اهلا بك في بيت أمير الشعراء

اهلا بك في بيت أمير الشعراء

كرمة أبن هانئ.. التي شهدت احداثا ادبية وفنية وسياسية.. والتي خرج منها اروع ما كتب في الشعر العربي – الشوفيات – واحل ما تغني به كبار مطربينا.. واروع المسرحيات الشعرية التي مثلت على المسرح (مجنون ليلى) و(مصرع كيلوباترا)..
كرمة ابن هانئ.. او فيلا امير الشعراء ستتحول هذا العام الى متحف يضم تراث امير الشعراء – كما سيكون مركزا للثقافة تعقد فيه الندوات والمحاضرات..

سيأتي الجمهور من كل مكان في العالم فيشاهد المكان الذي عاش فيه امير الشعراء.. وليستمع ايضا الى المحاضرات والندوات الادبية.

ان الدولة اليوم تكرم شاعرنا الكبير بان نجعل من بيته متحفا ومزارا امثال شوقي واشعاره.. اشعاره التي مازالت حتى الان نابضة بالحياة.. ان شاعريته اصيلة وموهبته خلاقة.
ولو لا يكرمه بلده الذي ولد فيه – وقد سبقتنا الى تكريمه بلدة اوروبية هي ايطاليا حينما اقامتت له تمثالا في حديقة الخالدين بروما الى جانب تماثيل عباقرة العالم.. كما كرمه لبنان بان اقام ايضا تمثالا له في زحله، هناك في وادي العرائس حيث جلس امير الشعراء لينظم (جارة الوادي).
وقد كرمه من قبل العالم العربي تقديرا وعرفانا بشاعريته ومكانته في عام 1927 حين اقام له مهرجانا ادبيا كبيرا بايعه فيه الشعراء العرب بامارة الشعر.
هذا الفنان العربي المصري الخالد – الذي ظل يعني اربعة واربعين عاما – لم يكن مطربا.. او ملحنا- ولكنه كان شاعرا – جعل من الحياة قصة بالحياة رواها في قصائده المسرحية.
معبد شوقي..
وعلى النيل في الجيزة تطل"كرمة ابن هانئ"التي تقوم وزارة الثقافة الان بتحويلها الى متحف، ان اهم شيء يلفت النظر عندما تدخل من باب الفيلا هو الناحية المعمارية.. والجو الشرقي الموجود في الفيلا.. والذي يوحي بان هنا كان يعيش شاعر عربي على مستوى الوطن العربي.
وفي الدور الاول فوجئت بان اثاث البيت لا وجود له.. اللهم الا بعض التحف الجويلان المعلقة على الحائط.. وصور لامير الشعراء في مراحل حياته.. ومع اولاده وصورة تجمعه بسعد زغلول.. ولكن يكفي ان تلقي نظرة على القلعة الكبرى في البيت – والى مكان كان يطلق عليه شوقي (الهيكل) او (المعبد) – والذي تزين جدرانه الايات القرآنية المنقوشة بماء الذهب.. مرآة كبيرة في القاعة الشرقية – بعرض الحائط – مزينة ايضا بماء الذهب، وامامها تمثال لامير الشعراء من تصميم الفنان يوسف الحويج.. والنجف الشرقي المتدلي من السقف، لتشعر بالجو الذي كان يعيش فيه الشاعر الكبير.
في هذه القلعة الكبرى كانت تقام الاحتفالات والندوات الادبية كل يوم.. والتي كان يحضرها بعض كبار الشخصيات واصدقاء الشاعر مثل حافظ ابراهيم واحمد رامي.. هنا ايضا كانت تقام البروفات المسرحية حيث كان ؤدي الممثلون ادوارهم في (مجنون ليلى).. هنا ايضا اقيمت بروفات لأم كلثوم على بعض اغانيها.. اما عبد الوهاب فكثيرا ما كان يسهر حتى الصباح ليغني.
حجرة عبد الوهاب
وبالدور الارضي غرفة خاصة بعبد الوهاب.. فقد كان عبد الوهاب الابن الروحي لشوقي.. كان تلميذه وصديقه.. وقد وصفه شوقي بقوله:
ناحل كالكرة الصغرى سرى
صوته في كرة الارض الغفاء
يستحي ان يهتف الفن به
وجمال العبقريات الحياء
وقد كتب له شعرا تغنى به.. كما كتب له خصيصا اغاني باللهجة العامية وهو امير الشعراء..
وكانت اول اغنية بالعامية قدمها لعبد الوهاب هي:
توحشني وانت ويايا
واشتاق لك وعينيك في عنيه
واتذلل والحق معايا
واعاتبك ماتهونش علي
ثم نظم له بعد ذلك الادوار المشهورة (بلبل حيران) و(في الليل لما خلى).. و(حمامه بيضة يغرد جناح).
ويقول عبد الوهاب عن شوقي:
- كان يكتب القصيدة ثم يقرأها على المقربين اليه من اصدقائه... وكان وهو يقرأ القصيدة ينظر الى الموجودين نظرات حادة حتى يلمس مدى تأثرهم بها.
وكان يحب الالحان والاغاني القديمة، ولكنه كان ينصحني بان احاول التجديد في الموسيقي لمجاراة التطور.
هذه الحجرة كانت مخصصة للموسيقار الكبير، لا يوجد بها سوى كتبه كبيرة بطول الحائط.
ويقول هم بشير الذي كان يقدم في منزل شوقي والذي ما يزال موجودا حتى الان:
- كانت حجرة عبد الوهاب تضم سريرا خشبيا مطعما بالصدف.. ودولابا مثله – وكتبة كبيرة وكومودينو، وكانت حجرة مكتب (البك) بجوارها – ولم تكن ككما هي الان في الدور العلوي.
وكان عبد الوهاب اذا سهر الى ساعة متأخرة ينام في هذه الغرفة..
وقد بدا شوقي قبل وفاته في كتابة قصيدة من الوزن الفارسي ليلحنها عبد الوهاب – ولكنه مات بعد ان كتب الفقرة الاولى فقط:
يا ليل لك الويل ما صنعت بسهران
الدمع بعنيه مثل نجمع حيران
لي منك ليال ومن عذابك الوان
واتجول في حجرة السفرة والصالون – قد اجد اثاث.. ولكن النقوش العربية في الاسقف وعلى الجدران..
ويحكي عم بشير.. عن بيت شوقي ايام زمان وعن مظاهر الترف فيه..
- لم يكن المنزل يخلو من العزائم والولائم والحفلات التي كانت تقام كل ليلة.. ويغني فيها عبد الوهاب.
وكان (البك) احيانا يتأخر في الخارج بالليل ثم يتحدث بالتليفون بعد ان يكون من في المنزل قد نام – ليعدوا العشاءله ولبعض الاصدقاء، وكان يحب ان يمشي على النيل.. واحيانا كنت اسير بجانبه ولا يشعر بي.. واتحدث اليه فيكون شاردا.. ثم يصحو فجأة.. (انت كنت بتقول ايه!).
واصعد الى الطابق العلوي.. انه مكون من سبع حجرا ويضم حجرة نوم امير الشعراء – عبارة عن سرير نحاس من الطراز العربي القديم باربعة اعمدة.. ودولاب من الخشب.. وشيزاونج وكرسيين فوتيل. وقد كان شوقي يكتب اشعاره وهو جالس على كرسيه هذا.
شاعر.. ام مجنون؟
ولكن ماذا كان يفعل امير الشعراء حينما كان يأتيه الالهام لكتابة قصيدة؟
قال عنه الشاعر كامل الشناوي وكان صديقا له:
-"رأيت شوقي وهو يسجل خواطره.. كان يخيل الي انه مجنون اصيب بغتة بنوبة صرع.. كان يجلس بيننا ثم يقفز الى مكان اخر.. ويخرج من جيب سترته علبة السجائر ويكتب فيها كلمات.. ويعود الينا او نحلق به والعرق يتصبب من جبهته وعيناه مغرورقتان بالدموع وانفاسه لاهثة، وكانت هذه الحالة تنتابه طيلة معاناته في نظم احدى قصائده.. فاذا فرغ من تسجيل خواطره ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم – وضع رأسه بين كفيه واملى القصيدة كاملة على احد المقربين.. ثم عاد الى مراجعة الاوراق والقصاصات التي سبق ان سجل فيها خواطر القصيدة – فاذا ما املاء عن ذاكرته لا يكاد يختلف عما سجله في بضعة ايام متفرقة الا في كلمة او كلمتين!".
وكان شوقي مؤمنا بانه شاعر له اعماق وجذور. وكان يؤمن انه سيعيش بشعره الاف السنين.. ولم يكن يخفي هذا الايمان بل عبر عنه في قصائده:
وانا الذي اولى الشموس اذا هوت
فتعود سيرتها الى الدوران.
وهنا غرفة نوم زوجته السيدة خديجة.. التي تقول لي عنها حفيدتها – خديجة رياض – انها كانت سيدة عظيمة.. وهي احد اسباب نجاحه..
هنا صورة مرسومة كبيرة بالحجم الطبيعي معلقة على الحائط.. وحوائط الحجرة مزينة بالورق الملون.. وبين حجرتي النوم حجرة المعيشة وتضم كتبه وبعض الكراسي الفوتيل من الطراز العربي، اما الصالة فهي تضم بعض الكتب – والمكتبة تحتوي على دولاب متوسط الحجم ومكتب صغير وكرسيين.
لاحظت ان الكتب موزعة هنا وهناك جزء منها في حجرة نومه.. ومكتبه وفي الصالة والممر.. وعرفت ان غرفة المكتب كانت في الدور الارضي بجانب حجرة عبد الوهاب ويقول ابنه انه لم يكن يجلس في غرفة مكتبه كثيرا..
بل كان يسهر طول الليل ليكتب شعره في غرفة النوم.
والحائط مزين بصورة تذكارية لاحمد شوقي وسعد زغلول.. وصورة كبيرة لانس الوجود في جزيرة قبلة باصوان وصورة لشوقي وضغت فوق مكتبه – وصورة لشوقي في مراحل حياته هو وعائلته.. وصورة لنابليون.
لاحظت ان هناك فارقا كبيرا بين قيلا طه حسين التي تتحول الان الى متحف وقيلا شوقي – ان فيلا شوقي يغلب عليها الطابع الشرقي المعماري – اما فيلا طه حسين فهي تجمع بين الذوق الشرقي والغربي – وفيلا طه حسين تركت على ما كانت عليه يوم وفاة عميد الادب العربي – اما فيلا شوقي فانها شبه خالية من الاثاث..
اذن كيف يجري تحول (كرمة ابن هانئ) الى متحف – وكيف ستستكمل.. ولماذا لم تحول الى متحف بمجرد وفاته!
يقول عبد الحميد حمدي مدير ادارة المتاحف والذي يقوم بتحويل منازل الخالدين الى متاحف:
- ان المتحف بعد افتتاحه هذا العام.. وهناك اجراءات ستعمل قبل افتتاحه – فبيت شوقي مفتوح على بيت ابنته في الحديقة والذي يسكن فيه احفاده الان – فقد كان شوقي يحب اولاده جدا – ولم يكن يحب ان يبعدوا عنه – لذلك بنى لهم منزلين احدهما على نفس ارض الفيلا في الحديقة – والثاني بجواره. اننا سنقيم سورا يفصل بين البيتين اما فكرة تخليد الزعماء والفنانين والادباء واعداد متاحف لهم فهي فكرة حديثة – فقد انشانا المتاحف لكبار الفنانين والوطنيين امثال مختار ومحمود خليل وناجي عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل.
والمفروض ان تهتم اسرة الزعماء والفنانين بالحفاظ على جمع مخلفاتهم وكل ما كان يخص الفنان او الزعيم بعد وفاته.. وان تساعد الدولة على تحويل منزله بكل مقتنياته الى متحف. وهذا ما حدث بالنسبة لمختار حيث تبرع اهله بجميع اعماله الفنية.. وايضا محمود خليل الذي تبرعت زوجته الفرنسية بكل اعماله ومقتنياته – وايضا بالنسبة لسعد زغلول الذي هو كما كان ايام سعد زغلول وكانه لايزال حيا، وهذا ما يحدث بالنسبة لبيوت الخالدين في الخارج.
وسنحاول بقدر الامكان ان نعيد منزل شوقي الى ما كان عليه، ومن واجب اقاربه واصدقائه – وكل الذين يملكون شيئا من آثاره ان يقدموها هدية للمتحف الذي يجب ان يضم كل شيء عن الشاعر الكبير.

مع حفيدته..
وفي الفيلا المجاورة.. في حديقة المنزل – تقيم الفنانة خديجة رياض – وهي حفيدة شوقي لابنته – وتحكي الفنانة ما سمعته من الاهل والاقارب عن بعض عادات الشاعر الكبير:
- كانت حياته روتينية ثابتة – خالية من بوهيمية الفنان... يستيقظ صباحا ليستعرض الصحف ويشرب فنجان قهوة (مضبوط) ثم يأخذ طريقه الى مكتبه – ثم يخرج منه الى محل (سولت) – وكان مقاما على ارض شيكوريل الان – ليلتقي باصدقائه النقراشي ومحجوب ثابت – فقد كان يحب المسرح جدا.. ويعود الى منزله وحيدا او مرافقا لبعض اصدقائه لتناول الغداء.. ثم يعكف في منزله حتى السادسة ليذهب الى السينما.. وكان يحب السينما – ويجلس وسط الشعب في (الترسو) ويخرج من السينما ليذهب الى المسرح.. ثم يلف على دور الصحف ليلتقي باصدقائه من رؤساء التحرير ويعرف آخر الانباء ثم يعود الى المنزل وحيدا او مع بعض الاصدقاء.

كان يكره الموت...
وكان شوقي يحب الحياة ويكره الموت.. وكان يتصور ان الموت لا يجيء للناس الا وهم نائمون – ولهذا حرص على ان تكون فترة يقظته اطول من نومه – وكان يسمي النوم (نصف موت) وقد عبر عنه في (مصرع كليوباترا) حين قال:
زعمت ابنتي الموت شخصا يحس
وعلمت من امره ما صغر
وما هو الا انطفاء الحياة
وعصف الردى بسراج العمر!
وتقول حفيدته:
- كان مرهف الحس – اذا مرض احد فلا يستطيع رؤيته.
واتجول في الفيلا:
- اين كتب الشاعر الكبير ومكتبته التي يقال انها كانت عامرة بالكتب؟
ويجيء الرد على لسنا ابنه الاكبر حسين:
- ان السبب يرجع الى ابعاده من مصر الى اسبانيا التي نفي فيها خمس سنوات، وقد ضاعت كتب كثيرة ووزعت ايضا كتب كثيرة.. ولم تحتفظ الا بالكتب القيمة التي تتناول التراث العربي القديم.
والمعروف ان حياة شوقي ضمان – فصلت بينهما الفترة التي نفاه فيها الانجليز من مصر على اثر عزل عباس فقصد الى برشلونة باسبانيا (الاندلس) ومكث هناك حتى سمح له بالعودة الى مصر بلاده في اواخر عام 1919 لذلك نجد انه في القسم الاول من حياته بعد عن (الوطنيات) وكان صدى لشعب مغلوب على امره بحكمة غاصبان ظالمان، ثم القسم الثاني – حين عاد الى الوطن ليكتب عن معاناة الشعب ومشكاله.. وحنينه الى الوطن.. وعن الاحتلال.
عاد يقول:
ويا وطني لقبتك بعد يأس
وكاني قد لقيت بك الشبابا
ثم يهاجم كرومر بعد حادث دتشواي:
نيرون لو ادركت بمهد كروم
تعلمت كيف تنفذ الاحكام
وحين رحل كرومر وغادر البلاد قال:
لما رحلت عن البلاد تشهدت
فكانك الداء العياء رحيلا
في كل تقرير تقول خلقتكم
افهل ترى تقريرك التنزيلا
وتوفي شوقي عام 1932 عن 63 عاما وكانت وفاته بغتة – بعد يوم حافل باللقاءات ومشاهدة السينما والاوبرا وبعد ان التقى بكل اصدقائه عاد لينام في سريره الى الابد مات وهو ما يزال يتساءل عن الحياة.. وعن حقيقتها!
ما انت يا دنيا؟
ارؤيا قائم؟
ام ليل عرس؟
ام بساط سلاف؟
مات بعد ان عاش حياة حافلة بالشعر.. وترك مجموعة ضخمة من القصائد والمسرحيات الشعرية تتمثل في ديوانه الاول الذي صدر في اوائل هذا القرن واربعة دواوين كبيرة اما مسرحياته فهي: (مجنون ليلى) و(كليوباترا) و(قمبيز) و(علي بك الكبير) و(الست هدى) و(عنترة) وعدد لا يحصى من الروايات النثرية.
وكانت وصيته الاخيرة:
اقول لهم في ساعة الدفن خففوا
علي.. ولا تلقوا الصخور على قري
الم يكف هم في الحياة حملته
فاحمل بعد الموت صخرا على صخرا
ان وزارة الثقافة تعد الان مشروعا كبيرا – وهو مشروع اقامة مقابر الخالدين الذين سينقلون اليها.. وتكون مزارا للجمهور. وقد لا يعرف البعض ان طه حسين حين عاد لم تكن هناك مقبرة معدة لدفنه.. وبنى له قبر في ليلة واحدة.
وهناك كلمة اخيرة نوجهها لاسر الزعماء والوطنيين والفنانين – وهي ان يحافظوا على تراثهم – فهذه امانة للتاريخ في اعناقهم!

آخــر ســاعة/ - 1962