اول حديث صحفي مع صديقة محمد فريد الفرنسية

اول حديث صحفي مع صديقة محمد فريد الفرنسية

"نونردام دي باريس"ترتفع شامخة بابراجها في قلب منطقة يحكي فيها كل حجر مشاهد تاريخية بعضها مليئ المأسي والالام والبعض الاخر بالمجد الافراح، اننا في شارع"كلواتر نونردام"الذي يغطي نصفه ظل جدران الكندرانية الشامخه، الشارع يضج بالحركة، اناس من جميع الاجناس يتكلمون كل يوم عشرات الاتوبيسات التي اصطفت على جانبي الطريق في انتظارهم،

البيوت متلاصقة ومتشابهة، شرفة صغيرة في الدور الاول من احدى هذه البيوت تلفت النظر. فهي الوحيدة التي تحلت بزهور زاهية الالوان وكأن صاحبتها ارادت ان تؤكد ان حيطان بيتها تضم ذكريات تاريخية غريبة عن تاريخ المنطقة.
ولكن من هي صاحبة هذا البيت ذي الشرفة المملوءة بالزهور!

كانت"رينية"لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها عندما قابلت محمد فريد في اكتوبر 1909 في باريس. ومنذ هذه اللحظة ارتبط مصيرها بمصير المناضل المصري، مات بعد لقائها به بعشر سنوات تلاقيا خلالها مرارا وتراسلا بانتظام عندما كانا يفترقان، اما هي فقد عاشت في ذكراه طيلة الخمسين عاما التي جرت منذ وفاته تدون مذكراتها (التي سننشرها عن قريب) وترعى بمثابتها كل الذكريات التي تركتها تلك الفترة الغنية بالاحداث التاريخية فاصبح بيتها كمتحف صغير، تحكى كل قطعة فيه قصة او تذكر بحدث كان جزءا من فترة هامة من تاريخ مصر الحديث.
جاوزت الثمانين ولكن حيويتها وقوة ذاكرتها وحضور بديهيتها يحسدها عليها ابناء الاربعين. فهي تعمل من الثامنة صباحا الى الثامنة مساء، جرس التليفون يدق باستمرار وترد هي عليه لتعطي تعليماتها الى مساعديها الكثيرين، وتظل طول اليوم مشدودة بين المهندسين والمحامين والمساهمين، ورغم ذلك فان هذا الجهد لا يمنعها من ان تكتب رسائلها على الالة الكاتبة بنفسها، هي جاوزت الثمانين ولكنها تدير مشروعا ضخما لانشاء حي حديث باكمله من مساكن ومحال وحدائق خارج باريس، انها تديره بنجاح وحزم جعل اكبر البنوك لا تتردد في اقراضها الاموال اللازمة لمثل هذا المشروع الضخم.
وامام مكتبها وفي ظلال شفتها وزهورها فتحت لنا هذه المرأة متحفها الصغير قبل ان تفتح لنا قلبها.
س: من انت!
ج: اني فرنسية صميمة، ولكني ولدت في الارجنتين 1888 حيث كان والدي يملك عدة مصانع لتكرير السكر، قضيت طفولتي هناك في احضان طبيعة خلابة محاطة بعناية والدتي الوديعة وشخصية والدي الفذة.
فكم اثرت على خيالي قصص اسفاره العديدة وكفاحه، في روسيا، في بيرو، في اليونان، في الجوادلوب.
توفيت والدتي وكنت في الثانية عشرة من عمري ولم يتحمل والدي البقاء في الغربة – مع اولاده الخمسة – بدونها، فرجعنا الى فرنسا، كانت المعيشة في احد الاقاليم الفرنسية قاسية، فرغم ان منزل جدي كان رحبا، فقد شعرت فيه بالاختناق، افتقدت الحياة وسط الطبيعة، وبين عمال مصنع ابي البسطاء وطيبتهم الفطرية. قرأت كثيرا في طفولتي وكنت اشعر دائما باني في حاجة الى ان املي ارادتي وافرش قيادتي، كانت عزة نفسي وكبريائي تفوقان الحد، ولكن الايام هدأت الكثير من حدتي واندفاعي.
كان عمري 16 سنة عندما طلب مني المدرس ان اقدم بحثا عن حياة الرسول"محمد"(ص). لم اكن اعلم شيئا عن الموضوع، ولكن ما ان بدأت اقرأ عنه حتى اندمجت تماما في الموضوع، كم اعجبت بهذا الرجل الذي لم يكن قد تجاوز الاربعين واستطاع ان ينقل الى امة باكملها، ايمانه الشديد وظللت اقرأ، وكنت كلما قطعت شوطا كبيرا في البحث يزداد اعجابي ويتحول الى شغف، وحصلت على احسن تقدير، انها كانت نقطة التحول في حياتي، والتي دمغت كل مستقبلي، فقد اكتشفت الاسلام والشرق، ومن يومها وكراستي التي قدمت فيها البحث وانا لم تفارقني، حملتها الى كل مكان ذهبت اليه، استبشر به.
س: كيف تعرفت على محمد فريد؟
وتسبح بخيالها بعيدا من خلال نافذتها وكأنها تبحث بنظرها عن المكان الذي تقابلا فيه لاول مرة:
ج: تعلقي بالشرق وبالاسلام قاد قدمي الى مدرسة اللغات الشرقية، بجانب دراستي في السربون. كان الشرق قد بدأ ينهض لينفض العبودية والاحتلال، فاقنعت ناشرا شابا اسمه"برنارد جراسيم"(اصبح فيما بعد من اشهر الناشرين الفرنسيين) بانشاء مجلة سميناها"لاروفو دوريان"، وبعد ذلك، بالتعاون مع جماعة من اصدقاء الشرق والاسلام، انشأنا جمعية سميناها"الحلقة الشرقية"، انضم الينا كثير من الشباب الشرقي المثقف من هنود واتراك وايرانيين وعرب ومصريين، وقمنا بنشاط كبير في المجلة والحلقة، وفي شهر اكتوبر 1959 مر محمد فريد، رئيس الحزب الوطني المصري بباريس ليبقى فيها ثلاثة ايام وطلب من احد الطلبة المصريين ان يعرفه على مديرة مجلة"الاوريان"فقد سمع عن المجلة وارادها ان تهتم بمصير مصر التي كان يحتلها الانجليز.
وتسرح مرة ثانية بخيالها وتسألني هل تعرفين من هو الشاب المصري الذي قدمني لفريد؟
انه شفيق منصور الذي قتل"سير لي ستاك"في عام 1924 وشنق بعد ذلك.
س: كيف كان اول لقاء لك مع محمد فريد؟
ج: اعتقد اني احببته من اول مة قابلته فيها. كان انيقا ولكن ببساطة، كانت عيناه ضاحكتين ولم تكن بهما هذه اللمسة الحزينة التي كنت اراها في عيون الشرقيين عادة، كان يتكلم الفرنسية بطلاقة ويعرف كل دقائقها، شرح لي بحيوية شابة وحماس متدفق الظلم الواقع على وادي النيل نتيجة للاحتلال البريطاني منذ 27 عاما، كنت ارتدي ثوبا ابيض، لاحظت الدهشة على وجه فريد عندما وجدني شابة فقد كنت لم اتجاوز الثانية والعشرين من عمري، كان يتوقع ان تكون مديرة المجلة طاعنة في السن، وقد زاد من دهشته اني كنت استمع الى حديثه في شوق وتفهم كبير لكل المشاكل التي كان يتحدث عنها.
منذ تلك اللحظة استولى كل منا على قلب وعقل الاخر، وكان في ذلك بالنسبة لي بداية حياة كرستها لقضية واحدة، هي التي كرس لها هو حياته، قضية تحرير مصر من الاحتلال البريطاني، لقد اعطيتها كل نفسي.
س: منذ تلك اللحظة ظللتما على اتصال دائم اما بالمقابلة او بالمراسلة فما رايك في محمد فريد كرجل سياسي وزعيم؟
ج: كانت افكاره حول استغلال الرأسمالية لطبقات الشعب (كان دائما يعطي كمثل لهذا القطن المصري الذي ينسج في انجلترا ثم يباع للفلاح المصري) تتقارب كثيرا مع افكار اصدقائي الروس الذين كانوا يكلموني دائما عن فلاديمير لينين الساكن في الحي الرابع عشر في باريس والذي كان يجتمع بهم في حديقة"بارك مونوري"ليحدثهم عن الظلم الاجتماعي، وقد حضرت عددا من هذه الندوات بصحبة عدد من المصريين، ولكن فريد كان يختلف عن هؤلاء الروس بانه كان يحترم شرعية السلطة الحاكمة رغم انه كان يعرف ان الحاكم غير مخلص، اعتقد انه لم يكن عنده الاستعداد الفطري لاقامة التنظيمات التي تقلب الوضع بالقوة واسالة الدماء، والذي اضطر من جاءوا بعده الى اللجوء اليها، محمد فريد كان يضع كل امله في الشعب وكان يجري وراء كل ما يساعد على ان يطور هذا الشعب ويقدمه ويحاول ازالة كل العقبات امام هذا التطور، ككان لا يقبل ان يهان انسان في اعز ما عنده وهي الكرامة وعزة النفس وحريته وكان يدافع بحماس عن عقائده، ويظل يدافع عنها ولو دفع ثمن ذلك حياته، كم كان يحب مصر!
س: مارأيك في الخديوي عباس وشعوره نحو مصر؟
ج: اعتقد انه كان في بادئ الامر مخلصا لمصر، وللحركة الوطنية وكان فعلا يحب فريد (عندما كنت في تركيا وفريد في مصر اثناء محاكمته، ولما كنت في ازمة فقد خصص لي مرتبا شهريا ولكنه تحول وبدا يتقرب للانجليز ثم اكتشف ان الانجليز لايساندونه.. كان متقلبا.
س: يقال انه كانت له عشيقات كثيرات.
ج: لا اعتقد ذلك انه من النوع الذي اذا احب امرأة اخلص لها، ربما كانت له عشيقات كثيرات قبل مدام لوزانج، ولكنه حين تعرف عليها عن طريق احد معاونيه احتفظ بها حتى آخر ايامه، رغم انها لم تكن على قدر كبير من الجمال، كانت نحيفة وصغيرة الجسم ولكن كان يقال عنها انها امرأة خطيرة تعمل لحساب المخابرات الانجليزية رغم ان جنسيتها فرنسية.
س: هل احببت بعد فريد؟
ج: لا انه الشخص الوحيد الذي احببته في حياتي، لقد تزوجت في عام 1922 من شخص يعرف كل قصتي شرطه الوحيد قبل الزواج ان امتنع نهائيا عن الاهتمام بالشرق وبكل ما يتعلق به، لقد نفذت وعدي ومات زوجي في عام 1944.
س: هل انجبت منه اطفالا؟
ج: لا.. فقد كان اتفاقي معه قبل الزواج الا ننجب اطفالا، ربما كان في ذلك رغبة مني بان اثبت ان فريد هو حبي الوحيد.
س: كيف كانت ايامه الاخيرة؟
ج: في 19 اكتوبر 1919 حصلت بكل صعوبة على تصريح للدخول الى سويسرا لزيارة فريد، ولم يعطوني تصريحا الا لثلاثة ايام فقط، وبعد ان خرجت من غرفته، قالت لي الممرضة انه لا يوجد اي امل في شفائه، قضيت الايام الثلاثة بجانبه ولم استطع ان ابقى اكثر من ذلك. آخر خطاب منه كان بتاريخ 8/11/19 يعدني فيه بان يكتب لي كثيرا وبانتظام ويطلب مني ان ابعث له اجزاء"مذكراتي"التي انتهيت منها ليراجعها، كنت اعلم انه انتهى ولكن هو لم يفكر دقيقة في الموت، كان ايمانه بالحياة وبالمستقبل قوى جدا، ترك سويسرا وذهب الى برلين حيث توفى، وقد علمت بالنبأ من احد اصدقائه واسمه"مذكور".
كم تألمت عندما ذهبت الى مصر في عام 1955 ووجدت ان فريد يرقد في مقبرة لا تتناسب مع شخصيته التاريخية واعربت عن المي هذا الى مجلس الثورة، فامر الرئيس عبد الناصر بنقل رفاته الى جانب مصطفى كامل.
وتنهض بحماس وتذهب مرة اخرى الى الدرج الذي تحتفظ فيه باثمن ما عندها، وتخرج ورقة عليها نوتة موسيقية لكي تعبر عن شكرها للرئيس عبد الناصر فقد كتبت كلام اغنية وطلبت من موسيقار فرنسي ان يضع اللحن واهدت هذه الاغنية الى ناصر، ثم تفتح لي البوما من الصور اخذت اثناء زيارتها لمصر في ذلك الوقت، وتشير بكل فخر الى توقيع جمال عبد الناصر على احدى هذه الصور، انها صورة توقيع معاهدة الجلاء، تتصدر القاعة التي تم فيها توقيع الاتفاقية صورة كبيرة لمحمد فريد.
* واحدتها عن مذكراتها وعن موعد نشرها، فقد كتبتها اولا باول، وراجعها فريد وهي تحوي كثيرا من اسماء الاشخاص الذي لعبوا دورا هاما في الحركة الوطنية.
س: واسالها لماذا لم تدفعي بها الى الناشرين حتى الان؟
ج: انتظرت مرور 50 عاما على وفاته لكي تصبح كل رسائله التي كتبها لي ملكا لي، لا يطالبني احد بحقوق نشرها ولا يعترض احد على نشرها.
ان هذه المذكرات سوف تسلط ضوءا جديدا على هذه الفترة من تاريخ مصر، الذي لعبت فيه عزيزة دي شونيرون"اسمها الصحفي، انتحلت اسم عزيزة لتعلقها بالاسلام واخذت اسم والدتها دي شونبرون!!

المصور/ تشرين الثاني- 1969