يحيى الشيخ في أكثر من سيرة

يحيى الشيخ في أكثر من سيرة

سهيـل سـامي نادر
من موقع ريفي مرتفع في تونس رأى الفنان يحيى الشيخ بضع دجاجات ينقرن حبوبا غير مرئية ويتحركن في دوائر. لقد صنعن تصميما لونيا وحركيا يستقر ويتلاشى في رقصة عشوائية، فيما كان المشهد الريفي يدمجهن بأردية نساء منحنيات على أرض منبسطة بألوان متعددة، وبغسيل ينفخه الهواء ويجعله يرفرف، وبكتل ومساحات تتفكك وتتشكل الى ما لانهاية.

كان ثمة صمت سلمي يلف ارضا متموجة يلعب فيها الضوء والريح واللون. ثم هاك هذا الاكتشاف: ريش. أي أعجوبة هذه! ريش يتحرك منتظم بقوانين قارّة في توزيع اللون والكثافة. إنها مادة لم يجربها.. فليجربها! كما في الماضي تقدم الطبيعة العون في اكتشافات الفنان البصرية، لكن ضمن تركيبة معرفية جديدة وحساسية أقل وثوقا بالذات. بالنسبة للفنان توفر مواد الطبيعة نسقا انتاجيا كاملا، يضمن به تجديد معرفته بالعالم، والاستغراق في نسق متعدد المراحل من العمل، والتمتع بتعبير المادة الأصيل ومبادئ ظهورها السافر الجميل، والعزلة. بوصفه كرافيكيا، وجد أن المعالجات الصناعية للعمل الحرفي ساعدته في تحويل توقفاته الاضطرارية فيها الى لحظات تأمل. على عكسه كان الفنان الكرافيكي فائق حسين يشكو من وجود هذه التوقفات التي تبعده عن الرسم المباشر. يحيى الشيخ احتاجها دائما، وكانت واحدة من قواه، واستخدمها للتحدي، مجربا صبره، وتأملاته، والتعديلات التي كان يجريها، والمحذورات التي يقيمها. لكن أثناء تلك التوقفات يتسلل اليه شعور بأن ثمة لحظة تالية سيعود منها فارغ اليدين. كان يستقبل النهايات في وعيه أثناء ما كان يعمل بحماس وحمية في البدايات.
من يحتمل لصق آلاف من الريش في جسد مساحة العمل الفني محافظا على التصميم الاصلي للمادة؟ سيواتيه الصبر ما دام قد استولى عليه الإغراء. العمل الكمي المتعب يستغرق زمنا طويلا على نحو ينقطع عنه لكي يعود اليه، وأثناء ذلك يتأمله بذعر. ومثلما أن الكتابة تؤكد الغياب، فإن تلصيق كل هذه الكمية في نسق محدد، يضاعف الغياب. العمل الاخير كتابة هو الآخر، ولسوف تتجرد بوساطته مئات من الدجاجات وسط مساحة صغيرة، والمشهد الريفي يتفكك في ليل الصور المتخيلة، ليصبح كل المشهد ذكرى عاطفية. كتب الفنان يحيى الشيخ نصا عن سيرته الفنية سماها سيرة الرماد. من يقرأه يدرك أن الفنان يعامل هذه السيرة بتدقيق شديد، وبإلحاح على تفاصيل يختلط فيها الأداء الفني والتقني بالرؤى والتأملات، ثم يسرع الخطى بها لكي يراها رماداً. فما الذي يحدث؟ إن حسّ النهايات يضطره الى تشكيل محترفه الفني كحالة مؤقتة، ساعده في ذلك، هجرته من وطنه، وترحاله الدائم، والشعور بأنه زائر مؤقت في أي مكان يلجأ اليه. من هنا نراه يضع في سيرته الكثير من المشاعر الحزينة، وذاك العنوان المثير يشير الى اقتحام العقل للبصر والقلب! علينا الاعتراف بأن السيرة المكتوبة ليست هي السيرة البصرية، والأخيرة ليست هي ما نراه على الفور، بل هي، إذا أمعنا النظر بالتفاصيل، نتيجة فنية لتضافر قياسات ووظائف فكرية وادائية وجمالية معقدة. والحال إنني لا اقتنع بوجود سيرة واحدة للفنان بل مجموعة سيّر.
إن ما يميز الفنان يحيى أنه يدقق بجدية وتركيز على تجارب تنبثق من تأملاته قد يصل بها الى لحظة يستنفد فيها أغراضه مرة واحدة، لينقطع شاردا عنها. ثمة القليل من المرح والكثير من الحكمة وممارسة الجد. حتى في سياق تجربة استخدام الريش سيحافظ على موضوعية حزينة ووقورة في بناء اعماله. والحال أنه في سياق السيرة، تظهر بوضوح اللحظة التي ينتقل فيها الفنان من حقل الى آخر، ومن تجربة الى اخرى، ومن انقطاع الى اكتشاف. إن سيرته الفنية تشتمل على كل هذا. بل هناك رماد حقا أراه شخصيا تعبيرا عن ولادات متتالية تسبب آلاما جسدية وروحية، يزيدها ألما عقل قوي اعتاد عدم التصديق والشك من المؤكد أن وعيا حادا، وتشاؤما عقليا، متوفران في كتابة يحيى الشيخ، لكن سيرة الرسم، وهذا الاستبدال له معنى، توضح نوع الافكار والعواطف الذي يودعها الفنان في عمله، ولاسيما عند بناء تجربة، ووداع اخرى. في تحولات الرسم، ينمي يحيى رغبة جامحة في الاندماج بعالم الاشياء، اندماج يرقى الى الاتحاد الصوفي (بمعنى الفناء). إن الرماد ههنا هو تحوّل واستقبال، لكن الفنان الجاد يراه من زاوية ما أخلاه وليس ما استقبله.
هناك عصامية ذات رباط متين تشد الافكار والرؤى بالتجارب الفنية للفنان، قد نجد فيه شيئا من شاكر حسن من جهة الحميّة في الإتصال بالأشياء، وتلك الجديّة والمثابرة في توحيد ما يراه برسمه، بيد أن يحيى بعكسه تماما، يحب الأشياء لذاتها، ولا يمتلك أملا في أنها ستنقذه. لعله مثله معذب في شوقه للإتصال بالأشياء، لكن ليس مثله، فهو مخلص لنظام الاشياء الداخلي، وشيئيتها الموضوعية، مع رغبة في أن يتلاشى هو نفسه في نسقها الخاص.
إن يحيى ينتظر نداءات من المواد التي يعرف أنها قد تتحول الى رماد. هو محب للحشائش والأوراق والأغصان والأخشاب والأشياء التي تظهر من ثقوب أو كوّات من ضوء. لو خُيّر حقا لظل يسير في غابة. بعد مغادرته الى وطنه نمى الفنان مواطنية نشطة داخل اشياء لا حصر لها يستطيع أن يتفحصها بمعداته وليس بوساطة نماذج ثقافية غريبة عنه. اختياراته الاساسية تنتصر في النهاية، إذ لا يمكن أن يسير في الغابات الواقعية الى النهاية، بل إنه سيرتكس على اعتاب تقاليد محترفه الفني. لعلّ هذا يسبب له خيبة - الخيبة عند تلمس ورقة عنب تجعل حياته مثل الضوء، ثم اختيارها في موقع ما من اللوحة، فكأنه نزل من الضوء توا نحو فيزيائية يخشاها. انه دائما يقول ليس هذا، بالرغم من أن هذا هو بالضبط المحسوم بالرسم ولا فكاك منه.
جذع اخضر قريب من اللون الاسود نفذه كرافيكيا. إنه ليس جذعا عاديا، فهو لا يرتفع بل يستلقي افقيا، دون ان يخفي كثافة شفافة تظهر ما يجري في باطنه. في الظاهرة هناك الانكفاء، والاستقلالية، والكفاية، والحدود التي تجعل السطح مميزا ومستقلا بحجم مشبع.. لكن نفس الجذع يبدو جسدا، او تميمة كبيرة. وفي واحدة من تحولاته رسم خطوطا بيض متشابكة تحته، او فتح مستطيلا رأسيا ازرق في أعلاه كسماء. هل كان يقلل من سطوة الحجم أم لكي يمارس علاقة ما بين كتلة وخط، أي السكون والحركة، ثم المساحة الافقية والاخرى العمودية؟ اتساءل لكي أقول إن عينيه تقودانه، فهو يعرف اللعبة، وحركة الخط التي يضعها منساقا بالضرورات البصرية قد لا تغير شيئا من الفكرة الاساس، ولا تعبث برتبة حجم وقور كهذا، وهو يكاد يدرك أن الجذع أعلى رتبة منه في احتمالية الموت والحياة. إن الأشجار اقدم منا على اية حال.
كثيرا ما تنتهي حركة أشواق الفنان الى أن تتوقف في تأمل نفسها بحزن. إن الكتابة - والفنان كاتب نصوص مدهشة يستخدمها في وظيفة اعادة التقييم - تنزلق بسهولة الى احتمالية الافكار، وتجارب الحياة المزعجة وغير المتوقعة، ووصف اللون العاطفي ضمن بيئة معادية خارج المحترف الفني، وتشخيصات الوعي الآنية من إخفاق وعاطفة وهرب.
يدرك يحيى أن حساسيته الوجودية علقت بالرسم، ولا جدوى من معارضة الرسم بالكتابة والتفكير. وسواء التقى الرسم بحركة الشوق أو عاكسها، فإنه يقدمها كصراع وتحولات ضمن مجموعة من اللحظات. الرسم في النهاية اختيار كامل، وهو من يضمن عودته، فيما هو يصارع السأم واللاجدوى، الى المحترف الفني، والى نسق انتاجي مترابط مليء بمسرات الاكتشاف، واستدعاء أمل في تجربة تالية مشبعة. لم يظهر الفنان منذ بداياته الاولى أي ميل محدد طاغ، فهو تجريدي وتشخيصي، او تجريدي ينهل من الطبيعة ومن موادها، لكنه لم يقترب من الواقعية التي تكتفي بالتسجيل، فالأشكال الواقعية أو الايقونية عنده مغمورة دائما بوسط فني ومعالجات جمالية. بيد أن اختياره للوسط التقني يتضمن الكثير من المحددات الاسلوبية والمضامين، فأعماله في الحفر على الخشب والزنك تمتاز بانفعال عاطفي وحركات متنافرة أو أنها تقدم أوضاعا ذات مضمون انساني، على عكس اعمال الكرافيك الصافية التي يودع فيها الكثير من الورع والوقار شبه الديني. أما اعماله الزيتية فهي حرة تكاد تجمع نثارا من الاشكال التي يهتم بها والتي يمثلها على نحو مختزل، ملاجئ سماوية، وبيوت تتشبه بالسحاب، والكثير من اوراق العشب، وفجوات ضوء علوية تخترق نباتات لتشف مساماتها الداخلية، والوان قوية وعاطفية بتنظيم سديمي تبدو بتضافرها مع الضوء مناخا خارجيا من دخان وعواصف وتصادم كتل باردة باخرى دافئة.
ومثل اي فنان عراقي تأثر بتاريخ بلده استلهم ميثولوجية الخلق والتناسل في تجربة اراها الاكثر ذاتية ومرحا وحيوية جمع فيها الالهة القديمة بالحيوانات والطيور التي ترد في الحكايات: القرد والهدهد والطاووس، محوّلا عشتار الى لعوب في حمام تعرض فيه مفاتنها مرة، وجامعا اينانا ودموزي في ايقون واحد: هي متوجة كامرأة، وهو يكلل رأسه شعار الالوهية العراقي المركب ما بين نجمة واشعاعات شمس. يعمل يحيى الشيخ على تجارب كاملة لا يغادرها الا بعد ان يشبعها ويستنفد مادتها التعبيرية. ولعل تجربة اللباد هي الاكثر اثارة، بعد تجربة الريش، فهو يعالج صوف حيواني ضمن سلسلة معقدة من الاجراءات قد يشرحها كراس كامل. بيديه تغيّر هذه المادة نفسها من خيوط الى نسيج مضغوط (سيكون من المرح ان اقول ان واحدة من مراحل الانتاج تتشبه بالهيولي الفلسفي!). لعل اختيار الفنان هذا العمل، هذه المشغلة، يشير الى احتياجه الشخصي الى الاستغراق في سلسلة تقنية – زمنية، تستوعب صدفاً من جهة، وتنسيقا متوترا من جهة اخرى، تتحول فيها المادة من حال الى حال، من نظام الى نظام، من شيئية موضوعية يابسة، صلبة ومقاومة، الى نسيج متفاعل مع اللون وأعمال التصميم ومرونة الطوي وامكانية الاضافة واعمال الإبرة. والحال أن بعض الأشكال الملونة التي نجدها على هذه الانسجة هي نتاج الصدف الموضوعية، لكن مهارة الفنان تجعلها جزءاً من تصميم كامل.
تتشكل السيرة الفنية ليحيى الشيخ من سيّر كاملة، من تجارب فنية مشبعة، يستبدل فيها الفنان اهتمام باهتمام آخر، فكرة فنية بأخرى تبدو بعيدة عنها تماما، مادة رخوة بأخرى خرقاء تماما، على نحو يبدو معها أنه يحرق ماضٍ بحاضر، وماض بماض. ونكاد بهذه النتيجة نفهم فكرة (الرماد)، فهي تبدو استنتاجا لسيرورة لا تتوقف، تخلّف وراءها الحزن والمرارة، ويختلط فيها نسيان بتذكر، وداع بلقاء!

سبق لهذه المادة ان نشرت في صحيفة المدى 2010