أم كلثوم لحن خالد

أم كلثوم لحن خالد

سعاد الهرمزي
أم كلثوم عصر من الغناء استمر اكثر من نصف قرن. ولكنه ايضا عصر من الغناء للحب على الخصوص، روت في اغنياتها حكاية الحب، او 'سيرة الحب'، بلغتها، من الفها الى يائها: من النظرة الاولى، وصولا الى النظرة الاخيرة الفجائعية، مرورا بكل مكابدات الشوق و'عمايله'، والوجد واللوعة والضنى والحسرة، وصولا الى لحظة الفراق المرة التي تبدو كلحظة الموت بالنسبة للإنسان.

جزء من الحياة نفسها، جزء من عالم الكون والفساد، كما كان يصف الفلاسفة المسلمون عالمنا هذا. واستنادا الى كل عناصر الحكاية التي روتها ام كلثوم عن الحب، يمكن القول ان اغانيها تؤلف ما يمكن تسميته ب'قاموس العاشقين'.
رافقت اغانيها احوال العاشقين ومقاماتهم كلها، حتى ليمكن القول ان كتاب الحب في اغانيها لا يقل جلالا واهمية عن كتاب الحب الذي وضعه ابن حزم الاندلسي في القرون الوسطى وسماه 'طوق الحمامة'، او 'في الألفة والألاف'، الذي احاط فيه بما يمكن وصفه ب'خريطة الطريق' التي يمر بها العاشق عادة بدءا من النظرة الاولى التي لحظها شوقي في قصيدته 'خدعوها بقولهم حسناء':
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
وصولا ليس فقط الى اللقاء، بل الى ما بعده، وخصوصا الى ما يتخلل هذا اللقاء وما يليه من حلاوات، ليس هناك ما هو احلى منها، ومن مرارات ليس هناك ما هو أمر منها. والحب - اعزك الله - اوله هزل وآخره جد، كما يقول ابن حزم حول ماهيته في 'طوق الحمامة'. دقت معانيه لجلالتها عن ان توصف، فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناة. والحب - اعزك الله - ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، اذ القلوب بيد الله، عز وجل.
الحب كده
لأم كلثوم كلمات كثيرة شبيهة ببيت امير الشعراء شوقي الذي اشرنا اليه، او تذكر به. ففي اغنيتها الشهيرة 'الحب كده' تختصر ام كلثوم الحب بهذه الكلمات الموجزة:
وصال ودلال ورضا وخصام
ولكن قاموسها في الحب والعشق مليء بالتعريفات والمفردات الكثيرة المعقدة والمبتكرة التي تفتقت عنها مخيلة شعراء كبار، والتي صبت كلها فيما بعد في صوت هذه المطربة القادمة من اعماق الريف المصري، ومن اعماق الوجدان العربي في آن، ولعل هذا القاموس في الحب والعشق هو قاموسها هي، لا قاموس هؤلاء الشعراء الذين غنت لهم. فهي الشاعر كما هي المغني، كما هي الملحن، لا احد يعرف اليوم شيئا عن ابن النبيه المصري الذي استلته ام كلثوم، او استلت قصيدته، افديه ان حفظ الهوى او ضيع، من هاوية النسيان، ووهبتها الخلود الذي لها في تاريخ الغناء العربي في القرن العشرين:
أفديه إن حفظ الهوى أو ضيع
ملك الفؤاد فما عسى أن أصنع
من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه
حلوا فقد جهل المحبةَ وادعى
يا أيها الوجه الجميل تدارك الصبر
الجميل فقد وهى وتضعضع
هل في فؤادك رحمة لمتيم
ختمت جوانحه فؤادا موجع
هل من سبيل ان ابث صبابتي
أو اشتكي بلواي أو أتوجع
إني لأستحيي كما عودتني
بسوى رضاك اليك أن اتشفع!
ام كلثوم اعادت الحياة الى ابن النبيه الذي لولاها لم ينبه، اي لكان خامل الذكر، نسيا منسيا لا يدري بشعره احد الا طلاب الدراسات العليا.
ترجمان كل عاشق
وهبت ام كلثوم الحياة الى شعراء كثيرين من شعراء التراث ومن شعراء الحاضر ايضا. غنت لهم فاستوى شعرهم على كل لسان، وفي كل قلب، وصار ترجمان كل عاشق يبحث وهو في صحرائه، عن نقطة ماء لجبهته، او لشفته، او للسانه وقلبه، فلا يجدها الا في كلمات جميلة موزعة، هنا وهناك، في اغنيات باقية ما بقي الدهر، ولعلها والدهر سيان لفرط رسوخها في الذاكرة الجماعية لقوم - هم العرب - ولد الهوى والحب يوم ولدوا، ونما وازدهر واينع في تراثهم كما لم يزدهر في اي تراث لاي شعب على وجه الارض.
محيط من الفن
واذا كانت ام كلثوم هي، في واقع الامر، ناظمة او كاتبة اغانيها، ولو ان هذه الكلمات لسواها، فهي ايضا ملحنة هذه الاغاني، فكما باد ابن النبيه، وباد معه الشريف الرضي، وسائر الشعراء العرب الذين التفتت اليهم وغنت لهم، باد ايضا ملحنوها الكرام الكبار الذين لحنوا لها، مثل الشيخ ابو العلا محمد، والشيخ زكريا احمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد صبري النجريدي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، وسواهم، وبقيت هي هذه المطربة العظيمة التي كانت عبارة عن محيط من الفن صبت فيه كل البحور والانهر والسواقي، مع الوقت نسي الناس مصدر مياه هذا المحيط، وبقي المحيط وحده.
لا تبخس هذه الكلمات حقوق اولئك الشعراء والملحنين والموسيقيين الكبار الذين امدوا ام كلثوم بمواهبهم وكفاءاتهم، فلولا هذه المواهب والكفاءات لم تكن ام كلثوم ما كانته في تاريخ الغناء العربي. لقد وهبوها ابداعهم، ولولاهم، اي لولا شعرهم الجميل، لم تكن ام كلثوم هذه المطربة العظيمة.
شريكة في الابداع
ولكن ام كلثوم تختصر مواهب وكفاءات هؤلاء، كما تضيف اليها في آن، وهي وحدها التي نشرت فضائل هؤلاء الشعراء والملحنين واذاعتها في كل افق، لكن ام كلثوم لم تكن مجرد صوت فذ وعبقري واستثنائي وحسب، وانما كانت شريكة لشعرائها ولملحنيها في ابداعهم، لا مجرد مؤدية ممتازة لذلك الابداع، ان عظمة اداء ام كلثوم وتميزه، وحملها لواء اسلوب الارتجال الغنائي في حفلاتها الحية، يجعلها شريكة ملحنيها - على الخصوص - في ابداعهم، ويضعها الى جانبهم في خانة المبدعين، ولم يكن الناقد المصري الكبير الراحل كمال النجمي مخطئا عندما ذكر مرارا في مقالاته ان ام كلثوم مسؤولة عن ثلاثة ارباع التطور الذي انجز في الموسيقى العربية والغناء العربي في القرن العشرين.
واذا كانت ام كلثوم قد وهبت مؤسسة الحب، ان جاز التعبير، اهتماما واسعا في اغنياتها، حتى ليبدو لدارسها اليوم انها مطربة الحب الاولى في الغناء العربي، استنادا الى فهرس اغانيها العاطفية، فان الحب انعم عليها بدوره ببركات لا تقدر بثمن، ان ما بقي من ام كلثوم لم يكن الاغاني والاناشيد التي انشدتها في الملك فاروق، ولا حتى في عبدالناصر وثورته، بل ولا اغانيها الوطنية والثورية، بل اغانيها في الحب، فقط لا غير.
فمن يتذكر اليوم ان لها عشر اغنيات في مديح فاروق والاسرة المالكة؟ ومن يتذكر اليوم اغنياتها الوطنية التي كانت تشارك بها في زمن ثورة عبدالناصر مثل 'يا جمال يا حبيب الملايين'، او 'اصبح عندي الان بندقية' او سواهما من اغنياتها الوطنية، الا بعد كد الذهن واستنفاره لاستدعاء زمن مضى؟ في حين ان اغنياتها في الحب والعشق والوجد والسهر واللوعة والضنى والدموع وسائر مفردات قاموس العاشقين باقية ما بقي القلب البشري ينبض وينزف، وما دامت عيون العشاق تذرف الدمع سرا وجهرا.
الحب الحقيقي
قد يقول قائل ان ام كلثوم غنت حبا باد وانقضى زمنه، وانسحب من السوق لمصلحة حب آخر تغنيه اليوم مطربات العصر الحديث كهيفاء وهبي ونانسي عجرم وسواهما، فنجيب ان الحب الحقيقي، اي هذه العاطفة المدمرة التي تجتاح القلوب البريئة الغضة فتفتها وتزرع فيها العواصف والأعاصير، ملازم للقلق البشري وغير قابل للانفصال عنه ودائم ما دام. وما تغنيه هؤلاء المطربات اللواتي ينعتن عادة بالمطربات الشبابيات، ليس في الواقع سوى ملامسة 'تراثية'، او خارجية، للمشاعر لا اكثر ولا أقل، هذا ان كانت هناك ملامسة في الاصل والاساس.
انهن مطربات (ان جاز وصفهن كذلك) استهلاكيات يتماشى ما يغنينه مع السوق الاستهلاكي. تحيا اغنياتهن احيانا 'كنكتة' اكثر مما تحيا كأغنية، وتحيا احيانا اخرى كفضيحة وكنكتة معا. ألم تكن هذه هي حال القصيدة العصماء: 'الواوا' التي شدت بها مطربة الشباب هيفاء وهبي قبل عدة اشهر؟ ألم تكن المطربة المصرية نعيمة عاكف هي رائدة هذا الغناء قبل حوالي نصف قرن؟ فما الذي بقي من نعيمة عاكف، وما الذي سيبقى من 'نعيمات' زماننا الراهن؟
مطربة من نوع آخر
ام كلثوم مطربة من نوع آخر. انها المطربة العربية الاولى في القرن العشرين او على مدار التاريخ. انها المطربة التي بسطت نفوذها في مصر ومجتمعها خلال نصف قرن كما هي المطربة التي امتد نفوذها الى كل مصر او صقع عربي آخر، من الموصل شرقا الى تطوان وطنجة والرباط غربا، مرورا بكل الحواضر والمدائن والارياف والبوادي العربية، وإلى درجة القول انها شكلت دليلا اضافيا على وحدة العرب وعلى وحدة الثقافة العربية، والوحدة العربية ذاتها. فقد اجمع العرب على حبها كما لم يجمعوا على امر آخر. وقد خاطبت وجدانهم كما لم يخاطبه فنان او شاعر او كاتب عربي آخر.
وفي ما يتعلق بالحب بالذات، فإن الحب الذي غنته ام كلثوم كان هو الحب الذي نجده في قاموس الحب العربي بوجهيه التقليدي والحداثي معا.
ادركت ام كلثوم ايضا زماننا ونطقت بلغته ومفرداته. عاشت اجيالا وأعمارا، ومثلت حساسيات كثيرة. لقد كانت نهاية عصر وبداية عصر في الوقت نفسه. استلت كلماتها من معجم ابي فراس الحمداني والشريف الرضي وابن النبيه المصري واحمد شوقي واحمد رامي، ومنصور فهمي وعزيز اباظة وعلي الجارم، كما استلت هذه الكلمات من معاجم حديثة نسبيا كمعجم ابراهيم ناجي واحمد فتحي وجورج جرداق وعبدالله الفيصل والهادي آدم، وسائر شعراء العامية المصرية المعاصرين لها، مثل مرسي جميل عزيز وحسين السيد وطاهر ابوفاشا وبيرم التونسي وسواهم.
طبعا ليست ام كلثوم مطربة 'حديثة' بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فهي ليست فيروز او غير فيروز من المطربات اللواتي يمكن الاتفاق (او لا يمكن) على انهن مطربات حديثات، ذلك ان فيروز هي مطربة زمان مضى ايضا، وليست مطربة حديثة. كما هي مطربة حب مضت معانيه ومواضعاته وتوارت عن الاستخدام اليوم.
لنتأمل في نوع الحب الذي تغنيه فيروز، نجد انه الحب الذي كان سائدا في الريف اللبناني، وفي بلاد الشام بوجه عام، في القرن التاسع عشر وما قبله. ففيروز بهذا المعنى ليست ناطقة باسم حساسية عاطفية جديدة، وإنما باسم حساسية عاطفية كانت سائدة في الماضي. ولكن احدا لم يحل محل فيروز حتى الآن، لا في النطق باسم حساسية جديدة في الحب، ولا باسم حساسية جديدة في الغناء والفن.
الحب في مجنمع ذكوري
ان ام كلثوم، من زاوية ما، هي مطربة زمان ومجتمع وبيئة وتقاليد. لقد غنت في الريف المصري عدة سنوات قبل ان تغادره الى القاهرة عام 1922. وغناؤها، سواء في ريف مصر او في القاهرة بعد ذلك، عليه ملامح المجتمع المصري في القرن التاسع عشر، وملامح الغناء المصري كما كان معروفا في تلك الفترة. ومع انها ادركت ثورة يوليو التي اندلعت عام 1952 وعاشت حتى عام،1972 وهي ثورة نقلت مصر من حال الى حال، الا انها مطربة مزروعة في مصر الملكية اكثر مما هي مزروعة في مصر الجمهورية. فهي في فنها وغنائها ملكية اكثر منها جمهورية، على الرغم من حماستها الشديدة لثورة يوليو، ومن حبها الشديد لقائدها عبدالناصر، وهي وريثة الغناء المصري التقليدي الذي أخذته مباشرة من استاذها الروحي الشيخ أبو العلا محمد الذي تعرفت به ذات يوم، بالمصادفة، في محطة السنبلاوين، ثم امسكت بيده، وهي دون العشرين من عمرها، ولم تتركها حتى صحبته، وبرفقة والدها الذي كان معها، الى منزل الأسرة في طماي الزهايرة. ثم عادت والتقت به في القاهرة بعد ذلك ولزمته حتى توفي.
كما هي وريثة تقاليد الغناء المصري الذي ارسى دعائمه أساتذة وفنانون كبار على رأسهم زكريا احمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي.
لهذه الجهة يمكن القول ان الحب الذي غنته أم كلثوم هو الحب الذي كان سائدا في مجتمع شرقي ذي طابع ذكوري. في هذا المجتمع كان الرجل هو 'المعبود' او 'الأمير'، او 'الآمر' الناهي، كما كانت المرأة هي 'الأنثى'، او 'الجارية'، التي تكد وتكافح وتتعب لتظفر به وتحوز رضاه.
كانت هذه 'الجارية' تتذلل الى أميرها، وترى في رضائه عنها كل صبواتها وأحلامها. كانت مؤسسة الرجل في عزها، ولم تكن قد وصلت الى مرحلة الانهيار التي تعانيها اليوم.. وفي اغنيات أم كلثوم التي صدحت بها على مدار عمرها الفني ألف دليل على كل ذلك..
ولكن أم كلثوم، على الرغم من ذلك، ليست مطربة شرقية قديمة، وانتهى الأمر. ان الأمر لا ينتهي على هذه الصورة ولو انها كانت بالفعل الناطق الفني الأول باسم تلك القيم الاجتماعية والعاطفية لمصر والشرق في زمانها، وفي ما سبق ذلك الزمان.
نهاية وبداية
لا يلحق ام كلثوم قدم او بلى، على الرغم من ذلك، لأن القلب البشري يجد في غنائها - وعلى الدوام - غذاء دائما ولو ان لهذا الغذاء مذاقه التراثي او التاريخي، بالطبع، ان أم كلثوم هي مطربة لحظة تاريخية معينة، هي لحظة التقاء الماضي بالحاضر لحظة تفتح مصر على الحضارة الحديثة، لحظة يقظة البورجوازية المصرية وانفتاحها على أوروبا، كما هي لحظة بحث مصر عن هويتها، على كل صعيد. وقد عبّرت أم كلثوم عن هذه اللحظة، أفضل تعبير، فهي نهاية عصر فني واجتماعي، كما هي بداية عصر فني واجتماعي معاً.

عن كتاب (ام كلثوم)
للناقد الراحل سعاد الهرمزي