بنية الكتابة في رواية  سفاستيكا

بنية الكتابة في رواية سفاستيكا

علي لفته سعيد
تبدو لنا رواية (سفاستيكا) لعلي غدير الصادرة عن دار سطور في بغداد عام 2016 والفائزة بجائزة بغداد للرواية العراقية التي أقامتها الدار نفسها، واحدةً من الروايات التي لم تكتفِ بذكر فاصلةٍ حياتية ضمن فواصل النظام السابق بل اقتربت منه كثيرا وصار وجوده جزءاً من الثيمة وإنه واحدٌ من أبطال الرواية وشخوصها، بل هو المحرك الذي يقود فكرة الحكاية في الرواية، وكونه المحرك الذي قاد خفايا الحياة وما ضمرته المشاهد، وهو المغير الذي تتغير منه وعنده وإليه الحياة بحزنها وتفاؤلها..

ولذا فان بالإمكان إطلاق تسمية واقعية الروي في سياق الحكاية الواقعية التي تمتعت بها الرواية والتي انغمست فيها تفاصيل سردية جميلة متخيلة من عنديات الروائي لجعلها خارج سياق التراتب الطبيعي لهذه الواقعية الحكائية في رويها الى المتلقي.. بمعنى إن ثيمة الرواية كانت واقعية الى درجة شعور المتلقي وخاصة العراقي بتفاصيل يعرفها فيذهب ليرويها معه ويبحث عن تكملتها أو الاشارة الى نواقصها وتحديد المغالاة فيها ورسم مشاهد اخرى مقاربة لما هو طافحٌ من الروي.. ولكن الروائي ترك راويه يخلق مساحاتٍ سردية متخيلة لتخرج من عباءة الحكي حتى لا يكون هناك مللٌ أو تراكيب معلنة ومفضوحة سابقة تعرفها أجيال عراقية في أغلب التفاصيل.
ان أول ما يثير المتلقي هو العنوان الذي قد يكون غير ملائم لهكذا نوعٍ من الروايات التي تستل جزءاً من حياةٍ كاملة لحكمٍ وسلطةٍ وعائلةٍ السلطة في العراق لمساحة زمنية تمتد الى أكثر من 35 عاما رغم محاولات الروائي تبييض سواد التفكير عن ماهية العنوان الذي يبدو وكأنه ينتمي الى قارة أخرى أو أنه أقرب الى المصطلح العلمي أو الأكاديمي ولهذا فإن الشرح الذي وضع في موقعين من المقدمة { في سويداء النص (صدق أو لا تصدق)} قد أعانت المتلقي لكنها لا تفي بالغرض حتى يتم إكمال النصّ، فتجد إن الارتباط بين الثيمة والحكاية وشرح الروائي ربما يكون أقرب الى ماهية التعكز على هكذا عنوان وهو إن كل شيء يحتاج الى حظّ في حياة، مثل الحياة التي يحياها بطل الرواية وهو يربط لنا الحظ ليس من خلال مفتتح الرواية (من جدّ وجد) جملةً خرقاء لقنّنيها معلمي منذ نعومة أظافري. وإذا ما أخذنا العنوان بمقدمة سويداء النص يتضح لنا إن ثمة مقولةٌ غائبة يراد البحث عنها.. مقولة ليست لها علاقة كما يتضّح فيما بعد بالجزء المقتطع من الحياة، بل بالحظّ الذي رافق الشخصية لكي يكون وهو أمرٌ جيدٌ اتبعه الروائي لأن يجعل راويه يروي لقرّائه وصول الشخصية الباحثة عن الحظ الى سدة الحكم عبر مراحل عديدة تبدأ بمرحلة النائب وتنتهي به مع اختلاف النائب ذاته في المراحل الثلاثة وكأنها أطوار الولادات لهذه الشخصية التي تكشف عبر حركاتها ما يقع في الواقع المعاش والذي غلّف بالمخيلة كوجود قارئة الفنجان والرجل العجوز والقطار ونصف الدينار وبيت الدعارة وكلها عناوين تحاول الخروج من ثوب الحكاية الى قميص السرد.. لكن العنوان رغم كل ما تيسّر له من توضيح في المقدمة وما أعلن عنه في آخر الرواية يبدو وكأنه وضع في حالتين: الأولى أما أن تكون عجزاً من إيجاد عنوانٍ ملائمٍ من قبل الراوي وهو أمر ليس سهلا وليس عيباً، فالكثير من الأدباء يعانون من صعوبة إيجاد عنوان لمنتجهم الإبداعي.. والثاني هو أن يتركه عائماً لكي يبحث عنه القارئ.. رغم أن قراءته تبدو صعبة في جمع الحروف ونطقها ولهذا فإن العلاقة بين العنوان إذا ما أخذ التأويل الثاني لولادته في ذهنية الروائي والمقدمة تتضح لنا إن الثيمة ساخرة معترضة سوداوية تتحوّل من المتكلم الى الغائب أو الراوي المختفي وراء الشخصيات ومختفٍ وراء القصد والتأويل والباحث عن خطّ للإيمان بما اكتشفه من ان الحظّ ليس للجدية والديمومة والصدق، فهو إذن يواجه ألم الحياة بالسخرية أمام كلّ مقولات الحياة المعتقة.
ان بنية الكتابة الروائية التي تم تقسيمها عبر فقرات مرقّمة متصاعدة تبين لنا تصاعدية الحدث وسيرها على خطّ شروعٍ واحدٍ بالمستوى الإخباري الذي يمنح دفق المعلومة في تأويلاتها الأولى وبالتالي الوصول الى نتائج ما يريده الروائي من طرح فكرته داخل العمل، على وفق تصاعد الصراع بطريقة الخطوة خطوة وإن كان هناك تآكل للزمن وقضمه..المستوى الإخباري هو الذي يحتوي كلّ مستويات الروي الأخرى والتي في أغلبها وأهمها ما يصاحب هذا المستوى هو المستوى التصويري الذي يختفي في هذه الرواية ويبرز بحسب جهد الروائي في جعل راويه قادرا على مسك لغة التصوير للمشاهد..المستوى الإخباري يقود الشخصية التي تعكزت عليها الرواية في مفتتحها في أن الحظّ يلعب لعبته سواء بدون العرّافة أو بدون نصف ممزّق من دينار أم هما أحد الأسباب مع إضافة الرجل العجوز لأن الحظّ صولجان يمسك بروح المراد أن يكون بقدرة قادرٍ محظوظاً، ولذا فهو يقود الشخصية من خلال قوّة حضور الراوي المنيب عن الروائي ليكشف كل تفاصيل العراق..لذا نجد إن بنية الكتابة كانت رغم تراتبيتها التصاعدية إلا إنها شهدت في بعض مفارقها كسرا لهذا النمط التصاعدي التي كانت مراقبة ومدققة للشخصيات المحورية وحدث ذلك بعد 12 فقرة أو قسم ليتحول الراوي الى الإخبار عن تصوير فيلم شارع الرشيد والذي يعرف العراقيون قصته والفيلم هنا جاء كحالةٍ تتوقّف عندها معرفة الزمن السياسي ثم الانتقال لمعرفة زمن انتقال النائب الى منصب آخر وهي محاولة للابتعاد عن المباشرة.
أن اللغة في الرواية تنقسم الى قسمين أو مرحلتين أو تتعاضد مع الحكاية كثيمة واقعية.. ففي المرحلة الأولى هي اللغة الوصفية الداخلية للبطل حواس حيث هو ابن الريف وابن الرجل العسكري الذي قتل 10 من الأكراد والذي جعله خائفا من مصير الثأر الذي يلاحقه وكذلك الحالات النفسية المرتبطة بالكبت والعوز والارتباط الديني الهش والشعور بالدونية أمام ارتفاع مقام ابن الشيخ مثلا أو عدم الفهم أمام ما يحيطه من عالمٍ مترع بكل شيء إلّا الحظ الذي يعانده ويبحث عن رحلةٍ لاكتمالها رغم انه غير معني بالحظ في البداية الأولى حيث كان سفره الى بغداد هو تحقيق حلم ((أربعون دينارا ستحقق له حلمه في (بغداد)، وماذا بعد الحلم؟ أنه لا يريد أن يدرك ذلك! هو يحلم، ويصب كل حواسه في سبيل تحقيق حلمه ولا يهمه بعدها أين سيجد نفسه)) ص11وكذلك العلاقة مع الرجل العجوز الذي يمنحه نصف الدينار الممزّق والعرافة التي تطالبه باقتسام ما يحصل عليه حين تقرأ له طالعه لأنه سيقابل شخصية مهمة ترتفع بمقامه ولأنه غير مصدّق يوافق لكنه لا يفي بالوعد ولا أحد يعرف ماذا حلّ بمصير الوعد وهي هنا واحدة من انتكاسات الترابط الحكائي الخارج عن روح السرد. أما الرحلة الثانية فهي مرحلة الانقلاب الحياتي الذي يرافق حواس وتغيير اسمه من جهات عليا في الدولة وهي لغة تصاعدية متسارعة تلهث خلف تسطير تفاصيل الحكاية من أجل تصاعد لغة الصراع الذي يبحث عنه القارئ كونه يجد المعلومة ويناقش تصديقها في بعض التفاصيل لأنه الأقرب لها وخاصة تلك المشاهد المتعلقة بهروب ابن عم الرئيس وزوج ابنته الى الأردن وتلك الحكاية المعرف التي لم تخرج هنا من روح المخيلة أو السرد، بل ظلت على ما هي عليه محافظة على تواجدها كحكايةٍ تعاد تفاصيلها أمام المتلقي العراقي.. وهنا اللغة تأخذ في الكثير من تفاصيل الحكي الى المستوى الإخباري المقترب من روح السرد في بعض الأحيان رغم انه سرعان ما يعود الى روي الحكاية
من جهة أخرى نرى ان بنية الصراع في الرواية متعدّد الجوانب ولها العديد من المشهديات الأقرب الى التقطيع السينمائي ولهذا يمكن أن نعطي عنونة أخرى وهو تعدد الصراع في الفعل الدرامي لأنه كافح ليكون تصاعدياً وفق نقاطٍ محدّدة تجعل من بؤرة الصراع قابلة على تحفيز بؤر أخرى لتحتوي الفعل الدرامي بكل حيثياته، لكن هذه المكافحة غيبت عنها المعالجة الإدارية سواء منها المعالجة الحكائية أو السردية وحتى الدرامية كمستوى انفعالي ومنها الصراع مع العرّافة التي أخبرته ان عليه أن يتقاسم معها ما يحصل عليه ولكنها تختفي في البنية الاستشهادية التي تتطلبها الحكاية ويتطلبها السرد الذي يجنح نحو مفعول التأويل والتخيل والتحليل واستحصال القصد، لأن الروي كان يأخذ على عاتقه الإعلام عن كل شيء، ولهذا كان صراع العرّافة قد انبثق من لحظة افتراق مع نفسه في حوار جازم.