يحيى الشيخ: أنا ابن الوجود الجائع أبداً… في الرسم والكتابة فهمت ذلك

يحيى الشيخ: أنا ابن الوجود الجائع أبداً… في الرسم والكتابة فهمت ذلك

صفاء ذياب
دخل الفنان والكاتب العراقي يحيى الشيخ الفن من أبواب كثيرة، فبيئته الأولى كانت منبعاً لتلمس تفاصيل الطبيعة والإحساس بها، لينتقل بعد ذلك ويتتلمذ على يد رواد الفن التشكيلي في بغداد، خصوصاً في أكاديمية الفنون الجميلة التي تخرج فيها عام 1966، ليكمل بعدها الماجستير في الكرافيك عام 1970 في يوغسلافيا، والدكتوراه في علوم الفن من معهد البحوث النظرية موسكو 1984.

الشيخ المولود عام 1945 في مدينة قلعة الصالح في العمارة جنوب شرق العراق، أقام ابتداءً من عام 1972 أكثر من 19 معرضاً شخصياً في الغرافيك والرسم واللبّاد بين بغداد وموسكو وطرابلس الغرب وتونس وتروندهايم في النرويج ولندن ومسقط وباريس، إضافة إلى مشاركاته العديدة في بيناليات عالمية منذ عام 1969: لوبليانا، كراكوف، وارشو، بوينس آيرس.
لم يكتفِ الشيخ بالرسم وتقنياته العديدة، بل دخل لعوالم الكتابة، سرداً وشعراً، وهو بهذا يسعى لتعدد شخصياته، حسبما يقول..

■ الرسام، الشاعر، السيري، القاص… شخصيات يتنقل بينها يحيى الشيخ، ألا يكفي أن تكون إحدى هذه الشخصيات؟ أم أن هناك عطشاً لا ترويه شخصية واحدة؟
- سؤالك ينم عن شك بإمكانية العيش بشخصية واحدة… أعجب! كيف يمكن لامرئ أن يقضي حياته، بعقل واحد وروح واحدة؟ أي حياة فقيرة وجافة وشحيحة يقضيها هذا «الواحد»؟ لابد أنه يكذبُ علينا ويدّعي ذلك خوفاً من اتهامه بانفصام الشخصية، أو أن تكون شخصياته المتصارعة مع بعضها تكذب على نفسها ولم تحسم أمرها. في أعماقي أكثر من واحد متآلف، متطامن، متفق مع نفسه ومع الآخرين. إنهم يتبادلون الأدوار بدون صراعات ولا أمراض. في آخر المطاف، في الأزمات الداخلية، ينصاعون لحكم الحياة. حتى الله خلق الكون بملايين الأوجه ليكون فيها جميعاً، وتكون فيه.
لا تكفيني شخصية واحدة! لا تكفيني حياة واحدة! لا يشبعني أسلوب واحد! ربما لا يكفيني موت واحد. في مجموعتي الشعرية المعدّة للطبع «أتواطأ مع نفسي» قلت:
«لا أعرفُ كيف أعيش،
لا صورةَ واحدة لي،
لا أعرفُ كيف أموت،
لا صورةَ واحدة لي».
■ في سيرتك الذاتية «سيرة الرماد»، حاولت أن تقدم نفسك كفنان بالدرجة الأولى، كيف تشكل هذا الفنان باستعادات من الذاكرة وسيرة المكان.. أين يكمن الاعتراف كقيمة فنية وسردية في هذه السيرة؟ وما الذي دفعك لكتابة سيرة ذاتية في الوقت الذي تشتغل عليه لإنتاج نصوص أخرى شعراً وسرداً؟
- بتوصيف بسيط للكتاب يمكنني القول إنه عادة كتابة يومية قبل أن يكون فكرة كتاب… وكأنني ألقي حجراً في بركة راكدة، اتسعت الكتابة وكوّنت كتاباً عن طفل كنته يوماً فكانت السيرة مدخلاً له، لكنها لم تكن معناه الوحيد، ولا غرضه. لهذا توارت سيرتي خلف أفكاري، ومفاهيمي، ومحاولاتي الشعرية، وتجربتي في الرسم… وأخيراً خلف موقفي الوجودي. في الكتابة كنت أطارد أرواحاً سكنتني يوماً.
«سيرة الرماد» ليس كتاباً لتأريخ شخصي، وإن وردت فيه أرقام لسنوات وأسماء هنا وهناك، فهي مجرد إشارات ورموز تشير إلى حقب تبدو كما لو أنها جاءت من أزمنة غابرة. ليس في الكتاب وصف للواقع، وحتى المكان الذي استقرت فيه الأحداث، هو مكان سحري سرعان ما كنت أغادره إلى مكان آخر. ذهبتُ في الكتابة إلى ما هو جوهري، الأمر الذي لم يبرر الحشو ولا الجسور. ولم أكن مضطراً للاستجابة لفروض الشكل. كان همي منصباً على ما يسحرني ويبقيني في الصميم… الصميم، الذي بلا مفاتيح ولا أبواب ولا جدران، لهذا تحديداً تجد في الكتاب الكثير من التجريد، بل تجريد خالص.
أمام الكتابة واجهتني حقيقة التشظي والتشرذم الذي سادت سيرتي. تماما وكأنني أواجه خلاءً شاسعاً أعثر فيه على لقى، وإشارات مرور ما زالت شديدة الوضوح متناثرة في الأرجاء، فما كان مني إلا أن أجمعها في مكان صغير. عملياً أفرغت ما يحيطني من شواهد وعلامات تدلني على حياتي وعلى طريقي في البحث عنها. فاكتشفت حجم الضياع الهائل الذي يحتويني. لم يكن مفاجئاً، فاعترفت بالفشل في أول صفحة من الكتاب. الفشل في استعادة حساسية الماضي، استعادة الأصوات، الروائح، الألوان، المناخ… والناس. لم يبق في ذاكرتي منها غير معان مجردة، ذكرى طعوم.
«سيرة الرماد» أسست للضياع، سجلته وأكدت عليه، عندما كنت بأمس الحاجة إلى عكس ذلك تماماً. عندما نحصي ما بقى لدينا، يعني ضمنا أننا نسجل ما فقدناه وضاع إلى الأبد. وهذا ما كان على «سيرة الرماد» أن تقوم به بأمانة تامة. حاولت في الكتابة كما أحاول في الرسم، أن أسحب فكرتي من منطقة العدم إلى منطقة الحاضر، غير أن للحاضر فروضه وبنيته، التي لا تسمح للمخيلة أن تبني النسيان في الزمن الحاضر. فالمخيلة، بطبيعتها، تشتغل عكس الضياع، في الوقت الذي كنت أحتاج منها أن تشتغل معه، وباتجاهه، لترسمه بوضوح، وتحدد حجمه وسحنته. لقد كنت أنفخ في رمادي بحثاً عن جمرات اعتقدت أني تركتها ورائي.
«سيرة الرماد»: هي سيرة ذهن، سيرة مخيلة عثرت على ذاتها القديمة وهي مبعثرة، مقطعة الأوصال؛ في مدن وبحار، في غابات وصحارى. ولا أدعي أن لدي أهم منها، لكن من حقي الادعاء أن سيرتي الحقيقية، التي صنعتني، هي خارج هذا الكتاب، وهي سيرة قلب، والقلب بطبيعته بلا ذاكرة.
■ بين روسيا وسوريا وليبيا والنرويج تشظت أيامك، لكنك سعيت للمِّها بأعمال عدَّة، رسماً وكتابة، ما المكان الذي يعيش فيك وتعيش فيه؟ وكيف لهذا المكان أن يؤثر على تجربة متنوعة مثل تجربتك لينتج أعمالاً مغايرة؟
- ما دمنا نتحرك، نخرج وندخل، نقفز ونسقط، يظل المكان فراغاً متحركاً. الذاكرة وحدها تهب الأماكن ثباتها وحيزها الفعلي. لهذا نراها أكبر من حجمها عندما نتحدث عن طفولتنا. نتحدث عنها كما نتحدث عن جنة لا حدود لها. أي ظاهرة نصدق: ظاهرة المكان على الأرض بأبعاده وقياساته، زواياه وأبوابه الخشبية البائدة، الذي كنا نتقافز فيه ونحلم، أم ذاكرته؟ كنت في طفولتي أعيش أحلام يقظة شديدة الوطأة، حوّلت المكان إلى حلم يقظ. فتشكل في حياتي بأبعاد أربعة: طول وعرض وعمق وحلم. في المكان الأول تعلمت معنى المسافة المباغتة والمخاتلة. المكان ظاهرة تظهر وتختفي، تثبت وتتغيّر. مكاني الأول كان شاسعاً جداً، ذا نصفين، واحد للبشر ونصف كان مراحاً للحيوان، كانا يتداخلان. لم أكن أميّز في أيهما أعيش وألعب وأغفو. مرة افتقدني أهلي، وجدوني بعد عناء نائماً في ظل نخلة في طرف المراح قريباً من الأبقار. لطالما كنا ننسى الباب بينهما مفتوحاً؛ فيهبُّ الدجاج وتهجم العجول الحرة السائبة والخراف. كان كلبي كفيلاً بإعادة نظام البيت إلى سابق عهده، وكانت الذاكرة عساس المكان اليقظ يحمي جدرانه وزواياه ونخيله وتراب أرضه. هناك تأسست مفاهيمي، وأبعاد لوحاتي. من عناصر الطبيعة تشكّلت خامة ألواني ولغتي.
■ أقمت أكثر من 19 معرضاً في الرسم والغرافيك واللباد، وما زلت تشتغل على تقنيات أخرى… ما الذي يدعو فناناً للعمل بأكثر من تقنية؟ وكيف كانت تجربتك مع جيل الرواد الذي تتلمذت على يديه في ستينيات القرن الماضي؟
- في الرسم، ليس كما في أشكال الإبداع الأخرى، تكون للفكرة قدرة على التشكل بهيئات متعددة، أحياناً لانهائية. هذا يستعدي تقنيات متعددة الإمكانيات. يمكنك أن ترسم رجلاً بقلم رصاص، لكنه لن يعطي كل ما لديه فبإمكانه أن يكون نحتاً، أو بالألوان. لا أرى تقنية واحدة لديها إمكانية استيعاب نهائية للوجود. وتبقى عادات الرسام ومواضيعه ومزاجه النفسي والذهني وراء تعدد أشكاله التعبيرية. لطالما تعلقت تقنياتي بطبيعة الأفكار والموضوعات التي اشتغلت عليها. كانت تجربتي في اللبّاد (الصوف المضغوط) عودة للمكان الأول، لوشائع الصوف، ورائحة الأغنام، للقرية الأم. تجربتي في الريش كانت عودة بجناحين شاسعين إلى البساتين الأولى والأعشاش.
تتلمذت على يد أهم رواد الفن في العراق، فائق حسن، وعلى يد واحد من أهم الكرافيكيين البولنديين، رومان ارتموفسكي، وعلى يد واحد من أهم فناني الجداريات، فيكتور لازسكي. وتعرفت على خالد الجادر وتجربته عن قرب، كما تعرفت على تجارب آخرين من الرواد. كانت خبرة جاهزة شكّلت جانباً أساسياً في وعيي وتجربتي الخاصة. لا أتخيل نفسي بدونها ماذا كان يمكن أن أكون! بدون مبالغة بالتواضع أقول إنني صنيعة كل من علّمني وكل من قرأت له، وكل سماء وقفت تحتها وكل أرض وطأتها قدمي. أنا ابن الوجود الجائع أبداً. في الرسم والكتابة فهمت ذلك.
■ قلت إنك فشلت في أن تكون كاتباً، وهذا يختلف عمَّا يراه الآخرون، وعلى الرغم من كلامك هذا إلا أنك بقيت شغوفاً بالكتابة، شعراً وسرداً.. أين يكمن الفشل؟ وكيف تمكنت من أن تحافظ على روح لغتك واشتغالاتك الفنية في الوقت نفسه؟
- في «سيرة الرماد» أكدت على فشلي في تلمس طريقي لاستعادة حيوية الماضي. حاولت جاهداً أن أصل إلى مناطق ما زالت لم تبوّب نهائياً في الذاكرة، بمعنى لم تأخذ مكانها وحجمها وشكلها النهائي كذكرى، كانت زئبقاً يسعى إلى شكل. وتلافياً للفشل الذي كنت أخاف الوقوع فيه، أعدت تشكيلها ووضعها في مكان يسمح بمشاهدتها بوضوح. كتبت في السيرة: «أوضح الأحداث يتموضع في مكان لا يفضي إلى طريق يمكن الإشارة إليه. هنا إشارة مرور ملقاة على الأرض. ليس في نيتي تحقيق سلطتي عليها وأرفعها لتشير إلى جهة ما. هذا يعني أن أبقى حيالها في العراء»… «ليس لي مكان مفضل أعاين منه عمراً محدداً. كلاهما المكان والعمر أمسيا حالة واحدة. نسخة سلبية لما كنت عليه. كينونة ماضية. كل ما دونته من يوميات: أفكار ورسائل راحت في تصفياتي للمراسم التي هجرتها. أضعافها كانت التخطيطات ومشاريع الرسم، والكتب. ثلاثة وعشرون مرسماً في حياتي، كانت مأهولة بكل ما أحب، تركتها ورائي. أنقذت منها ما كنت اعتقده عزيزاً وما يمكنني حمله، وأهب للنار وللآخرين ما عداه. التفاصيل الصغيرة التي صنعتني والتي لولاها لما كنت. تلك التي غرقت في تأملها وغبت عن ما سواها. الوقائع العابرة التي شكلت الزمن الحقيقي لحياتي، والأشياء… الأشياء الوفية لصمتها التي نضجت بينها، أين يمكن، اليوم، العثور على كل ذلك؟ «اعترافي في الفشل هو إجابة على سؤالي الأخير».
■ الشعر لديك عالم موازٍ للرسم، ففي نصوصك نرى الرسام الذي يسعى لبناء لوحة متكاملة بالكلمات، وفي اللوحة نقرأ نصوصاً مفتوحاً على عوالم لا تنتهي.. أيهما يضيف للآخر: الرسام أم الشاعر؟ وكيف يمكن لرسام ما أن يبني لوحته ونصه ويؤثثهما معاً؟
- لا أخفي عليك أن كليهما: الرسام والكاتب، سيئا الطبع، اضطهد أحدهما الآخر. في الوقت الذي كنت في أمسِّ الحاجة للكتابة، كان الرسام يدعي التفرغ للرسم، في الوقت نفسه لم يتمكن الكاتب أن يأخذ حقه ويعصي الأوامر. كان مقموعاً بدعوى أنها ليست مهنته. في نهاية المطاف اكتشفت أين سأغرق في الكلمات، وقد سدّت علي أنفاسي، اختنقت.
في «سيرة الرماد» كتبت عن صراع الرسام والكاتب في قلبي: «في صباح نهار مغرور بفتنته توقفت عن الرسم. أخذتْ رعشته تضمر في أصابعي. دبيبه في القلب توقف بلا ندم. فقدت السيطرة على المرسم؛ فلفظني خارجه. أمسيت متشرداً، يطمر الغموض خيالي، وفقدت القدرة على التصوّر. الخلية السرية في عقلي، التي كنت أسميها رسماً، تلفت واختفت. أنا مشوش ومنبوذ… خرجتْ أيامي من مدارها. لم أعد أنام بانتظام. أفيق قبل الفجر. أشتغل وأكتب وأعود أنام بداية النهار. آكل متى أجوع. أخرج من البيت متى ينتابني الملل. خلل في نظام الكون والبيولوجيا. من تعنيه حياتي؟ لا أحد! فمن يعبث بها هكذا؟ سبب ما يشتغل لوحده خارجها: الكتابة مرض طفولتي المزمن الذي لم أشف منه، المحطة التي أقمت فيها ما مر من عمري، التي كنت أراقب منها عربات الآخرين تمرق محملة وأقرؤها، أدب أمريكا الجنوبية، وأمريكا الشمالية، وايرلندا، وإنكلترا، وأوروبا، وروسيا، والهند، وآسيا الشرقية والوسطى، وأفريقيا… وأدب بلادي. أغواني قريني أن أقف مرة على سكة الحديد تلك. وقفت… لم يأتِ قطار، ولم يمضِ قطار. لكن مرة شاهدت قطاراً تائهاً يصفر في الفيافي!… لملمت أوراقي، وأخذت أثمن كتبي، وسافرت… رأفة بنفسي».
■ في كتابك الأخير «ساعة الحائط» اخترت أن تكتب نصوصاً غير مجنسة، في الرسم والشعر والسرد.. ماذا بعد هذا الكتاب؟ وما الذي تفكر بإنجازه رسماً وكتابةً؟
- بعد صدور «سيرة الرماد» أدركت أنني شخصان متآلفان يمكنهما العيش بلا منغصات ولا حروب، فعدّتُ بحمى لاهبة للرسم، غادر الرسّام إلى عاداته الأولى. أنجزت مجموعتي «أكثر من سيرة» وعرضتها عام 2013 في عمّان. وواصلت الكتابة بزخم أكبر. كنت أكتب كل يوم وأرسم كل يوم… كنت أتنفس برئتين واسعتين وأرسم، وأنام فاتح العينين وأكتب. إبّان كتابتي لمجموعة «ساعة الحائط» أنجزت مجموعتي «لبّاد» وعرضتها 2015 في عمّان أيضاً. تضمّنت تجارب على تقنيات جديدة. خلالها أنجزت مجموعتي الشعرية الأولى «أتواطأ مع نفسي» ووضعتها تحت يد الفنان صدام الجميلي لرسمها. وهي مهيأة للطبع الآن.
بين لوحة وأخرى كنت أكتب، فأمست عادة لنقل الذهن إلى حالة تنشيط أخرى. كتبت روايتي الأولى «بهجة الأفاعي» التي تنتظر الحكم عليها بالنشر. على طاولتي عدد من قصص الأطفال أرسمها وأفكر بنشرها أيضاً. خلف الكواليس، كما يقولون، يمارس رجل حياته البرية في الغابة، على الساحل، أو بين كثبان الثلج. أنا مولع بتشظي حياتي هكذا، وأراقبها وهي تتبدّد بمعرفة أكيدة وسعادة.