ميشيل فوكو: الجنون مُغرٍ لأنه معرفة

ميشيل فوكو: الجنون مُغرٍ لأنه معرفة

محب جميل
“عملي أنا؟ أنت تدري: إنه عمل محدود جدا، ويُمكنني القول بشكلٍ خطابي، إني أحاول الكشف داخل تاريخ العلم وتاريخ المعارف والمعرفة الإنسانية عن شيء ما يكون بمثابة اللاوعي”. كان هذا رد الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” في أحد الحوارات التي أُجريت معه حول ماهية العمل الذي يقوم به.

فيلسوف لا يكـلّ
حسنٌ، ربما نحاول أن نبدأ من هنا مع الفيلسوف الفرنسي الذي لا يكلّ “ميشيل فوكو” (1926-1984). إنه أحد أهم فلاسفة العالم في النصف الأخير من القرن العشرين، صاحب المؤلفات التشريحية إن جاز التعبير بشأن الجنسانية، المعرفة والسلطة، تاريخ الجنون الكلاسيكي، وأركيولجية المعرفة.
توفي “فوكو” بالإيدز عام 1984 في سن السابعة والخمسين، وقتها كان يعدّ من أكثر المثقفين شهرةً في أوروبا، عمل أستاذًا للفلسفة وتنقل بين جامعاتٍ عدة في تونس، أوبسالا، ووارسو حتى إذا جاء العام 1970، اكتسب أحد كراسي التدريس في “كوليدج دي فرانس” وهي من أكثر مواقع التدريس المرموقة في فرنسا.
ما أن تحاول التودّد إلى أعمال “فوكو”، حتى تكون بصدد حقيقتين أشار لهما “إدوارد سعيد”: الأولى، أن أعمال فوكو لا تترك أي قارئ إلا وتؤثر فيه أو تبدله، وذلك بسبب أن كل كتاب كان بالنسبة له تجربة في الانغماس وسجن للذات داخل تجارب محدودة مثل الجنون والموت والجريمة. والحقيقة الثانية، هي أن أعماله كُتبتْ على هيئة سلاسل: الأولي تترك مشكلة مفتوحة، تعتمد عليها الثانية، والتي بدورها تستدعي الثالثة مما يشكل في النهاية حلقة متصلة مترابطة.
في كراهية السجون
في عام 2007 أشار الدليل التربوي لصحيفة “تايمز”، أن “فوكو” هو المؤلف الأكثر رجوعًا له في العالم في مجال العلوم الإنسانية. لقد كان لفوكو موقفًا خاصًا تجاه آلية السلطة وطبيعة عملها؛ حيث أشار في كتابه “المراقبة والعقاب” الصادر في منتصف السبعينات، أن القرن التاسع عشر كان فخورًا ببناء السجون والحصون على أطراف المدن وداخلها أحيانًا. كان تفسيره أن السجون هنا حلَّت بدلاً من المقصلة من جهة، ومن جهةٍ أخرى كونها وسيلة عقاب للروح وليس الجسد.
ويستمر فوكو في التحليل؛ حيث يرى أن هناك صلة ما تجمع بين سلوك “الحجر” أوالعزل الصحي” الذي انتهجته السلطات الغربية منذ العصر الكلاسيكي حتى عصر ما بعد النهضة، وبين سلوك العصور الوسطى في عزل المصابين بمرض “الجذام”. هل كانت ثمة علاقة بين طبيعة العمل الذي تقوم به المؤسسات الكلاسيكية كالمستشفيات والمصحات النفسية، وبين طبيعة المحتجزين من فقراء ومهمشين؟ ربما عليك أن تقرأ كتابه المميَّز: “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”.
الأخ الأكبر يلازمك
كانت لفوكو رؤية، تتعلق بأن الفكرة المعلنة وراء بناء السجون بتلك الزنازين الضخمة والجدران العالية والأقفال المحكمة والحراس الذين يراقبون المساجين ويرصدون كل كلمةٍ يتلفظون بها، إنما هي “إصلاحيَّات” للتهذيب والتربية الإجتماعية. ومن ثم جاءت السجون كترجمة مباشرة لفكرة “الحجر” على كل من يرتكب جريمة أو جُرمًا يستحق العقاب. والآن صارت السجون المنظومة الأوسع انتشارًا بين المنظومات الجنائية في الدول الحديثة.
كأن ثمة ترابط هنا بين ما أشار إليه فوكو في كتاباته، وبين رواية “1984” أو الأخ الأكبر لجورج أوريل، حيث تقدست الرقابة وأصبحت تلك المنظومات التي تعنى بالعزل والضبطية، مثالاً على رغبة تلك المجتمعات في تكوين أفراد أكثر انضباطًا وطواعية لقوانين المجتمع الكلية.
لا يتوقف فوكو عند تلك النقطة، ربما يُمكن تخيله بالحوت الذي يرمى أطرافه داخل محيط من الكلمات التي تتناثر لتزيل الصدأ عن المعرفة. في مجلد “السلطة”، وتحديدًا في نصّه البديع “حيوات رجال شائني السمعة”، قدَّم فوكو مقدمة قصيرة كتب فيها خصيصًا عن مجموعة من السجلات ومدونات الحبس في القرن الثامن عشر، حول مجموعة من النساء والرجال الذين أُدينوا بجرائم مروعة، منها قتل الأطفال وأكل لحوم البشر وتقطيع الأوصال والقتل المتسلسل.
رأى فوكو أن هذه السيِّر المصغرة هي التي يجب جمعها. إنها حياة هؤلاء المهمشين على الحد الفاصل بين الفقر والسلطة، ولعل هذا سر ولعه بالتاريخ. منذ صغره وهو يفضل اللغة الفرنسية ويكره الرياضيَّات. أراد والده أحد أبرز الجراحين في مدينة “بواتييه” أن يحذو حذوه، لكنه لم ينجح. والأغرب أنه أثناء اختبار مادة “الفلسفة” في المرحلة الثانوية، لم يحصل فوكو سوى على 10 درجاتٍ من أصل 20 أي الحد الأدنى ببساطة.
كان شديد الفخر بنفسه، لا يترك مناسبة إلا ويعبر فيها عن جنونه خاصةً في مدرسة المعلمين العليا، ولذلك اعتبره أصدقاءه في الدراسة “نصف مجنون”. ويقول أحد أصدقاءه أنه سأله ذات مرةٍ إلى أين أنت ذاهب، فأجاب فوكو بحزم: “إلى أحد المتاجر، أريد أن أشتري حبلاً كي أشنق نفسي”.
تاريخ مشترك من الجنس
كان “فوكو” يحفر بقوة داخل أرض صلبة، أرض الجنس. حاول في كتابة (تاريخ الجنسانية) المكون من ثلاثة أجزاء: “إرادة العرفان، استعمال المتع، والانشغال بالذات” أن يرصد أبعاد تلك الظاهرة الاجتماعية والثقافية. لكن فوكو بدأ من زاوية أخرى؛ حيث الفرضية القمعية والتي تفيد أن مفهوم الجنس تم قمعه في العصور السابقة، وبخاصة في القرن التاسع عشر. وأن العصور الحديثة كافحت من أجل تحريره، وبدلاً من أن تعتبره شيئًا طبيعيًا قامت بوأده وتحجيمه.
كانت رؤية فوكو تجاه الجنس معقدة، فالممارسات، السلوكيات، الأحاديث، والخطابات هي التي أنتجت فكرة “الجنسانية”. وكان له رأيًا خاصًا يتعلق بالشذوذ الجنسي، حيث قال إن الأحكام العنيفة التي كانت تصدر ضدهم بالحرق مثلاً، كانت من باب اتهامهم بالحمق والمرض بالغريزة الجنسية.
ربما تكمن أهمية فلسفة فوكو، في كونها تطرح نقدًا عميقًا وصارخًا للمعايير الاجتماعية والآليات الجامدة التي تنتهجها بعض السلطات؛ بهدف فرض سيطرتها على الأفراد والجماعات من أجل محيط أكثر انضباطًا “Controlled Zone”. ابتكر فوكو مصطلح “أركيولوجية المعرفة”، وكانت موضوعاته الأكثر طرحًا على المائدة الأوروبية.
عن الحوار المتمدن