تجربتي الروائية عبر مسيرة الحياة

تجربتي الروائية عبر مسيرة الحياة

زهـدي الـداوودي
على حافة الحلم الذي نقلني إلى بداية كينونتي، عرفت بأنني استنشقت الهواء في مطبخ بدائي. لم تكن القابلة رقيقة معي، إذ أنها حين ضربت بقوة على مؤخرتي، جاوبتها بضرطة قوية على وجهها، الأمر الذي لم تعهده من أي مولود جديد آخر. ورغم تألم أمي للضربة التي أوجعتها أكثر من أن توجعني أنا، فإن القابلة صفعت مؤخرتي الصغيرة مرة أخرى قائلة:

«إنه يجب أن يصرخ بدل أن يضرط». ولم أكتف هذه المرة بالصراخ، بل وجهت نافورة رفيعة من البول على وجهها. طرحتني القابلة محتجة على مندر جنب صرصور رابض استهوته رائحة الدم، كي تعتني بأمي التي فقدت وعيها. وفي الوقت الذي بللت القابلة فيه وجه أمي بالماء وضربتها هي الأخرى بصفعة قوية على وجهها، رفعتني مساعدتها وضمتني إلى صدرها الذي مازلت أحس بدفئه، قائلة وهي تشد وجهها على وجهي: «الضرطة والبول دليل الصحة والعافية يا إمراة»

كانت هذه أول لقطة روائية ولدت معي وفرضت علي بشكل غريزي وعفوي أن أوظفها بشكل مستقل دون التأثر بالاتجاهات الموجودة حول كتابة الرواية ودون الإطلاع على تفاصيلها. كل ما كنت أبغيه هو ربط موضوع الرواية بالحياة ربطاً جدليا غير ميكانيكيا، ربطا يصور الصراع بين القديم والجديد، بين الزمان والمكان، بين المعقول واللامعقول، بين المدينة والريف، بين التخلف والتقدم، بين الجريان مع العصر الحديث والتقهقر إلى الوراء، بين تناول الشخصية الروائية من الداخل بكل أحلامها وهمومها وبين تناولها بصورة سطحية فوتوغرافية من الخارج. تنسيق وربط الأحداث بشكل يسترعي إنتباه القارئ دون أن يبعث فيه الملل، ذلك المرض الخبيث الذي يقتل الرواية وهي في المهد. توظيف التراث والفولكلور والحلم بصورة مبدعة ضمن إندفاع داخلي لخلق رواية سحرية شبه واقعية أو رواية واقعية شبه سحرية. إن الرواية الخالية من الصراع جثة خالية من الحياة.
إن أحداث الرواية يجب أن تجري مثل جريان النهر، تارة هادئا كأنه لا يجري وأخرى صاخبا بفيضان مدمر أو تتبادل الحركتان، عناق المد والجزر ولعبة إحتضان الساحل للبحر أو إحتضان البحر للساحل.
تسلقت جدار الحلم عابرا إياه إلى الجانب الثاني. كانت أحزاني التي تقربني من نهاية العالم تشدني إلى عالم النوم، إلى عالم وردي. كنت مازلت أبكي، ولكن بصمت. كنت بحاجة إلى من يعاملني كطفل. علمت أنني استسلمت للنوم. كانت يد ناعمة تمسد ظهري برقة غريبة، ومما زاد في خدري ونشوتي أريج القرنفل. كنت أتمنى أن لا أستيقظ من الحلم.
أحسست أنها عرفت بأني أفتعل النوم، كما وأحست بالرعشة التي اجتاحت جسدي، ورغم ذلك عاملتني كصبي صغير، الأمر الذي جعلني أتغلب على حرجي. أحاطت وجهي بكفيها الدافئتين وهي تنحني علي، بحيث أحسست بأنفاسها وبرائحة القرنفل كسحابة تهب النشوة. قالت بصوت خافت: «كاوان، أنت لم تعد صبيا، هيا قم، عليك أن تسد الفراغ الذي تركه موت والدك».
لم يكن في محيطي العائلي من يهتم بالكتابة ورغم ذلك كان والدي مشتركا في جريدة الأخبار اليومية ومجلة المستمع العربي الشهرية. وبين حين وآخر تصله مجلة المعلم، حين كان يعمل في التعليم، ولكنه حين أصبح مديرا للناحية، انقطعت علاقته بها. لعلهم ضيعوا عنوانه، حيث أصبح دائم التنقل بين النواحي البعيدة التي كانت تفتح آفاقا جديدة أمامي. وإذ كنت أحلم دوما عما يكمن وراء الآفاق الملونة حققت الوظيفة الجديدة لوالدي أمنيتي، حيث رحت أتنقل بين سفوح وهضبات كرميان وجبال بهدينان مثل طائر مهاجر يعرف كيف يتقي شر البرد والحر وعرفت أن العالم لا نهاية له وأن الثلوج لا تسقط في كل مكان وأن رياح السموم لا تهب في كل واد. لقد صرت أعشق التنوع دون أن أدري ما هو التنوع.
سألني ذات مرة أحد أعمامي وهو فلاح لا يعرف القراءة والكتابة ماذا أحب أن أكون في المستقبل، أجبته بسرعة:
أحب أن أكون شرطيا.
ضحك من كلامي وقال متهكما:
هناك نوعان من الشرطة، الأول يرتدي بنطلونا قصيرا فوق الركبة، إذا جلس ظهر نصف خُصيانَه والثاني يلبس بنطلونا طويلا واسعا فضفاضا من فوق وضيقا من تحت، يسمونه شرطة الخيالة، أيهما تريد أن تكون، علما أنك لا تحتاج إلى الدراسة كي تصبح شرطيا.
أحس عمي بعلائم الخجل المطبوعة على وجهي وبالصدمة التي منعتني عن الإجابة الفورية على سؤاله. وأحس بأن انطباعي أن أكون شرطيا أميا قد تغير. قال: لنترك الآن الشرطي وشأنه ونرجع إلى سؤالنا: ماذا تحب أن تكون في المستقبل؟
أحب أن أكون معلما. قال بارتياح:
كان والدك أيضا معلما. في قريتنا معلم قبيح له زوجة جميلة بنهدين نافرين. لو كان طالب الزواج شرطيا، لبصقوا في وجهه.
في وقت متأخر علمت أن عمي الفلاح البسيط، كان معلمي الأول في درس الايروتك الذي جاء في معظم كتاباتي.
في الصف الخامس الابتدائي تمنيت أن أكون كاتبا، بعد أن كنت أتمنى أن أكون شرطيا فمعلما. وهكذا قررت أن أكون كاتبا وأما إذا ما كان الإنسان يتمكن العيش من وراء هذه المهنة، فمسألة لم تخطر ببالي. وحاولت أن أكتب قصة على غرار قصة اللقلق والثعلب، بيد أن المشكلة التي واجهتها عند البدء بالكتابة، هي كيفية التعبير عن أفكاري وتكوين الجمل ورحت أجمع الجمل المفيدة من مجلة سندباد المصرية التي كنت مشتركا فيها وأنقلها إلى قصاصات ورق أحتفظ بها داخل ظروف حسب المواضيع التي تعالجها الجمل وأحاول حفظها عن ظهر قلب. وكتبت أول قصة عن ثعلب أو أبن آوى يسرق دجاجة من حظيرة فلاح وعندما صاحت الدجاجات بقيادة الديك، تضامنا مع الدجاجة المسروقة، استيقظ الفلاح وراح يبحث عن الثعلب الذي ترك الدجاجة تهرب واختفى وراء جدار. ولكن سرعان ما عثر عليه صاحب البيت الذي ناوله ضربة قوية من عصاه على مؤخرته. وكان أن هرب الثعلب وقرر أن لا يكرر فعلته التي لم تجلب له سوى ضربة قوية على مؤخرته التي لا تزال توجعه إلى يومنا هذا.
كانت لي اهتمامات في الرسم أيضا ولا سيما في مجال نقل الصورة الذي لا يشجعه المعلم. ذات يوم جاءنا معلم الرسم والأعمال اليدوية علي قمبر بخبر الإعلان عن مسابقة لأحسن صورة يرسمها الطلبة على مستوى اللواء. ولما كنت لا أثق بنفسي كرسام، لذا لم أهتم بالخبر، الأمر الذي لم يعجب علي قمبر الذي أصر على ضرورة مشاركتي في المسابقة. وكان أن رضخت لطلبه برسم صورة الملك فيصل الثاني بالقلم الرصاص. وكانت الصورة التي رسمتها، كما قال مطابقة للنسخة الأصلية. وعندما ظهرت النتائج، حصلت، كما قال علي قمبر، على الجائزة الأولى التي كان مقدارها خمسة دنانير، سألني أمام الطلبة إذا ما كنت مستعدا للتبرع بالمبلغ لشراء أدوات الرسم لمرسمنا الفقير. وكان أن انتزع مني كلمة نعم.
كنت مع بدء العطلة المدرسية أركز على هوايتي في إصدار جريدة حائطية بعنوان «بابل». وكتابة القصص القصيرة. كنت أعلقها على جدار غرفة صغيرة متروكة تابعة لحمام بيتنا، سبق أن حولتها إلى مكتبة تحتوي على كتب ومجلات والدي المخزونة في حقائب مختلفة. كان معظمها يعود إلى فترة اشتغاله بالتعليم. وتبرع أصدقائي بما لديهم من الدوريات. ورحنا نلتقي في هذه الغرفة الصغيرة التي كانت بمثابة ناد لنا نحن الصغار من أبناء مختلف الفئات الاجتماعية والذين كانت لهم اهتمامات في القراءة والكتابة البدائية اللتين كانتا تشكلان شرطا غير مكتوبا للانتماء إلى هذا النادي. كنت أحصل بين فينة وأخرى من هذا وذاك كتابا للمنفلوطي أو جبران خليل جبران أو غيرهما من الكتاب العرب والأجانب. وعلى فكرة حين كان يحل موسم الأمطار، كنت أحمل مظلة وأجلس في أحد أركان حوشنا، أتمتع بإيقاع دقات المطر على المظلة وأقرأ كتاب النبي لجبران خليل جبران. ومع مرور الزمن كان الأصدقاء يُغربلون حسب اهتماماتهم وقابلياتهم. ومما ساعد في ذلك محاولة مدير المدرسة الثانوية موسى نعمان، تشكيل فرقة مسرحية لتقديم المسرحيات على مسرح قاعة الثانوية. وكان أن أوعز إلى مدرس اللغة العربية نوري أكبر بالتدقيق في دفاتر الإنشاء واختيار الممثلين في ضوء قابلياتهم في الكتابة. كنت إذ ذاك في الصف الأول المتوسط. وإلى جانب النشاط المسرحي، كلفنا بإصدار نشرة حائطية دورية وقمت بتكليف من مدرس الجغرافية برسم عدة خرائط على الجدران. وسلمني المدير مفتاح القاعة التي تحولت إلى ورشة لنشاطاتنا الثقافية. قرر المدير تقديم مسرحية «رسول النبي إلى هرقل» حيث وزع علينا الأدوار وجلب خصيصا لهذا الغرض مخرجا من بغداد. لا أدري إذا ما نجحت المسرحية في الواقع أم لا، ولكن الذي أعرفه هو إننا اعتبرناها مسرحية ناجحة وحدثا مهما في تاريخ قصبة طوزخورماتو التي لم يسبق لها أن شاهدت مثل هذا العمل الذي كان الإقبال عليه كبيرا جدا. وتوطدت العلاقة بيننا نحن العاملين في النشاط الثقافي وكان من أبرز الطلبة في هذا المجال عبد اللطيف بندر أوغلو وموسى أحمد العبيدي وطالب أسمه حافظ من الموصل، كانت أخته تعمل معلمة في مدرسة البنات وغيرهم... لا أتذكر أسماءهم..

صدى الواعي
ذات يوم ذهبنا أنا وعبداللطيف إلى محطة القطار، حيث كان سكن أهل موسى الذي كان والده يشتغل عاملا في المحطة. كان بيتهم متواضعا إلى درجة الفقر. كنا في لقاءاتنا نتذمر من الوضع القائم وننتقد النظام الملكي الذي كنا نعتبره باليا وقررنا أن نعمل شيئا. أبدى موسى حماسه للفكرة. كنت أعرف ماذا يريد عبد اللطيف: أن يشكل منا حلقة يربطنا بالحزب الشيوعي، ذلك أن شقيقه كان عنصرا نشيطا فيه. كنت لست ضد الفكرة من حيث المبدأ، بيد أنني كنت أرى أنفسنا صغارا لمثل هذه المهمة الخطيرة. وكان أن اقترحت عليهما مشروع إصدار مجلة دورية نكتبها باليد وتبرعت أن أقوم أنا بعملية كتابة المواضيع. أصدرنا عدة أعداد بعنوان «صدى الواعي»، كنا نتناقلها بحذر بين الأصدقاء، بيد أننا أحسسنا بأن أمرنا بدأ ينكشف وتتوجه الأصابع نحونا. وكان أن توقفنا عن مواصلة هذا النشاط الخطر. ورحنا نركز على نشاطنا الثقافي المدرسي.
كنت بحكم علاقة القرابة الموجودة في داقوق، أسافر بين فينة وأخرى إلى هناك، حيث تعرفت عن طريق الأقارب بكل من المعلمين إبراهيم الداقوقي ومحمد خورشيد الداقوقي. كانا يقرئان ينابيع الأدب العالمي ويمتلكان كتبها المترجمة إلى اللغة العربية. أعارني إبراهيم بعض الكتب وأما محمد خورشيد فتعهد بارسال رزمة بالبريد. ذات يوم جاءني الفراش في المدرسة يطلب مني الذهاب إلى المدير موسى نعمان. وحين ذهبت إليه في غرفته، وجدته واقفا أمام مكتبه، يقلب بعض الكتب. ما أن رآني، إلا وبادر قائلا:
«ما افتهمنا، تقرأ مجلات الأطفال أم الأدب الكلاسيكي العالمي؟»
قلت باعتزاز:
«كنت أقرأ قصص الأطفال والآن أريد الانتقال إلى الأدب الكلاسيكي العالمي»
تناول مجلة سندباد الآتية بالبريد، سائلا إذا ما كنت أملك الأعداد القديمة وماذا أصنع بها بعد الانتقال إلى مرحلة الرجولة وما إذا كان يمكنه إعارتها مني لأبنه الصغير. قلت له إنني لست بحاجة إليها، سأجلبها كلها هدية له. نصحني أن أبلغ صاحبي بعدم إرسال الكتب بالبريد، لأنها ممنوعة.
تم نقل موسى نعمان إلى مدرسة أخرى وحل محله مدير جديد هو خورشيد كاظم البياتي. ومع التحاق الأخير بوظيفته، توقف النشاط الثقافي في المدرسة توقفا تاما. حتى إصدار نشرة حائطية أصبح أمرا محرما.
انتقل والدي إلى مدرسة افتخار القروية، بعد أن تمت إحالَتَه إلى التقاعد، وأخذ معه العائلة وجاءت جدتي للسكن عندنا لتعاوننا أنا وأختي زاهدة في شؤون البيت، إذ أضطررنا للبقاء في طوزخورماتو لمواصلة الدراسة الثانوية. كنت أزورهم في نهاية الأسبوع، مسافرا بالقطار الصاعد إلى كركوك.

جماعة أبناء الشقاء
كان ذلك في منتصف خمسينات القرن الماضي عندما كنا نسمي أنفسنا «جماعة أبناء الشقاء». وجاء الأسم باقتراح من قحطان الهرمزي الذي تعرفت عليه في طوزخورماتو، حيث جاء إليها بحكم وظيفة والده نجاتي الهرمزي الذي كان صديقا حميما لوالدي. كنت في الصف الأول المتوسط وأما قحطان فكان في الرابع الثانوي إن لم تخني الذاكرة. كانت صداقتي في الحقيقة مع شقيقه عصمت الذي كان بعمري. كان عصمت يَحلُم أن يكون ممثلا معروفا، والحقيقة أن حلمه لم يكن مبنيا على وهم، إذ أنه كان ممثلا بالفطرة. وكان يحاول دوما أن يجرني إلى عالم هوايته مؤكدا لي بأن مستلزمات الممثل متوفرة عندي، بدليل أنني أشبه الممثل الأمريكي كريكوري بيك. ولم يقف عند هذا الحد، بل أكد لي بأنني أصلح لأفلام الكاوبوي، ذلك أنه رآني ذات يوم على ظهر حصان وأنا في طريقي إلى قرية ألبو صباح في حين هو جالس في الباص الخشبي القديم الصاعد إلى كركوك. أخرج راسه من النافذة وهو يحثني على التسابق مع الباص. ولم يخيب حصاني ظنه، بيد أن الفضل بالتأكيد لم يعد لحصاني الهرم، بل لضعف الباص الذي أكل عليه الدهر وشرب.
تمكن عصمت إلى حد ما أن يجرني إلى عالم هوايته، إذ اشتركت معه في تقديم مسرحية قصيرة أمام أهلنا في إحدى الأمسيات. وكان ذلك بداية لمساهماتي في مسرحيات قدمت فيما بعد مثل مسرحية «رسول النبي إلى هرقل» و «الطبيب المفلس» و «السجناء» التي قدمت على مسرح قاعة ثانوية طوز ومسرح قاعة مدرسة الوطن النموذجية في كركوك.
رغم تلك المساهمات المسرحية، ظل إهتمامي منصبا على الأدب والرسم وكنت أنجذب إلى قحطان وأستفيد من ملاحظاته على نصوصي البدائية التي كان يعيد كتابة بعضها باسلوبه الخاص.
انتقلت من عالم قراءة قصص الأطفال إلى عوالم جبران خليل جبران والمنفلوطي وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم. وانتقلت نشرتنا الحائطية إلى مستوى أعلى بفضل إشراف قحطان عليها وحولت منزع حمامنا المتروك إلى مكتبة ومكان للقاء ما يسمى بهيئة التحرير. وأما من هو جمهورنا ومن يقرأ نتاجاتنا، فمسألة لم تهمنا ولم نفكر فيها. المهم أننا كنا نكتب ونريح حاجة ذاتية في دواخلنا ونعتقد اننا نغير العالم، ولكننا سرعان ما أحسسنا بأننا نعيش داخل قوقعة وندور في حلقة مفرغة. وكان أن انسلخنا عن عالمنا الذي كان لا يزال تهيمن عليه الطفولة والصبيانية، ورحنا ننصرف إلى إلتهام ما يقع في أيدينا من روائع الأدب العالمي.
ومن خلال زياراتي المنتظمة إلى كركوك وانتقالي إليها بسبب فصلي من ثانوية طوز لتحريضي الطلبة على الإضراب العام، تعرفت على يوسف الحيدري، أنور الغساني (أنور محمود سامي) سابقا، مؤيد الراوي (مؤيد شكري) سابقا، جليل القيسي، فاضل العزاوي، علي شكر البياتي ونورالدين الصالحيي.
كان ذلك في الفترة 1954 – 1955، كنا نلتقي عادة في بيت أحد الأصدقاء أو في المكتبة العامة القديمة التي كانت تطل على نهر خاصه صو جنب البريد المركزي. وكنا قد بدأنا بالنشر في الجرائد العراقية منها النديم الاسبوعية، صوت المحاربين، الحوادث، المجتمع البلاد، التقدم وفتى العراق الموصلية..الخ. وأصدر فاضل العزاوي مجموعة شعرية صغيرة بعنوان «أساطير خالدة» طبعت في مطبعة كركوك. وفي تلك المرحلة توطدت علاقتنا بالأب يوسف سعيد ومحمد أحمد رستم، كان الأخير معلما وقاصا جيدا، نال جائزة مجلة الآداب في القصة القصيرة. كنت ألتقي به في مخزن والده الواقع في شارع الأوقاف، حيث أسلمه مسودات قصصي القصيرة ليبدي حولها ملاحظاته.
كان لكل واحد منا حلمه الخاص الذي لا يجهر به حتى لأعز أصدقائه كما كان لكل واحد منا ذاتيته الخاصة به والتي لا يعلن عنها أيضا. وكان لكل منا نظرته الخاصة تجاه محيطه وعصره ومدى ملائمته معهما. بالنسبة لي أنا كنت أجد راحتي الداخلية حين كنت أزور أعمامي في قراهم وأشاركهم حياتهم البدائية التي تشبه رواية غير مكتوبة، يجب أن تكتب بالتفصيل.
كانت حياتنا عبارة عن معركة صاخبة لا تهدأ، وحين نبتعد عن بعضنا، يطحننا الحنين والشوق وما أن نلتقي، يبدأ العراك من جديد وأما إذا التقى بعضنا دون الكل، فيسود السلام والهدوء. هكذا كنا دوما كاختلاف الليل والنهار.
كنت أسافر بين فينة وأخرى، ولا سيما في العطلات الرسمية إلى بغداد. كنت التقي بأصدقائي فاضل العزاوي، أنور الغساني، مؤيد الراوي، يوسف الحيدري وغيرهم الذين تركوا كركوك للسكن في بغداد الآمنة بالنسبة إليهم. كما وكنا نلتقي بأدباء قادمين من المحافظات الأخرى أذكر منهم عبد الرحمن مجيد الربيعي، عبد الستار الدليمي، إبراهيم أحمد وغيرهم. ولما كنا قد أصبحنا أعضاء في اتحاد الأدباء العراقيين، لذا كنا نرتاد ناديه ونساهم في فعالياته ونتعرف بدورنا بوجوه أدبية ننظر إليها بالود والاحترام. ذات مرة، وكنت قد نشرت قصة قصيرة بعنوان «صديقان» في مجلة (الأديب العراقي) التي كان يصدرها اتحاد الأدباء العراقيين، كنت جالسا وحدي بانتظار بعض الأصدقاء، جاءني علي جواد الطاهر بابتسامته الأبوية، جرني من يدي قائلا: تعال معي لأعرفك ببلند الحيدري. حين أصبحنا ثلاثتنا على المائدة، وجه كلامه إلى بلند قائلا: أبو عمر، هذا هو زهدي الداوودي، صاحب قصة «صديقان»، ثق لو كان يعرف اللغة الفرنسية، لقلت إنه ترجمها منها. وراحا يمدحان القصة بحيث تصورت أنهما ينصبان لي مقلبا، لو لا أنهما طلبا مني أن أقرأ قصة قصيرة في إحدى أماسي اتحاد الأدباء. وفعلا قرأت قصة بعنوان «دماء وزيتون» من وحي انتفاضة عمال شركة نفط العراق في كاورباغي بكركوك. نشرت فيما بعد في سلسلة «أماسي الاتحاد». وأقترح علي علي جواد الطاهر إصدار مجموعة قصصية، يمكن الاتفاق بشأنها مع شاكر خصباك. اتفقت مع أنور الغساني الذي كان قد فتح مكتبا للخط والإعلان في شارع السعدون على أن يقوم بتصميم الغلاف وتصحيح الاخطاء المطبعية. كان يفترض أن يحمل الكتاب عنوان أطول قصة في المجموعة وهي «الإعصار الأسود». اقترحت على أنور أن تكون أرضية الغلاف باللون الأسود تتخللها دوامة إعصار. ورأينا أن نكتفي بعنوان «الإعصار» دون الأسود، ذلك أن السواد يبدو للعيان بوضوح ولذلك لا داعي لتكراره. وصدرت المجموعة في خريف العام 1962. عندها، حين رآني علي جواد الطاهر، صاح رافعا يمناه:
«أهنيك، مجموعتك ضربت الرقم القياسي في التوزيع»
ولما سألته عن عدد النسخ المباعة، أجابني: «175 نسخة»
كنت أتوقع أن الرقم ليس أقل من 1000 نسخة، لذلك قلت له بخيبة أمل: إنه رقم بائس يا أستاذ. عرف أني أجهل طبيعة سوق الكتاب. وراح يشرح لي ماهية الواقع المر وكيف أنهم طبعوا ديوانا لشاعر، لا أريد ذكر أسمه، لم يباع منه حتى نسخة واحدة، رغم أنه درّس في الثانوية أكثر من ألف طالب.


* ألقيت في المؤتمر الأول للرواية العراقية
في المنفى. اكتوبر 2013 لندن