح العاتية، للعودة الى الماضي، وبالايماءة الى النهاية المحزنة للحياة بشكل خاص ونهاية شخصيات هذه المسرحية عامة: ان الطقس لايحييني بلطف، اذ تعصف رياح عاتية، واذا هدأ غدا صباحا، فسأذهب لأصطياد السمك عند البحيرة، اضافة الى ذلك، اريد ان القي نظرة حول الحديقة، وأن ارى المكان حيث تم تمثيل مسرحيتك، أتذكر؟ لدي موضوع قصة، ولا اريد سوى تنشيط ذاكرتي حول المشهد، حيث يفترض أن يقع الحدث.
اما على لسان بولينا، تأتي مفردة الطقس للدلالة على عدم قدرة الانسان الضعيف على امتطاء الحصان: (متنهدة) تمشي في مثل هذا الطقس.. (تجلس امام طاولة لعب الورق) تفضلوا رجاء ايها السيدات والسادة.
ويعزز هذا المعنى قول شامراييف: يستطيع أن يسير كما يجب فهو ليس بقائد.
2- المؤثرات الصوتية:
جاء الصفير ولمرتين على التوالي فقط في الفصل الثالث، شأنه شأن الخال فانيا للتعبير عن الدهشة والتذمر، في الحوار الدائر بين سورين واركدينا:
1- سورين: (يشرع بالصفير) اظن فعلا بأن افضل حل سيكون بأن تعطيه القليل من المال…
2- سورن: (يشرع بالصفير).. هكذا اذن اعذريني، لاتتضايقي، انني اصدقك.. انت امرأة كريمة وطيبة القلب.
اللوح الخشبي جاء تعريفه في نهاية المسرحية على النحو التالي: في السابق، كان من العادة ان يقوم رجل بالتجول حول ملكية ما وهو يضرب على لوح خشبي بواسطة عصا بهدف إخافة اللصوص المحتملين). موظفا المرة الاولى لأحتمال تجوال تربليوف في المزرعة، ايحاءً للقاء لينا.
ماشا: (تنادي).. قسطنطين (تنظر حولها) لا من احد هنا، لاينفك العجوز يسأل اين كوستيا؟ اين كوستيا؟… انه لايستطيع العيش بدونه.
والمرة الثانية للتأكيد على معنى المرة الاولى على لسان ماشا ايضا: ان قسطنيطين يرتاح اكثر في العمل هنا، ويمكنه الخروج الى الحديقة متى شاء ويستطيع التفكير هناك.
ان هذه المسرحية كما يقول ترويا: (تشهد على عبث الحياة الانسانية، ذلك ان سورين الذي كان يخشى ان تفوح منه رائحة العفونة، مثل مشرب سجائر عتيق يتعفن في زاوية، لم يعد غير رجل محبط. ماشا التي كانت تحب تربليوف في سرها تزوجت معلما تافها وراحت تشرب حتى تنسى اوهامها، و تريغورين غارق اكثر منه في اي وقت مضى في ضرب من الادب التقليدي يجعله يشعر بالخيبة اما نينا التي هجرها الكاتب فقد فقدت الطفل الذي رزقته منه، ولانها لم تصادف اي نجاح في المسرح، فانها تعمل الان مع فرقة صغيرة. ان الطريق العريض الذي كانت تحلم به ضاق وتقلصت ابعاده. ومع هذا فانها ترفض الاعتراف بهزيمتها، وحين يقابلها تربليوف من جديد، يؤكد لها انه مايزال يحبها، وبما أنه ترفضه، فانه ينتحر، لكنه لايخفق هذه المرة في انتحاره.4)

المصادر.
……..
1- تشيخوف: تأليف: هنري ترويا.
2-نفس المصدر السابق
3-المسرحيات العالمية: الاراديس نيكول / الجزء الرابع
4-تشيخوف: هنري ترويا.