قلعة صالح.. شيء من تاريخها ونشأتها

قلعة صالح.. شيء من تاريخها ونشأتها

عصمة محمد جاسم العبادي
يرجع تاريخ نشأة مدينة قلعة صالح كمستوطنة حضرية (مركز ناحية) إلى ستينيات القرن التاسع عشر حيث قامت عشائر البو محمد القاطنة في المنطقة بانتفاضة ضد السلطات العثمانية، فرفضت دفع الضرائب والرسوم الأميرية على الأرض الزراعية للحكومة , وأخلّت بالأمن , وقامت بقطع الطرق وأعمال السلب والنهب. فاضطرت الحكومة العثمانية حينها إلى إرسال حملة عسكرية بقيادة الضابط العربي النجدي الأصل " صالح سليمان النجدي" للقضاء على تلك الانتفاضة ,

فتمكن من ذلك عام 1866م وبنى قلعة من الطين " مفتول " حملت اسمه لتحصين جنوده بها وتمكينهم من فرض سيطرة الحكومة وسلطتها على المنطقة وسكانها نظراً لأهمية موقع القلعة، وعمل على حفظ الأمن والنظام وجباية الضرائب للحكومة التي كافأته بتعيينه حاكماً على المنطقة، كما أصدرت فرماناً سلطانياً في عام 1866 باستحداث ناحية مركزها (قلعة صالح) سميت باسم هذه القلعة " ناحية قلعة صالح" وًيتبع إدارياً إلى لواء العمارة " محافظة ميسان ".

كان قضاء قلعة صالح التابع إلى محافظة ميسان، منذ عام 1881 م ولمنتصف سبعينيات القرن العشرين يتكون من القضاء الحالي إضافة إلى القضائيين الحاليين (الكحلاء) و(المجر الكبير) اللذان كانا ناحيتين تابعتين إدارياً إلى قضاء قلعة صالح ثم أنفصلتا عنه لتصبح كل ناحية منهما قضاء يتبع إدارياً محافظة ميسان وذلك منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.

وقد عمل " صالح النجدي" في بداية نشأة المدينة على استقطاب أعداد متزايدة من سكان المنطقة والمناطق المجاورة وتشجيعهم على الإقامة والاستقرار الدائم حول قلعته وبامتداد جدول الكرمة المندرس حالياً، فأسكن أعداداً من الفلاحين وآخرين من التبعية الإيرانية يطلق عليهم محلياً " العجم " على ضفة الجدول اليمنى بينما أسكن على الضفة اليسرى أعداداً من الصابئة. وبذلك أسس قصبة سكانية صغيرة شكلت مركز القضاء، اتسعت مساحتها وازداد عدد سكانها وبيوتها تدريجياً بمرور الزمن وعينت بها الحكومة.
وكانت مدينة قلعة صالح في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين مدينة صغيرة ممتدة على ضفتي جدول الكرمة إلاّ إن أهمال هذا الجدول وعدم كريه أدى إلى جفافه وإندراسه منذ عام 1936 تقريباً وتم طمره ليحل مجراه الشارع التجاري الرئيس للمدينة والذي حمل أسمه " شارع الكرمة " وأنتشرت على جانبيه المحلات والدكاكين التجارية ومختلف الحرف كالندافة والنجارة والحدادة وغيرها، وكانت المدينة حينها تتكون من أربع محلات سكنية هي محلة " الحسينية، والغربية، والسليمانية (الشبيشة)، والصابئة " وبلغ عدد نفوسها (4022) نسمة في التعداد العام للسكان لسنة 1947 ويقيمون في (350) بيتاً، مبنية على الطراز الشرقي وغالبيتها تتكون من طابق واحد ومتلاصقة بعضها مع بعض، وتتراوح مساحات بيوتها بين (75ـ 150) م2 إلا القليل من بيوت محلة الصابئة إذ تصل المساحة في عدد قليل من بيوتها إلى (300) م2، وباستثناء شارعي الكرمة والنهر فإن طرقها عبارة عن أزقة ضيقة غير مستقيمة وغير مبلطة وتفتقر إلى شبكة أنابيب الصرف الصحي (المجاري) التي استعيض عنها بسواقي وسط الأزقة تنساب فيها المياه الآسنة المتخلفة عن الاستعمال المنزلي. وظلت المدينة تنمو حضرياً بمحلاتها السكنية الأربعة بما فيها من بيوت وأزقة نمواً عشوائياً دون أي تصميم وتخطيط عمراني حديث للمدن حتى تضاعف عدد بيوتها سنة 2008 وقت إجراء الدراسة إلى ما يزيد بقليل من عشر أمثال ما كانت عليه في عام 1947 حيث بلغ عددها (3710) بيتاً.
ودخلت المدينة مرحلة جديدة في نموها الحضري وفقاً للتخطيط العمراني الحديث للمدن خارج محلاتها القديمة الأربعة منذ عام 1958 إذ إنشأ أول حي حديث مخطط فيها على الضفة اليمنى لنهر دجلة إلى الغرب من المحلات القديمة، عرف باسم " حي العروبة " وقد وزعت أراضيه السكنية على موظفي الحكومة، إلاّ إن التوسع الكبير للمدينة حدث بدءاً من عام 1981 حيث أنشئت خلال أربع سنوات، خمسة أحياء حديثة مخططة تجاوز عدد قطع أراضيها السكنية ثلاثة أضعاف عدد بيوت المحلات القديمة حيث بلغ عدد قطع أراضيها السكنية (4300) بل أن عدد قطع الأراضي السكنية الموزعة في حي الكرامة والبالغة (1000) قطعة تقارب جميع عدد بيوت المحلات القديمة الأربع والبالغ عددها (1150) بيتاً، وقد بنيت معظم قطع الأراضي السكنية في الأحياء الحديثة بيوتاً سكنها أهل المدينة ومن هاجر إليها. وهذه الأحياء الخمسة هي، حي: " الأمير، والغدير، والكرامة، والشهداء، والزهراء ".
أن قضاء قلعة صالح، بمركزه الحضري (المدينة) وريفه، قد تعرض لهجرات داخلية وخارجية منذ أربعينيات القرن العشرين وحدثت هذه الهجرات بشكل ملحوظ من خمسينيات ذلك القرن، سواء كانت هجرات قسرية (تهجير) أو اختيارية وطوعية، وقد ترتب عليها آثار كبيرة في البناء الاجتماعي والثقافي لمجتمع الدراسة، وتختلف أسباب هذه الهجرات من مدة لأخرى. ويمكن بيان تلك الهجرات وأسبابها وآثارها على النحو الآتي: ـ
أن أسباب الهجرة الخارجية قبل عام 1958 من قضاء قلعة صالح كثيرة ومتداخلة وأدت إلى انخفاض حجم مدينة قلعة صالح وريفها. فقد قامت الحكومة آنذاك بتهجير قسري لليهود إلى خارج العراق بعد نكبة فلسطين عام 1948. ولم يبق أحد منهم في قضاء قلعة صالح سواء في حضره (المدينة) أو ريفه، كما هاجرت طواعيه الكثير من الأسر الأصلية المسلمة والصابئة من سكان المدينة إلى مدن العراق الرئيسة كبغداد والبصرة، فضلا عن مدينة العمارة أملاً بحياة وفرص عمل أفضل منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وتتمثل أسباب الهجرة من أرياف محافظة ميسان، جزء من قضاء قلعة صالح بسياسة الشيوخ الإقطاعيين القائمة على الاستغلال المفرط لفلاحيهم وسوء معاملتهم وتكليفهم بأعمال السخرة، وإهانة كل فلاح وانتهاك كرامته لأي سبب يراه الشيخ مبرراً لعدم رضاه على الفلاح، مما جعل حياة الفلاحين تتسم بالفقر والعوز وسوء التغذية والحرمان. في ظل إنتشار الأمراض خاصة المستوطنة كالبلهارزيا والملاريا والتيفوئيد وغيرها , ومما زاد سوء الأحوال المعيشية للفلاحين تقلص مساحة الأرض الزراعية وانخفاض انتاجيتها لإهمال الحكومة مشاريع الارواء وعدم إنشاء المبازل فاندثرت بعض الجداول الإروائية وارتفعت نسبة الأملاح في التربة، كما ساهمت الكوارث الطبيعية كالفيضانات , والآفات الزراعية , في زيادة تردي أوضاع الريف، الذي كان يفتقر للخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والكهرباء. كل ذلك شكل عوامل طرد أجبرت الجموع الهائلة من فلاحي عشيرتي البو محمد والسواعد(التي)تعد عشيرتا البو محمد والسواعد من أكبر عشائر قضائي قلعة صالح والكحلاء قاطبة، وبشكل أفرادهما النسبة الأكبر من سكان قرى هذين القضائين المتجاورين في محافظة ميسان.
وغيرهما على هجر أراضيهم وديارهم والانخراط في الجيش والشرطة، والنزوح إلى المدن الرئيسة لاسيما بغداد والبصرة وكركوك التي شكلت عوامل جذب لهم نتيجة الصرف على أعمال الإعمار بعد تقاسم عائدات النفط مع الشركات الأجنبية وتخصيص (70%) من هذه العائدات للاستثمار الإنتاجي منذ عام 1952 فوفر ذلك فرص عمل كثيرة في هذه المدن، إضافة إلى ما تتمتع به من وسائل الراحة والترفيه واستقرار أوضاعها بعيداً عن الثارات والنزاعات العشائرية، وقد قدر عدد المهاجرين من (لواء العمارة) وجزء منه قضاء قلعة صالح، لهذه المدة بـ (000 100) نسمة لغاية عام 1947، وحوالي (000 160) نسمة حتى عام 1957.
واتسمت علاقة العشائر بالدولة العثمانية، لاسيما في وسط وجنوب العراق بالسلبية بسبب الضرائب الحكومية الباهضة المفروضة عليها، ولمحاولات الحكومة المتواصلة في إضعاف النظام العشائري والقضاء عليه بشتى الطرق منها الحملات العسكرية التأدبية لإخماد ثورات العشائر وإلزامها بدفع الضرائب والتشريعية التي كان من أهمها تشريع عام 1858م الخاص بتنظيم استغلال الأراضي الأميرية الصرفة في الدولة العثمانية. ولكن هذا التشريع لم يطبق بفعالية في العراق إلا بدءاً من ولاية مدحت باشا على بغداد (1869 ـ 1872م) فعمل هذا الوالي على حل مشكلة الأراضي ووضع سياسة ثابتة لها ببيع أراض بمساحات مختلفة بمبالغ صغيرة وأقساط سهله إلى حاملي (الفرمانات) وشيوخ العشائر والقرويين على أن تبقى رقبة الأرض للدولة. وكان مدحت باشا يهدف من هذه السياسة إلى تشجيع العشائر على التوطين والزراعة والتوسع فيها، وتصفية نظام الديرة المشاعة، وإضعاف النظام العشائري، ونشر الأمن وقد عمل لتحقيق ذلك بمحاولات لإدخال سكك الحديد وتحسين مشاريع الري والملاحة النهرية وتقوية النظام الإداري.
وقد رافق إجراءات مدحت باشا ظهور حوافز اقتصادية على نطاق العراق نتجت من توسع نطاق التجارة الخارجية والداخلية، وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وتأسيس الشركات والوكالات الأجنبية، والإنفتاح على الأسواق الخارجية بعد فتح قناة السويس عام 1869م، واتساع الملاحة النهرية وتحسينها بقيام شركة الملاحة الإنكليزية (شركة لينج) بالعمل في النقل النهري في نهر دجلة فربطت بذلك بغداد والكوت والعمارة بميناء البصرة، يمر هذا الخط الملاحي بمجتمع الدراسة (مدينة قلعة صالح)، وكانت السفن ترسو عند ميناءه الصغير (المسناية) لتنقل المنتجات الزراعية والحيوانية للقضاء لغرض تصديرها، إضافة إلى استيراد ما يحتاجه سكان المدينة من سلع وخدمات.
مما ساعد ذلك على تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية عبر ميناء البصرة إلى دول العالم. وقد ساعد ذلك على تنشيط السوق وزيادة مساحة الأراضي الزراعية وزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني وارتفاع عائده، وتحول اقتصاد الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد السوق. وقد استغل المتنفذون من شيوخ العشائر والتجار بتسجيل الأراضي بأسمائهم في دوائر الطابو. كل هذه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي حدثت في العراق واستمرت باضطراد حتى سقوط الدولة العثمانية نتجت عن سياسة مدحت باشا وما رافقها من ظهور الحوافز الاقتصادية، على الرغم من فشل تلك السياسة، وقد استمر الولاة بعد مدحت باشا بتفويض الأراضي إلى المتنفذين من شيوخ العشائر وسكان المدن وكبار الموظفين ورجال الجيش. إلا أن أكبر مساحة من الأراضي الزراعية وأخصبها تمكن السلطان عبد الحميد الثاني بدءاً من عام 1883م من شرائها بمبالغ زهيدة ورمزية بلغت نسبتها ثلث مساحة أراضي العراق المزروعة آنذاك وعرفت بالأراضي السنيه. وقد أعيدت ملكيتها للدولة كأراضي أميرية عام 1909 م بعد سقوط حكم ذلك السلطان، وعرفت باسم (الأراضي المدورة) فنشأ من جراء ذلك النظام الاقطاعي في العراق من أصحاب الأراضي الواسعة، وتوطنت معظم العشائر وزاولت الزراعة، وأخذ النظام العشائري بالانحلال، وتحسن الوضع الأمني السياسي في البلاد منذ مطلع القرن العشرين، ولحين سقوط الدولة العثمانية.
وقد سارت السلطات البريطانية منذ احتلالها للعمارة (ميسان) عام 1915، سارت على نهج سابقيهم الأتراك في منح الأراضي عن طريق الالتزام، إلا أنها بعد عام 1920 اختلفت سياستها , وذلك بإعادة توزيع جديد للأرض في الملكيات الواسعة بتقسيم مساحة المقاطعات الكبيرة ومنحها بالالتزام لأكثر من شيخ واحد حتى وإن كانوا من عشيرة واحدة لخلق توازن أفضل بين مشايخها لصالح الإنكليز، كما حدث بإعطاء نسبة من أراضي الشيخ محمد العريبي إلى الشيخ فالح الصيهود وكلاهما من كبار شيوخ عشيرة البومحمد الموالين لسلطات الاحتلال البريطاني.
كانت أراضي قضاء قلعة صالح منذ منتصف القرن الثامن عشر تقريباً ديرة لعشيرة البومحمد وأفخاذها العديدة (محمد باقر الجلالي: موجز تايخ عشائر العمارة، مطبعة النجاح، بغداد، 1947، ص58). وقد سيطرت هذه العشيرة على الأراضي والأهوار الممتدة على ضفتي نهر دجلة بين مدينتي العمارة والعزير التابعة إلى قضاء قلعة صالح إضافة إلى أراضي الكحلاء والمجر الكبير لاسيما منذ زمن الشيخ فيصل الخليفة الذي كان يلتزم هذه الأراضي العائدة له ولبقية شيوخ البومحمد من الحكومة العثمانية، ثم أخذ يلتزم أراضي قلعة صالح من بعده شيوخ بيت صيهود وبيت زبون وعصمان اليسر وهما من شيوخ عشيرة البو محمد واستمر ذلك منذ احتلال القوات البريطانية لمدينة العمارة وإعلان شيوخ البومحمد ولائهم وإخلاصهم لسلطات الاحتلال واستمر ذلك طيلة العهد الملكي ولحين قيام ثورة 14 تموز عام 1958 وصدور قانون الإصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958.

وبذلك تضاعف عدد الملتزمين للأراضي من (19) ملتزماً عام 1906 في العهد العثماني، إلى (43) ملتزماً عام 1921 ثم إلى (81) ملتزماً عام 1929، وأغلب هؤلاء الملتزمين من شيوخ العشائر. وحين كان العثمانيون يسعون إلى إضعاف كبار شيوخ العشائر والنظام العشائري فإن الإنكليز سعوا إلى عكس ذلك بدعم هؤلاء الشيوخ وإسنادهم وتقوية النظام العشائري.
أولت السياسة البريطانية في لواء العمارة، وجزء منه قضاء قلعة صالح، أهمية خاصة بتفضيلها شيوخ العشائر على غيرهم من فئات المجتمع لتدعم الوجود البريطاني وفرض النظام والقانون وجباية ضريبة الأرض للحكومة في الريف العراقي. وانحصرت مشكلة الأراضي في تنافس ونزاع شيوخ العشائر فيما بينهم حول التصرف أو التزام الأراضي الأميرية، التي هي أصلاً (ديار) عشائرية، وحول حدودها ومصادر مياه ريها.
وقد سارت الحكومة الوطنية منذ تأسيسها عام 1921، ومنذ انتهاء الانتداب البريطاني عام 1932 على ما سارت عليه سلطات الاحتلال والانتداب البريطاني في ملكية الأرض الزراعية بحرمان الفلاحين منها، وتفضيل منحها لشيوخ العشائر على غيرهم ولكبار الموظفين والمتنفذين من سكان المدن حتى بلغ عدد الملتزمين الأوليين في محافظة ميسان (177) ملتزماً عام 1951.
عن رسالة (قلعة صالح دراسة انثربولوجية اجتماعية..)