ميشيل فوكـو  والشعـر

ميشيل فوكـو والشعـر

شاكر لعيبي
يُدْهَش أستاذ للفن في العالم العربيّ أنه لا يستطيع إيصال مفكّرين وفلاسفة وجماليين إلى طلابهم،لأن دروس الآخيرِين موصولة مباشرة بقراءة شعراء مثل بودلير وريلكه المجهولَين تقريباً لدى غالبية الطلبة. أتذكر يوم مراجعة ترجمتنا لأعمال ريلكه الشعرية الفرنسية، أن طالب ماجستير جاءني حاملاً مجلة فرنسية تُعنى بالعمارة، يتصدّر إحدى مقالاتها عن التصميم الداخليّ

استشهادٌ طويل بعبارةٍ لريلكه. وقال: أليس هو شاعرك الذي تشتغل عليه؟ قلتُ له: نعم، وهو من كتب قصيدته الطويلة (نوافذ) التي هي من أهمّ عناصر تخصّصك، لكن برؤية الشاعر.
لا بدّ اليوم لهذا الأستاذ أن يتوقف عند شارل بودلير عند معالجته لمشكلة الحداثة والجماليات الحديثة، حَسْبَ تصوُّر ميشيل فوكو الذي يبنيه على أعمال بودلير. في المجلّد الرابع من (أقوال وكتابات) فوكو، جُمعت نسختان من تعليقات "ما الأنوار؟"، إحداهما بالفرنسية هي محاضرة فوكو في الكوليج دو فرانس، والثانية محاضرة أمريكية تتوسّع في إشارته إلى "رسم الحياة الحديثة لبودلير" الغائبة عن النص الفرنسيّ.
عندما طُوْلب فوكو بتحديد الحداثة، أصيب بالحرج غالباً. واعترفَ أنه لم يفهم أبداً المقصود بالفكرة، إلا عند بعض الكتاب، خاصةً بودلير الذي تظهر الحداثة في حالته أشبه "بالموقف attitude". نقول، هنا ينبغي استطراداً التيقظ لعالم بودلير الشعريّ أشدّ اليقظة، إذ نستطيع أن نقرأه في مجمله بصفته "موقفاً" حديثاً.
اهتم فوكو بأعمال الرسّام مانيه وبودلير كليهما. لكن الحداثة في نظر فوكو مرتبطة بشكل وثيق ببودلير، ويصعب الحديث عنها من دون الحديث عنه نفسه. هل يعيد الأستاذ العربيّ تعريف طلبته منذ البدء بحياة بودلير، حسناً، هذا أمر سهل، وشعره؟ هذا أمر صعب.
يلخّص أستاذ فرنسيّ حداثة بودلير حسب قراءة فوكو بأربع نقاط قد تنفع أستاذنا المحليّ: إنها أولاً موقف فاعل من الحاضر، ليس بفهمه على أساس أنه "نسق، نمط" بسيط يتوالى إلى نسق آخر دون أصالة، ولكن على أساس إدراك المحدّد والخاص به، وما به من "بطوليّ"، أي الحكم على اللحظة كما عِيْشتْ بشكل كامل، وفي اتصال كامل معها. إنها ثانياً ولهذا السبب "تمجيد" للحاضر، ولكن ليس بحال من الأحوال تقديسه، ولا "محاولة الإبقاء عليه أو تأبيده" الذي لن يكون موقفاً حديثاً بل محافظاً ورجعياً. فالإنسان الحديث Le moderne هو من اقتنع، وبشكل مُفارِق، بأن لحظته التاريخية حاسمة، ولكنه اقتنع في الوقت نفسه، بضرورة تجاوزها. هذا الموقف، ثالثاً، هو موقفٌ فاعلٌ تجاه الذات، يقوم على التحرّر الذاتيّ، بالاندفاع الى فضاءات الحرية التي أشرعها الزمن الحاضر، دون توسيعها. كل ذلك من أجل، في الأقلّ، إعادة خلق عالم مناسب ومكيّف للعالم الشخصيّ. رابعاً وأخيراً القناعة بأن "هذا التمجيد الساخر للحاضر، وأن لعبة الحرية مع الواقع لجعله مُتجلّياً، وأن الإعداد الزاهد للنفس "لن تمرّ كلها عبر السياسة ولا المجتمع، وإنما عبر شكل من أشكال الفن: الاهتمام بجمالية نسق الذات في الوجود.
أين، من جديد، شعر بودلير في هذا كله؟
يدرس فوكو مجمل أعمال وحياة الشاعر، الشعرية والسلوكية، في إطار تحليله. ويربطها بتأنقيّة (أو غندورية dandyisme) بودلير بصفتها مظهراً من مظاهر النشاط الاجتماعيّ الحرّ غير النفعيّ الهادف لعيش الجمال الحقيقىّ. كتابات بودلير، على المستوى الشكليّ، تعتمد على التجديد الفرديّ في اللغة وأنماط التمثيل، و(لا يقينه) الوجوديّ عائد إلى الطبيعة المتخيّلة والطارئة، فالحداثة أو "الحاضر في حضوره" ليس واقعاً يقوم الفنان باستنساخه، لكنه عمل إبداعه المُتخيَّل.
هنا بالضبط، عند الحديث عن الخيال والمخيَّلة، تستوجب معرفة فضلى بأشعار بودلير، مما يعقّد مهامّ أستاذنا العربيّ.