موسوليني بعد عشر سنوات في الحكم

موسوليني بعد عشر سنوات في الحكم

بقلم صديق له
ان تاريخ حياة دكتاتور ايطاليا بنيتو موسوليني لمن اعجب تواريخ الشخصيات البارزة، وقد ولد سنة 1883 في قرية بريداييو بالقرب من فورلي وكان ابوه حدادا اميا ولكنه مرت به اطوار الحياة من الحركة الاشتراكية في بلاده الى الحرب العالمية حتى صار الان عاهل قصر فنسيا بروما يتصرف في شؤون بلاده وتتجه اليه انظار العالم.

ولعل اكثر الحوادث تاثيرا في حياته كانت يوم دخل امتحانا ليعين مدرسا باحدى مدارس فورلي فلم ينعم لحائل من الرسميات بتلك الوظيفة التي كانت اذ ذاك قصارى امله، ولا شك انه لو عين فيها وقنع بحكم تلاميذه بدل الامة الايطالية كلها لتغيرت وجهة تاريخ ايطاليا ولظل اسم موسوليني نكرة في الاسماء.
ولما فشل دون تلك الغاية ساءت حالته فساعده اصدقاء ابيه بان جعلوه محررا لجريدة اشتراكية صغيرة كانت تصدر بالبلدة ولكنه صار ينشر مقالات جريئة وما لبث ان اضطر الى الفرار الى سويسرا. ثم عاد بعد حين الى ايطاليا وكان قد سبقته شهرته لما لقيه من نفي واضطهاد فتولى رئاسة تحرير جريدة (افانتي) بميلانو وهي جريدة اشتراكية مشهورة.
وفي ذلك الوقت شبت الحرب العالمية ولما كان موسوليني رجل عمل وكفاح فقد خرج على اصدقائه الاشتراكيين وخلف افكاره الدولية معتنقا بدلا منها مبادئ وطنية صميمة، وابدى شجاعة فائقة في حرب الخنادق حتى اذا وضعت الحرب اوزارها عاد الى ايطاليا على رأس حزب جديد لا تمت مبادئه باية صلة الى المبادئ الاشتراكية التي طالما نادى موسوليني بها من قبل.
وكانت ايطاليا عند انتهاء الحرب قد كثر بها العاطلون من الضباط والجنود والمسرحيين والعمال الذين لا يجدون عملا ولم يستطيعوا قبلهم لان امريكا اوصدت بابها دون المهاجرين ومن هؤلاء جمع موسوليني انصاره وجنده وجيشه ثم لم يلبث ان زحف بهم على روما في خريف سنة 1923 وبعد ايام معدودة صار دكتاتور ايطاليا المطاع.
وقد يبدو للباحث في تاريخ حياة موسوليني انه مجموعة من المناقضات فهو اولا كان يدين بالفكرة الدولية ثم صار وطنيا صميما. وقد كان اشتراكيا ديمقراطيا فانقلب دكتاتورا يسخر من الديمقراطية وفو قد كان ينادي بالتقدم والانقلاب فاصبح محافظا على القديم بل رجعيا. بل يخيل للانسان ان موسوليني قد اعتنق كل المبادئ السياسية على اختلافها حتى اننا اذا تركنا ماضيه الاول جانبا نظرنا الى تاريخه في العشر السنوات الاخيرة التي قضاها في الحكم لرايناه يوما ينادي بالويل والثبور ويمتدح المدفع والسيف ويوما آخر يبعث الى امريكا برسالة تفيض تولها بالسلم. غير انه على الرغم من هذه المتناقضات الظاهرة يرى الباحث المدقق في تاريخ حياة موسوليني وحدة لاشك فيها حتى ليصح ان يقال انه لم يتغير وانما تغيرت الاوساط التي هو فيها وطابق بين افكاره وبين الظروف المتبدلة.
والواقع ان موسوليني لم يؤمن قط بالديموقراطية حتى انه لما كان صحفيا اشتراكيا كان عدوا للبرلمانات والنظم البرلمانية وكثيرا ما ندد بالخطب التي تلقى في مجالس النواب والتي لا يعقبها عمل حاسم رغم حماستها مع انه هو الخطيب الذي يسخر الجماهير والذي يعتمد علىالخطابة قبل غيرها. وهو انما اراد خير الامة ولكن على الرغم من ارادتها لانه يعتقد تمام الاعتقاد ان الجماهير لا تدرك مصلحتها الحقيقية وان على الزعماء ان يمنحوا الخير لشعوبها منحاً. وبديهي ان هذه هي عقيدة الحاكمين بامرهم جميعا ويزيد موسوليني على ذلك انه يؤمن بالقوة فهو ليس من القائلين بان قوة الحق فوق كل قوة وان للحق الانتصار دائما، كلا بل انه يعتقد ان القوة ينبغي لها ان تسبق الحق، ومن دلائل ذلك انه كان في شبابه يخص العمال على الاضراب العام ومقاومة البوليس بالعنف والان لا يرى خيرا من استخدام البوليس لتنفيذ مقاصده.
كذلك في السياسة الدوليةلم يتغير موسوليني في الحقيقة، وهو وان لم تكن له قط وطنية الرأسماليين الا انه كان ولا يزال مؤمنا الايمان كله بوطنه ومصيره ورسالته في العالم، ولما كان ينفخ في روح الثورة كان يعتقد ان التاريخ يدعو الايطاليين لان يلعبوا دورا في العالم، وهذه الفكرة نفسها هي التي اقنعته بضرورة اشتراك ايطاليا في الحرب الكبرى حتى يمكنها ان تستعيد مكانتها القديمة بين الامم واذا كان وهو اشتراكي بعيدا عن الديمقراطية البرلمانية بل داعيا الى العمل العنيف الحاسم، فانه وهو دكتاتور قد اصبح دكتاتورا رجعيا، صحيح انه اعتمد في وقت ما على كبار رجال المصارف والصناعات في بلاده ولكنهم انما عانووه لانهم وجدوه حليفا لهم ضد الشيوعية، وليس من مجرد المصادفة ان الفاشيستية بلغت ذرى القوة عقب استحواذ العمال الايطاليين على المصانع في سنة 1921، ولما تولى موسوليني الحكم نال تقدير العناصر المحافظة من رجال البلاط والجيش وارباب الصناعة والتجارة وقد تعهد لهم بازالة اسباب مخاوفهم ولكنه في قرارة نفسه كان عازما على انقاذ عدة اصلاحات اجتماعية لاتروق لهم، وهو بينا يسيطر على عدة وزارات قد يعتمد على خبرائه الفنيين في تسيير المصالح التي لاتهه مباشرة، غير ان جد حريص على ان يشرف وحده على كل مصلحة تمس النظم الاقتصادية العامة والاصلاحات الاجتماعية الفاشيستية.
ولعلك اذا سألته عن اعظم عمل ادته حكومة الفاشيست في سنيها العشر لاجابك بانه منح العمال حقوقهم وتكوين الدولة على اس التعاون.
وهنا لا بد ان يتجه الفكر الى المقارنة بين تجارب اقتصادية ثلاث تميز بها العصر الحاضر: (اولا) التجربة الامريكية التي ترمي الى تعلية اجور العمال حتى يرتقي مستوى معيشتهم ويزيد استهلاكهم للمنتجاب (ثانيا) التجربة البلشفية التي تقوم على وضع السلطة العليا في ايدي الطبقة الفقيرة العاملة (ثالثا) التجربة الفاشيستية التي توفق بين رخاء البلاد وبين مصلحة العمال وارباب الاعمال جميعا. ولا شك ان التجربة الاخيرة اصلحها جميعا واقربها الى المصلحة العامة غير انه لا يمكن الحكم عليها بانصاف وهي تجري تحت الدكتاتورية بل لا بد من معرفة سيرها في عهد حكومة حرة كذلك، غير ان الفضل لموسوليني في ابتكار هذه التجربة وهي تدل على انه اكثر اهتماما برخاء الشعب واشد اتصالا بالبطقة العاملة الفقيرة مما يظن به.
وهو لا ينسى قط انه نشا من الشعب ولذا لا يضن عليه باي عطف وعون وكثيرا ما يصرح في خطبه بذلك حتى يبيت كبار رجال الصناعة خائفين على مصالحهم من تلك النزعة الاشتراكية المتزايدة في نفس الدكتاتور.
وقد حدث منذ عام ان ساءت حال (البنك التجاري) من جراء الازمة الاقتصادية العامة، وهو البنك الذي يسيطر على عدد من الصناعات الكبرى في ايطاليا فانتهز موسوليني هذه الفرصة وحول ذلك البنك الى بنك حكومي باسم instituto mobiliare italiano وبذا ضمن لحكومته السيطرة على الحركة الصناعية وحقق بخطوة واحدة ما قضت حكومة السوفييت الروسية سنوات عديدة في انفاذه وليس ذلك العمل إلا مثالا على الاشتراكية الحكومية التي كان يدين بها في شبابه.
وكذلك منطقه ايضا في سياسته الخارجية فانه لم يرع فيها الا عظمة بلاده وتبوؤها المكان الذي يتمناه لها بين دول العالم، وليست تقلبات سياسته تبعا للظروف والاحوال إلا وسيلة يتخذها لبلوغ هذه الغاية. فهو حين كان يمتدح الحرب كان يقصد ان يبث في نفوس امته روح النظام والتضحية ويقوي لديها الشعور بقوميتها. ثم انه لما مال الى السلم حتى بعث برسالته السلمية المشهورة الى الامة الامريكية يوم اول يناير سنة 1931 قصد من السلم وتخفيض السلاح ان يمكناه من تحقيق الاصلاحات الاقتصادية الداخلية التي هي جزء لا ينقصم من برنامج الفاشيست.
وبمثل ذلك ايضا يبرز موقفه من الملك فقد كان يعارضه حين حسب ان الملكية عائق في سبيل خطته ولكنه غير مسلكه لما راى ان الملكية تعاونه على غايته. كذلك الحال في مسلكه ازاء البرلمان فقد حاول في مبدأ الامر ان يحكم البلاد بواسطة برلمان انتخبته الامة وبواسطة وزارة ائتلافية كانت لا تشمل سوى اربعة وزراء من الفاشيست ولكنه لم يلبث حتى ابدل من تلك الوزارة وزارة فاشيستيه بحتة ومع هذا لا يبعد ان يعود الى النظام البرلماني الصحيح خصوصا ان المعارضة الخارجية للفاشيستية قد محيت تقريبا ولقد بدت في قلب الحزب الفاشيستي نفسه ميول الى الديمقراطية ونظمها. ولا تنس ان موسوليني رجل يتبع الظروف والاحوال ويطبق خطته عليها.
وقد اجتمعت في موسوليني شخصيتان، الاولى شخصية رمز الاماني والدكتاتور الحاكم بامره وقد نجح في ذلك نجاحا باهرا ويكفي انه عرف كيف يوفق بين الاوتوقراطية وبين فكرة التقدم الصحيح. اما شخصيته الثانية كرجل فقد شهدته في مكتبه بقصر فنسيا فالفيته الرجل الرزين الواثق من نفسه الذي لا يحسب ان هناك رأيا يعتد به غير رأيه ولكني رأيته كذلك في ظروف اخرى هائجا يضرب المكتب بقبضتين ومع هذا فلن تجد مثله في بساطته وانسانيته.

كل شيء والعالم/
تشرين الثاني- 1932