قراءة في رواية: «الـعــطـر» لـ باتريك زوسكيند

قراءة في رواية: «الـعــطـر» لـ باتريك زوسكيند

عبدالستار ناصر *
أتساءل بعد كل رواية انتهي من قراءتها (من أين وكيف تأتي أفكارها ومن أي بحر تتموج أحداثها)؟ وأعني بذلك طبعاً الروايات الغرائبية المحشوة بالعجائب التي تشعر بكاتبها وكأنه جاء من جرم بعيد عن الأرض كما هو الحال مع (باتريك زوسكيند) الذي أدهشني بروايته (العطر) مع أنها أول عمل إبداعي له!

هذا المبدع الألماني من مواليد 1949 لكنه كتب روايته البكر وهو في السادسة والثلاثين وأعطاها في البدء عنواناً ثانوياً هو (قصة قاتل) لكنها ترجمت إلي أكثر من عشرين لغة تحت اسم (العطر) وتسربت روائحها شرقاً وغرباً حتي حصل مؤلفها علي جائزة (غوتنبرغ) والتي تعطي للثقافة الفرانكوفونية في باريس، مما دفع بمبدعها باتريك زوسكيند إلي التفرغ نهائياً للكتابة في ساح الرواية والمسرح، علماً بأنه هو نفسه مؤلف مسرحية (عازف الكونتراباس) التي أصابت النجاح في مسارح أوروبا بعد عرضها أولاً علي مسرح (أمباخ) قرب جبال الألب مسقط رأس المؤلف.

ولعل من غرائب القول هو الاعتراف مسبقاً بأن هذا الكاتب جاء بشيء لم يطرح أبدا طوال ما فات من حياة الرواية لا سيما المضمون الغرائبي الذي لم يسبقه أحد إليه، فهي تحكي عن روائح البشر وعن تركيب العطور وصناعتها، ويمكن اعتبارها قاموساً أو أطلساً لنشوء العطور منذ القرن الثامن عشر ــ حيث تدور أحداثها ــ وحتي نهاية بطل الرواية وموته عام 1797.
ذلك يعني بالضرورة ان المؤلف عاد إلى الوراء مئتي سنة وأكثر حتى يقص علينا ما جرى في باريس وأطرافها وصولاً إلى مارسيليا أيام كانت الشوارع تنضح برائحة الغائط وباحات المنازل الخلفية ترمي برائحة البول إلى مسافات بعيدة، بينما أدراج البنايات تحتك برائحة الخشب المتفسخ وروث الجرذان ــ بحسب تعبيره ــ أما مطابخ البيوت، وهذا ما كانت عليه عام 1756 فلا تشم منها غير رائحة الملفوف المتعفن وشحم الخراف، بينما تفوح رائحة الكبريت والمدابغ والمسالخ من كل جزء ومن كل ثغرة وخلف كل بيت من بيوت باريس العتيقة حتى توشك المدينة أن تكون محض مكان يغرق في مرحاض شاسع رهيب!
الرواية تحكي قصة (جان باتيست غرنوي) الذي ولدته أمه على رصيف السمك ورمته هناك مغطّى بالحراشف دون أن تلتفت إليه، وبما أنها كررت الجريمة في أربع مرات سابقات، فقد أمرت سلطات المدينة بإعدامها تحت المقصلة ونفذ الأمر فعلاً. وينتقل (غرنوي) من مرضعة إلى أخرى، ترفضه المرضعات جميعهن بسبب امتصاصه كميات كبيرة من حليب صدورهن، حتى ينتهي به الحال إلى (مدام غايار) التي لا تفهم أبداً ما تعنيه الرحمة أو بقية التسميات التي يتعامل بها البشر أخلاقياً.
ومنذ طفولته أحس بالأشياء عن طريق الشم، كان له أنف استثنائي لا يشبه أنوف الناس، يمكنه أن يمشي في الظلمات وفي أكثر الزوايا عتمة وهو يستدل على كل شيء عن طريق أنفه، كما أنه يعرف الروائح من مسافة تزيد على ميل واحد، مما ساعده على العمل في العطارة مع المستر (بالديني) أشهر عطار في باريس والذي أصبح غنياً جداً بسبب هذا الصبي الذي صنع له أجمل العطور وأكثرها سحراً، بينما هو نفسه (غرنوي) لا رائحة له ومساماته جرداء لا شيء ينبعث منها أو يشير إلى وجود إنسان (برائحة) مثل بقية البشر!
بطل الرواية أعرج وجسمه مملوء بالقروح والدمامل، لا أحد يلتفت إليه ولا يعني أي شيء، لكنه يتمكن من قتل (25) فتاة عذراء في سن الخامسة عشرة دون أن يغتصبهن أو يتمتع بأجسادهن، بل يقطع حفنة من شعورهن وأجزاء من ثيابهن حتى يصنع (العطر) الذي يجعل الناس من حوله أشبه بالعبيد، بل توشك ان تغدو، أنت الذي تتعطر به، أقرب شبهاً بالآلهة، حتى إذا ما قبضوا على (غرنوي) وأحالوه إلى القضاء، سرعان ما اعترف بجرائمه جميعها من دون خوف وبلا أي إحساس بالرهبة، وعند صعوده إلى خشبة الإعدام نثر على ثيابه وفوق مساماته شيئاً من ذاك العطر العجيب الذي صنعه من أجساد العذراوات المقتولات ومن عبق روائحهن وشعورهن، إذا بالجماهير الغفيرة التي احتشدت حول القاتل تريد ان تنهشه بمخالبها وأسنانها جزاء جرائمه الشنيعة، تقترب منه الآن وقد أصابتها النشوة والرغبات بحيث سقط الرجال والنساء في حمّى من الشهوات العنيدة التي لا رادع لها مطلقاً، كلهم يتعرون في ساحة الإعدام وكلهم في حالة من الشفقة على هذا القاتل الدميم الذي صار بالنسبة لهم من أجمل الكائنات بحيث يخرج من بينهم إلى الحرية ثم الهروب إلى باريس نحو المكان الذي ولدته أمه ورمته بين حراشف السمك وكومة القاذورات حيث الروائح الزنخة تملأ المكان شبراً شبراً، فما كان من (غرنوي) غير ان رمى على نفسه قارورة العطر كلها، إذا بالناس تأتي إليه توشك أن تلتصق بلحمه وعظامه فرحاً بهذا المعبود الذي جاء من المجهول، وتزداد الحلقة ضيقاً عليه - بتأثير العطر ــ حتى الموت، بل راح الناس يلتهمون لحمه ويلعقون دمه بحيث لم يبق من (غرنوي) أي شيء سوى (العطر) الذي ما زال يفوح من المكان الذي تلاشى فيه صانع العطور الغريب.
أعود ثانية للسؤال عن العقل الجبار الذي يصنع أفكاراً من هذا النوع، بعد أن شبعنا من تلك النوعية التي تقص علينا ما هو مألوف من السرد والفوارق الطبقية وابنة الأغنياء التي أحبت فقيراً تزوجته دون رضا أهلها، ها نحن اليوم في شعاب الواقعية السحرية التي جلسنا معها في حضرة جورجي أمادو وإيزابيل الليندي وغابريل غارسيا ماركيز وبورخس ودينو بوتزاتي وغيرهم من عمالقة الرواية والقصة القصيرة.
باتريك زوسكيند لم يترك عطراً ألا وحكى لنا عن مشتقاته وأصله، ولا رائحة إلا وجاء على ذكرها، مولع (هو) بوصف الأشياء حد الجنون، فهو لم يترك رائحة الشراشف الرطبة المحشوة بالريش ولا رائحة الغبار تحت المطر، ولا رائحة الأسنان المقلوعة والبصل الذابل،والسمك المجفف، وكذلك رائحة الفلاح في الصباح ورائحة الراهب في المساء، كما يحكي عن أغصان القرفة والبتولا والكافور والصنوبر والنارنج والمسك والسرو والبخور والياسمين والنرجس والزنبق والبلوط، حتى ترى في كتابه ما يشبه القاموس لمئات الروائح والعطور، أنظر إلى قوله (كان ذئباً في فروة خروف وان رائحته لا تناسب غير حقير موهوب). صفحة 63.
وإذا كان (العطر) أول إبداعات هذا الكاتب فماذا تراه سيكتب في السنوات التالية وقد تفرغ كلياً للقراءة والتأليف؟! هل اشتغل زوسكيند في مهنة العطارة أم أنه جاء بكل ذلك من إحساسه المرهف بما ينبعث حوله من روائح الأرض والبشر؟ انه كما نرى يفهم جيداً في طبخ الصابون من دهن الخنزير وخياطة القفازات من جلود التماسيح، كما انه يعلم كيف يبرم الشموع من فحم الخشب ونترات البوتاسيوم ونشارة الصندل وكيف يأتي بكرات الدخان من البخور والقرفة وجوز الهند، بل تراه يمضي بك إلي نكهة النعناع وزهر الخزامي وبذور اللوز المر وحبات المسك والعنبر وجذور البنفسج لتصنع أصفي أنواع الكحول (كيف؟ لا تدري) لكنه على طول الرواية (240 صفحة) لا ينقطع عن تركيب العطور وتصفية الخلائط والمساحيق والسوائل حتى يأتيك بما تشاء من حب اليانسون وبراعم الناردين والكمون وجوزة الطيب والقرنفل وما عليك غير الانتباه إلى نسبة ما تأخذ من هذا وذاك، إذا بك أمام عطر يفوح في البراري والسفوح والجبال والواحات القصية، تكفي قطرة واحدة ان تبعث السرور والفرح وقطرة غيرها من عطر آخر سوف تبعث الحزن وذرف الدموع!
كتاب عجيب حقاً هو (العطر) الذي أبدعه باتريك زوسكيند، وحين تشمّه جيداً ستأتي على ذاكرتك حرب الوراثة في أسبانيا، وابنه أحد اتباع طائفة (الهوغنوت) التي سحرها أريج الخزامي فأسلمت نفسها إليه، سترى نفسك في ضوء القمر مع النبيذ وصياح الجنادب مثل أي أمير في قصر فاخر (صفحة 97) وحين ينتهي الكتاب بعد مزارع شاسعة من حبوب الجرجير والبيلسان وشجر التنوب والزعتر والكمون، ستكتشف فجأة أن كل ما رأيت لم يكن غير كتاب كنت تقرأ فيه برغم أن الروائح ستبقي حتى بعد آخر صفحة كنت تجلس فيها بين غابات المؤلف وأحراش بطل القصة (جان باتيست غرنوي) الذي مات (مأكولاً) في آخر سطر من الرواية، مع أن العطر كما أخبرتكم بذلك ما يزال يملأ سوق السمك في باريس وهو يحكي لنا قصة قاتل ما كان يفهم من جرائمه المتكررة غير انه، ومن أجساد النساء المذبوحات، كان يصنع عطراً...
* روائي راحل
- هذا المقال ضمن كتابه (سوق السراي)