كاظم حيدر والتجريب

كاظم حيدر والتجريب

ضياء العزاوي
تحتلّ أعمال كاظم حيدر (32 – 1985) في تاريخ الفن العراقي المعاصر مكانة متميزة سواء كان ذلك عند بدايات ظهوره في معارض نادي المنصور خلال الخمسينات أو بعد عودته من انكلتره وبالتحديد بمعرض ملحمة الشهيد وما أنجزه من أعمال متفرقة وانتهاءً بمعرضه الشخصي الأخير عام 1984. ومع ذلك نجد، تجاهلاً له في بعض ما صدر من كتب تؤرخ الفن العراق أو العربي المعاصر. أو في الغمر من قيمة تجربته المتنوعة،

ولعل بعض السبب يعود لكاظم نفسه.. إذ توزع عند نهاية الستينات بأعمال إدارية واكاديمية كأستاذ في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وانشغل بالمسرح كمصمم ديكور بارز بالاضافة إلى ترؤسه لاتحاد الفنانين العرب لبضع سنوات خلفاً لأستاذه خالد الجادر. ولربما تجدر الإشارة إلى أنه لم يقم أي معرض شخصي بعد معرضه في بغداد عام 1966 إلا عام 1984 في المركز الثقافي العراقي، لندن وكان ذاك معرضه الأخير.
نشأ كاظم في محلة الفضل، ضمن بيئة شغبية محافظة وتراث اجتماعي متنوع. دخل دار المعلمين لدراسة الأدب وفي نفس الوقت درس الرسم في معهد الفنون الجميلة "القسم المسائي"، وتخرج من كليهما عام 1957، سافر بعدها في بعثة دراسية إلى انكلتره لدراسة الديكور المسرحي حيث عاد بعد إكماله الدراسة إلى بغداد عام 1962. خلال هذه الفترة لا نعرف عن تجربة كاظم حيدر الشيء الكثير، إلا عبر نشاطه الفني من خلال مشاركاته في معارض نادي المنصور وبروزه كفنان مثي للجدل في جرأته.
ثم مساهمته مع فنانين آخرين في إقامة معرض المرفوضات (2) كتحدٍ للجنة التحكيم التي تشرف على تنظيم المعرض السنوي لنادي المنصور.
اهتم كاظم منذ بداياته في الخمسينيات بموضوعات محددة، تنوعت تفاصيلها تقنية وتكويناً، كانت الحياة اليومية في المدينة، عبر طبقة العمال، إحدى هذه الاهتمامات.
ولعل لوحة "عمال البناء" من أبرز نماذج تلك الفترة، فيها تجد تكويناً محافظاً يتمثل في وضع مجموعة العمال في مقدمة اللوحة مؤكداً على تكوينهم العضلي مع تنوع في حركة السواعد وما تحمله من أدوات خاصة بهم لكي يكسر رتابة الشكل الفني. أما موضوعه الثاني فهو الإنسان ومحيطة، وهو موضوع بدأه عندما كان في لندن واستمر معه بعد عودته لسنوات طويلة. وكان تكوين المكعب وما يمثله رمزياً من أشكال الحصار والسجن، هو إحدى استعارات الفنان من تجربة الفنان البريطاني فرانسيس بيكون. إلا أن كاظم فضل أن يكون إنسانه أقل حركة من إنسان بيكون، وأقل تشويهاً في ملامحه، وأن تأخذ اللوحة قيمتها من الإنسان كذات ثابتة متحدية ما يحيط بها من عوالم متناقضة، جدلها بين ثبات الإنسان وطمأنينته وبين قساوة حدود المكعب وظلمته، من هذا التضاد يتولد تركيب غني يشع بطاقة الرفض والتحدي، في بداية معالجاته لهذا الموضوع ظل كاظم مقتصداً في اللون ميالاً إلى التضاد، لكن لوحته سرعان ما ستتطور لتصبح مخيلة ألوان باهرة ممزوجة ببقايا بيارق ورايات شعبية. في وسطها، كيان إنساني ثابت. تتداخل ألوانها مع حدود المكعب وتصبح ظلمة الظل المزركش بلطخات فرشاة حمراء قاسية، شهادة على دواخل إنسانية عاجّة بالانفجارات.
بدا كاظم وهو في لندن مجموعته المسماة "التشريح الحيواني للجسم الإنساني"، وفيها نجد الإنسان يأخذ هيئة الحيوان بتمثله المشي على أطرافه الأربعة، إلا أنه تراجع عن هذه المعالجات ليطّور موضوع الإنسان الوحيد وعلاقته بمحيطه، وستجد ان شكل المكعب الذي يحاصر شخوصه في الستينات كما في لوحة "ثلاثة مكعبات" يتحول إلى شكل هندسي أكثر رحابة في السبعينيات كما في لوحة "الخروج من المكعب" حيث نجد إنساناً وحيداً تحيط به أشكال تتداخل مع أطراف الشكل المكعب، فيها يجمع كاظم بين مفردات أعماله في ملحمة الشهيد وبين أعماله في بداية السبعينات، ناقلاً موضوعه الذاتي إلى مناخات ملحمية ذات علاقة بالميثولوجية الشعبية، ولئن ظل الفنان منشغلاً عبر هذا الموضوع جسراً لتواصله مع موضوعات أخرى مثل لوحة "أشكال في الصحراء" التي تعود لمنتصف السبعينيات، فيها نجد تجميع لشكل حيواني أسطوري يعلوه جزء من شكل المكعب وقد اختفت بقية أجزائه.
أما اهتمامه الآخر فكان الموضوع الشعبي ذو الأبعاد الملحمية والميثولوجية وبشكل خاص ملحمة مقتل الحسين، والتي بدأت معه منذ الخمسينيات ولوحة "مصرع إنسان أو الشمر" إحدى أجمل نتاجات الفن العراقي في الخمسينيات أبرز شاهد على ذلك، فيها عالج الفنان الموضوع بتأثير من رسوم المطبوعات الشعبية الخاصة بهذه الملحمة، مع تضادات في عناصر البناء الفني ذات البنية اللونية الموحدة. إلا اننا سنجده بعد عودته من دراسته في الخارج وقد جعل من هذا الموضوع هماً أساسياً وبأسلوب وتكوينات جديدة ومغايرة لنتاجه في الخمسينيات، ليس في تطور امكاناته وتمكنّه في العمل الفني فقط، وإنما رؤيته للحدث وطريقة تقديمه أيضاً.
يشكّل معرض "ملحمة الشهيد" الذي أقامه الفنان عام 1965 علامة بارزة في تاريخ الحركة التشكيلية في العراق، فالمعرض جاء في ظروف ثقافية وسياسية معقدة، جاعلاً من الاستشهاد رمزاً معاصراً ضاجّاً بالمأساة وبعيداً عن التأويل الديني. وبأعماله المتنوعة في الحجم وما ضمته بعض اللوحات الكبيرة من عناصر مضافة مأخوذة من الموروث الشعبي مثل الكف المقطوع الذي يعلو نهايات الرايات المستخدمة في المسيرة الشعبية للمقتل، جعل الرسم جزءاً وليس الكل. أي أن كاظم اهتم بالمناخ العام للمعرض وبتصاعد عناصر الموضوع عبر تنوع البناء والتركيب الفني وحجم اللوحة أيضاً محافظاً على مناخ احتفالي مسرحي واضح يتطابق فيه مع احتفالية المشهد الملحمي الذي كان يمثل فيكل عام في العديد من المدن العراقية. وبهذا أصبح مؤولاً لا شارحاً لهذه الملحمة، ومن هنا يأتي بعدها الرمزي الاجتماعي والثقافي لا الديني، خاصة وأن كاظم اعتمد على نص شعري حديث كتبه ليكون كل سطر فيه عنوان لاحدى اللوحات، وكأنه بهذا يروي نصه الخاص في مقتل الحسين يقع على الضد من النص الشعبي في تواتراته وإيقاعاته الشمولية التي تحمل في طياتها أسرار "ديمومة" هذا الحديث الملحمي.
جاء هذا المعرض في نفس السنة التي أقيم فيها أكثر من معرض شخصي من قبل فنانين أنهوا دراستهم الفنية في الخارج كان منهم إسماعيل فتاح وغازي السعودي، إلا أن معرض كاظم تميّز عنهم في كونه امتداداً معرفياً وثقافياً لتجربة العلاقة بالتراث الوطني والقومي. هذه العلاقة التي عمل عليها العديد من الفنانين ممن كانوا خارج جماعة بغداد للفن الحديث، وبالتالي تطويراً نوعياً لهذا الموروث جعل من هذا المعرض إحدى علامات الغنى الفني للحركة الفنية العراقية عند مقارنته بمعرض إسماعيل فتاح الذي اهتم بمعالجات فنية موضوعاً وتقنية تقف على الضد مما حاوله كاظم. إلا أنّ كلا المعرضين كانا علامتين أساسيتين تؤرخان اندفاع الفنانين الجدد بالدخول في فضاءات جديدة لم يعرفها جيل الرواد وفي تعميق الجدل والبحث في أهمية الصناعة المعاصرة للتقنية والأسلوب، إلى جانب الاهتمام بالبعد العربي والعالمي لا المحلي الذي شاعته بدايات جماعة بغداد للفن الحديث.
سعى كاظم لتحقيق وحدة موضوعة بأعمال ذات أسلوب ومنهجية صارمة متوخياً، وفي نفس الوقت، ألا تتعثر تكويناته في فخ السهولة والعبثية، إن حرص كاظم على امانة في ما بدأه من بحث منذ منتصف الخمسينيات على علاقة بالفولكلور الشعبي شكلاً وموضوعات وميله إلى استقلالية أبجديته التصويرية وحماية خصائصها المتنوعة. سواء كان ذلك من خلال اختيار وحداته البصرية أم في طريقة تشييد هذه الوحدات ضمن فراغ مثير للتأمل. جعله حريصاً على الاستفادة من تراكم خبرته ومعرفته بالمشهد المسرحي لكي يكون بُعداً لمعرفته في الرسم. إلا أن ذلك جعله أكثر طواعية للعقائد الهندسية التي تتحكم في المسرح منه لصالح قيم اللوحة وحريتها.
إن أهمية المعرض وما أثاره من اهتمامات نقدية عديدة اعتبره البعض من أهم معارض الموسم التشكيلي إن لم يكن أهمها على الاطلاق جعل أكثر النقاد وكتاب الحركة التشكيلية العراقية لا يشاهدون كاظم إلا عبر هذا المعرض، يذكر شاكر حسن في تحليل بعض عناصر بناء اللوحة في هذه الأعمال بأن الفنان لجأ إلى التماثل والتكرار، والاختزال والحذف في البناء والتشخيص. فضلاً عن مبدأ التجميع في تكوين (الشخصية المركبة الأسطورية) وذلك في سياق تمثله للفكر الحضاري والملحمي معاً حتى ليخيل إلينا أحياناً أنه أنجز معرضه هذا في ضوء ثقافته المتخصصة في (الديكور المسرحي)، لكن أبعاداً أخرى ثقافية وروحية بلا شك كانت أثيرة لديه منها اختيار هذا الموضوع الإنساني المعاصر، كما يشير نزار سليم إلى أن كاظم في جميع أعماله التجريدية أو المأساوية الشخصية ينحو في تركيبها منحى البناء المسرحي في الخطوط المعتمدة على أبعاد المنظور الوهمية وفي قطع المساحات الخلفية لمواضيعه إلى مقطعين يضع خلالها الكتل المتوازنة في حركة مسرحية صرفة.
أما شوكت الربيعي فقد اعتبر أن هذا المعرض تضمن دلالات الموضوعات الرمزية، حيث يحتضنها وجود أخلاقي – ميثولوجي جعلها حاضرة في الوعي التاريخي، فانسحبت هذه الملاحظة على منطلقات البحث التقني ذاتها: التبسيط في المساحات العريضة المنقوشة على اللوحة، الاختزال في الخطوط الخارجية للملامح، التكرار الذي يوحي بإيقاع الكتل.
سافر كاظم حيدر إلى بيروت في السنة نفسها مع ما تبقى من أعمال معرضه هذا.
وأضاف إليها أعمالاً رسمها هناك لمشاهد طبيعية من المدينة، إلا ان ذلك قد ولد أرباكاً معرفياً وفنياً للنقاد، كانت حصيلته مراجعات نقدية سلبية للمعرض، إن ميلّه للرسم الانطباعي والاكاديمي بين الحين والآخر سوف يتطور إلى موقف فني وذلك بتكوينه مع مجموعة من تلاميذه حينذاك جماعة الاكاديميين عام 1971. وكان قبل ذلك في عام 1967 قد التحق بجماعة الزاوية التي أقامت معرضها الأول والأخير في تلك السنة. كان تأسيسه لجماعة الأكاديميين امتداداً لميوله بين الحين والآخر للرسم الاكاديمي، لكنه كان انكفاء محزناً لأبحاثه في تجديد اللوحة العراقية. فمشاركته في هذا المعرض بأعمال تعود إلى عشرة سنوات خلت عندما كان طالباً في لندن، متجاهلاً التمييز النوعي لمعرضه "ملحمة الشهيد" ومساهماته المتفرقة، ومفترضاً بأن مشاركته هي من أجل إتاحة المجال لافراد المجموعة للعرض. هو في واقع الحال البداية لإهمال منتظم لدوره الفني وطاقته الإبداعية عبر لجوئه إلى أبحاث محافظة ونجاحات ذات تاريخ قصير.
لعلّ استقلالية كاظم وميله المستمر للتجريب دون الاهتمام بضرورة وحدة البحث الفني، جعلت متابعته وتمييز نجاحاته بين الحين والآخر، مهمة صعبة، خاصة في غياب توثيق علمي ومصادر فنية جديدة. لم يعد كاظم منتظماً في أي تجمع بعد جماعة الأكاديميين واكتفى بمساهمات فردية على الصعيد العربي والعراقي إلى جانب تنفيذه لأعمال كبيرة للمؤسسات العراقية الرسمية وخاصة تلك التي بدأت مع نهاية السبعينيات مثل جدارياته في مطار بغداد الدولي وجدارية القادسية.

عن كتاب (لون يجمع البصر)