صفحات مطوية من احداث اول انقلاب عسكري في تاريخ العراق..دور حكمت سليمان في تطورات يوم  الانقلاب

صفحات مطوية من احداث اول انقلاب عسكري في تاريخ العراق..دور حكمت سليمان في تطورات يوم الانقلاب

د. عكاب يوسف الركابي
اقتصرت اتصالات، جماعة الاهالي، بالعسكريين، على، حكمت سليمان، الذي استمر في اتصالاته، بالفريق بكر صدقي، قائد الفرقة الثانية، واخذا يعدان لإزاحة وزارة، ياسين الهاشمي، بانقلاب عسكري، بحذر وخوف ٍ من الرقابة، حتى ان، بكر صدقي، قطع اتصالاته مع الجماعة، لانهم اصبحوا هدفا ً للرقابة.

تهيأت الفرصة لتنفيذ، الانقلاب، فقد غادر، رئيس اركان الجيش، الفريق الاول، طه الهاشمي، الى تركيا في تشرين الاول 1936، منيبا ً عنه، بكر صدقي، كأقدم ضابط، كما اعطت مناورات الخريف للجيش العراقي، التي ستقام في 3 من تشرين الثاني، في المنطقة الواقعة، بين خانقين [ في محافظة ديالى ] وبغداد، الفرصة، لحشد معظم الجيش العراقي خارج العاصمة.

وفي 23 تشرين الأول 1936، فاتح، بكر صدقي، الفريق عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى، لغرض، أقناعه، بالاشتراك، في حركة الانقلاب، لكونه قائد الفرقة الأولى المدافعة عن بغداد، وكان الاخير، في حالة من اليأس، وذلك لعدم، حصوله على العناية اللازمة، والمساعدة الكافية من الحكومة لمعالجته من مرضه، كما فاتح، بكر صدقي، صديقه الحميم المقدم الطيار، محمد علي جواد، قائد القوة الجوية، وعددا ً قليلا ً من الضباط الآخرين.
وبعد موافقة، عبد اللطيف نوري ومن فاتحهم، بكر صدقي، اجتمع، نوري، وبكر، في يوم 25 تشرين الاول 1936، في مقره الاول بوزارة الدفاع، واتفق الاثنان على تفاصيل خطة الانقلاب.
وفي حديث صحفي، لحكمت سليمان، نسب لنفسه، وضع الخطة العسكرية لأسقاط، الوزارة الهاشمية، قائلا ً: ((ان رئيس الوزراء، ياسين الهاشمي، فشل فشلا ً تاما ً، ولم تكن هناك وسيلة للتخلص منه، لان البرلمان كان يتألف بأكمله من أنصاره، ولذلك كان الجيش هو الأمل الوحيد، وقد طلبنا الى الجيش بعد ان وضعنا الخطة له، تنفيذ هذا الواجب في ثلاثة أيام، ولكنه اتم ذلك في اقل من، ثلاث ساعات)).
بالرغم من تصريحات، حكمت سليمان، التي يؤكد فيها على انه هو الذي بادر الى القيام بوضع، خطة الانقلاب العسكري، فانه، لا يمكن الأخذ بصحة ذلك، اذ انه، لم يكن ملما ً بالقضايا العسكرية، ولكن يمكن القول من جهة أخرى، ان فكرة القيام، بحركة انقلابية للإطاحة بالوزارة الهاشمية كانت، من وحيه ومبادرته، فهو مهندس الانقلاب، وهو الذي جلب، بكر صدقي، الى الحلبة، لذلك من الخطأ ان يعرف انقلاب عام 1936، بـ ((انقلاب بكر صدقي)) واما وضع الخطة العسكرية وتصميمها، فهو من عمل، بكر صدقي، بالتعاون مع، زميله الفريق، عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى، بالاتفاق، مع كبار الضباط، الذين اعتمد عليهم.

وفي الوقت الذي كان فيه، بكر صدقي، يقوم بأعداد الخطة واطلاع الضباط عليها، اجتمع، حكمت سليمان، بجماعة الأهالي قبيل الانقلاب، بيومين او ثلاثة، في دار، كامل الجادرجي، وفي هذا الاجتماع، اخبر، الجماعة، بان، بكر صدقي، وعبد اللطيف نوري، اتصلا به أي – حكمت – واخبراه بتفاصيل الخطة وموعد الزحف، الذي سيكون يوم 29 تشرين الأول 1936، وفي الاجتماع نفسه، اعد، حكمت، وجعفر ابو التمن، وكامل الجادرجي، ومحمد حديد، البيان الأول، الذي سيوزع على الشعب ويوقعه، بكر صدقي، كقائد (للقوة الإصلاحية الوطنية)، وهو الاسم الذي اصطلح على القوة التي تنفذ الانقلاب، والبيان الثاني، الذي سيوقعه، بكر صدقي، وعبد اللطيف نوري والذي سيقوم، حكمت سليمان، بتقديمه الى الملك.

((أشار البيان الأول الموجّه الى الشعب العراقي، الى ان الجيش قد نفذ صبره من سياسة الحكومة الحالية واهتمامها بمصالحها، دون الاهتمام بمصالح الشعب، لذلك طلب من الملك، إقالة الوزارة، وتأليف وزارة جديدة، برئاسة، حكمت سليمان، المعروف بمواقفه المشرفة، وجاء في البيان، ان الغاية من هذا الطلب، هو تحقيق، رفاه الشعب، وتعزيز كيان البلاد، وطلب البيان، تأييد الشعب ومعاضدته لرجال الجيش، وقادته بكل ما اوتي من قوة، ثم دعا البيان الموظفين، الى مقاطعة الحكومة ودواوينها ريثما يتم تشكيل الوزارة الجديدة، وهدد بأن الجيش، ربما يضطر لاتخاذ تدابير فعّالة، قد تسبب الضرر لمن لا يلبي هذه الدعوى)).
أرسل، حكمت سليمان، البيانين الى، بكر صدقي، وقام الاخير بزيارة، عبد اللطيف نوري، الذي كان معسكره في الروز (احد فروع نهر ديالى) في 27 تشرين الأول 1936، واستعرضا الموقف والترتيبات اللازمة، وقاما بتوقيع البيانين وطبع نسخ عديدة من البيان الأول لتوزيعها، وجرى في الاجتماع نفسه، مناقشة، التشكيلة الوزارية التي ستتألف بعد نجاح الانقلاب، ويذكر البعض ان، حكمت سليمان، كان ينوي اشراك، نوري السعيد، في وزارته، ليأمن جانب الانكليز، فصرفه، كامل الجادرجي، عن ذلك.وكان، حكمت سليمان، يريد ايضا ً، إدخال، جميل المدفعي، وناجي شوكت، ونصرت الفارسي، في وزارته، ولكن هؤلاء اعتذروا، عن الاشتراك، ويبدو انهم تخوفوا من عدم نجاح الانقلاب.ويبدو مما تقدم ان، حكمت سليمان، وجماعة الأهالي، قد ناقشوا في اجتماعاتهم، كل عوامل نجاح الانقلاب، فوضعوا له الخطط اللازمة، فيما عدا، الفشل الذي لم يضعوا أي خطة لمواجهته، على ما يبدو.
وفي 28 تشرين الأول 1936، أي قبل موعد الانقلاب، بيوم واحد، عُقد اجتماع جديد في منزل، العقيد شاكر الوادي، بحضور، حكمت سليمان، وعبد اللطيف نوري، ومحمد علي جواد، ونوقش في هذا الاجتماع، اخر الخطط العسكرية، كما سلمت المناشير المراد توزيعها في يوم الانقلاب، كذلك تقرر، الاتصال ببعض الضباط والايعاز لهم بالالتحاق بوحدات الجيش، التي تزحف الى بغداد.
ويتضح مما تقدم ان، حكمت سليمان، قد رافق مراحل تنفيذ الانقلاب كما يرافق الظل صاحبه، فلعب الدور الخطر والدقيق، للتنسيق بين ضباط الجيش، والمدنيين.

وفي يوم 28 تشرين الأول 1936، قام عبد اللطيف نوري بزيارة بغداد، ليرى، مدى تسرب أخبار الحركة، وقد اجتمع مع، حكمت سليمان، وسلّمه الرسالة الموّجهة الى الملك، والموّقعة من القائدين، لكي يقوم بتسليمها اليه في يوم الانقلاب، كما سلّم عددا ً من، الضباط، الموالين للحركة، كمية من نسخ البيان الاول لتوزيعها على الناس في يوم الانقلاب.

حدد موعد حركة الانقلاب في 29 تشرين الاول 1936، فابلغ، حكمت سليمان، جماعة الاهالي، بالموعد المقرر، حيث عقدوا اجتماعا ً داره عشية يوم الانقلاب، لمناقشة مهماتهم في صباح اليوم التالي، وكان، به، رئيس الوزراء السابق، دُعي للحضور من قبل الجماعة، لكنه لم يستطع حمل نفسه على التعاون مع خصومه السياسيين فلم يحضر وطلب، حكمت سليمان، من، جعفر أبو التمن، محاولة الاتصال بجميل المدفعي مرة أخرى، وإخباره بالخطة السرية، لكن جعفرا ً أراد ان يكون اكثر حذرا ً، فلجأ الى التنويه والتلميح فقط الى الانقلاب بطريقة يبدو ان، المدفعي، لم يفهم المقصود منها.
وفي الساعة السادسة من صباح يوم 29 تشرين الاول 1936، عقد، حكمت سليمان، اجتماعا ً في داره بحضور، جماعة الأهالي، وحضره، ايضا ً، جميل المدفعي، بناءً على دعوة ٍ وجّهها اليه، جعفر ابي التمن، اثناء زيارته له في الليلة السابقة، فابلغهم، حكمت سليمان، ان الانقلاب سيتم، خلال ثلاث ساعات، بناء ً على الخطة الموضوعة من قبل، بكر صدقي، وعبد اللطيف نوري، ثم جرت مناقشات حول التدابير الواجب اتخاذها في ذلك اليوم، ريثما يصل الجيش الزاحف الى العاصمة.
بعد انفضاض الاجتماع، ذهب، حكمت سليمان، الى دار صديقه، رؤوف الجادرجي، المستشار القانوني لشركة نفط العراق، والذي كان صديقا ً حميما ً، لياسين الهاشمي، وحاول سابقا ً أقناع الاخير، بالاشتراك في الوزارة الهاشمية، وقد جددّ رؤوف طلبه السابق، من، حكمت سليمان، الموافقة على الاشتراك في الوزارة، لكن، الاخير، سخر من حديث صاحبه، وقال له منفعلا ً ما نصه: ((ياسين يريد يحكم المملكة عشر سنين فلماذا يحاول استرضاء المعارضة)) ثم بادر – بعد ان رأى طائرات القوة الجوية، تحلق في سماء بغداد، ايذانا ً، ببدء الانقلاب - الى توديع صاحبه، قائلا ً ((ياسين يريد يحكم المملكة عشر سنين والله يا بيك ما يحكمها عشر ايام ولا عشر ساعات ولا حتى مدة عشر دقائق)).
ذهب، حكمت سليمان، الى القصر الملكي لتقديم رسالة الجيش الى الملك، وسلّم الرسالة ((التي اطلق عليها اسم رسالة الجيش)) الى رئيس الديوان الملكي، رستم حيدر، في قصر الزهور وطلب منه إيصالها الى، الملك غازي، ثم غادر القصر.
وفي الوقت نفسه، الذي كانت فيه القوات البرية تزحف بأتجاه العاصمة، شرعت، بعض طائرات القوة الجوية، التي ظهرت في سماء بغداد، بقيادة قائد القوة الجوية، المقدم الطيار، محمد علي جواد، بالقاء البيان المذكور على الجمهور، وفي الساعة العاشرة صباحا ً، من يوم 29 تشرين الاول، ناقش الملك، غازي، الوضع مع، السفير البريطاني السير ارشيبالد كلارك كير، بحضور كل من، ياسين الهاشمي، ونوري السعيد، وزير الخارجية، ثم حضر بعدهم بقليل، جعفر العسكري، وزير الدفاع، وقد اخبر،
ياسين الهاشمي، الحاضرين، بانه تحدث بقسوة، على الهاتف، مع، بكر صدقي، وان، صدقي، ابلغه بان تحركات الجيش، كانت تجري بمعرفة وموافقة، الملك غازي، الامر الذي انكره الملك بشدة، وعندما نصح، ياسين، الملك بمقاومة، الانقلاب العسكري، أجاب الاخير، بانه قد يستطيع معالجة الوضع اذا ما استقال، هو من الوزارة.

كما كان، نوري السعيد، يميل ايضا ً الى مقاومة، الانقلاب العسكري، عن طريق، تدخل السفارة البريطانية المباشر، من اجل إحباط الحركة الانقلابية، الا ان السفير، آرشيبالد كلارك كير، رفض ذلك، باعتبار ان الانقلاب حركة داخلية، فيما تنص بنود معاهدة التحالف، لسنة 1930 على التدخل البريطاني في حالة وقوع، اعتداء خارجي.

وكمحاولة أخيرة، اقترح، ياسين الهاشمي، على، الملك غازي، ضرورة استدعاء، حكمت سليمان، لمناقشة الوضع، حيث كان الاخير موجودا ً، في غرفة رئيس الديوان الملكي، لتقديم رسالة، بكر صدقي الموجهة الى، الملك، والتي طالب فيها، بأستقالة وزارة، ياسين الهاشمي، وتعييـن وزارة برئاسته خلال، ثلاث ساعات، وعندما دعا، رستم حيدر، حكمت لمقابلة، الملك، رفض وأنصرف، ويبدو رفضه لهذه الدعوة، التي جاءت عن طريق، ياسين الهاشمي، ربما لخشيته انه لو دخل بدون دعوة، الملك، ستقوم مجادلة، بينه، وبين، الهاشمي، وليس من ورائها طائل، بعد ان حسم أمره مع العسكر، بان يحل محل، الهاشمي، وهذا واضح في الكتاب الذي سلّمه، وليس ثمة مناقشة فيه ولهذا رفض هذه الدعوة، اما، ياسين الهاشمي، فلم يكن له خيار غير ان يستقيل بعد ان وجد ان، الملك، كان مترددا ً في مقاومة، الانقلاب العسكري، فقدم، استقالته التي وافق الملك عليها فورا ً وفي الساعة السادسة مساء ً، يوم 29 تشرين الاول 1936 فوّض الملك غازي شفويا ً، حكمت سليمان، بتأليف وزارة جديدة، لكن الأخير طالب برسالة رسمية خطية موجهة اليه من، الملك، وحين بين رئيس الديوان الملكي، رستم حيدر، بان مثل طلبه هذا، لم تكن له سابقة في العراق، غادر، حكمت سليمان، قصر الزهور، وقابل، جعفر ابو التمن، الذي ايّد مطلبه، على أساس ان تأليف وزارة في تلك الظروف، يستوجب دعوة خطية، من، الملك، ليجعل منه اجراء ً دستوريا ً. والحقيقة ان رفض، حكمت سليمان، تشكيل الوزارة دون استقالة، ياسين الهاشمي، خطيا ً وتفسيره ان ذلك لربما، لعبة دستورية لاصطياده ولكسب الوقت، لتحشيد ما يستطيع، الهاشمي، من قوات لمواجهة الانقلاب، له ما يبرره، فالوزارة الهاشمية، كانت تستعد فعلا ً، للمقاومة، فقد كان، رشيد عالي الكيلاني، وزير الداخلية، الذي لم يغادر مقر عمله، على اتصال، بالمتصرفين الموالين للحكومة، والطلب اليهم، بان يمدوا الحكومة بالمساعدة ويستعينوا بالعشائر، بعد ان استنفر قوات، الشرطة، وفكر بنقل العاصمة للاستمرار في المقاومة وكذلك وجهت برقيات الى القوات على الحدود بان تتحرك الى بغداد، واستدعى وزير الدفاع، جعفر العسكري، قبل ان ينضم الى محادثات قصر الزهور، بعض الضباط وامرهم، بأرسال رسائل الى قادة القوات، المتوجهة الى بغداد، يستحثهم على، سحب انفسهم من الحركة، وفي الوقت نفسه، أوعز الوزير، بجمع اكبر عدد ممكن من، القوات داخل العاصمة .
ومهما يكن من امر، فقد أخذت قوات الجيش تواصل، زحفها باتجاه العاصمة بقيادة الفريق، بكر صدقي، حيث دخلتها في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الانقلاب، وعندها عهد الملك خطيا ً الى، حكمت سليمان، برئاسة الوزارة الجديدة، على، ان يفحص الموقف ويوافيه برأيه عاجلا ً، اعقبه – الملك – بكتاب التكليف الذي طلب فيه من، حكمت سليمان، انتخاب وزرائه.

عن رسالة
(حكمت سليمان ودوره في السياسة العراقية)