قراءة في أوراق فلسفية...جون لوك بين فلسفة العقل وحرية الفكر

قراءة في أوراق فلسفية...جون لوك بين فلسفة العقل وحرية الفكر

خضر عواد الخزاعي
جون لوك (1632 - 1704) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي ولد في عام 1632)) في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد.
لقد كان عصر جون لوك هو عصر الأصوليات المتعصبة وكان أتباع البابا أي الكاثوليك يكرهون جدا أبناء المذهب المسيحي الآخر أي المذهب البروتستانتي الذي ينتمي إليه

هو شخصيا كمعظم الإنجليز وكانوا يتهمونهم بالهرطقة والزندقة ولكن لسوء حظ الكاثوليك فإن عدد البروتستانتيين في إنجلترا كان أكبر منهم بكثير وذلك على عكس فرنسا.

وقد درس جون لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية لأنهما كانتا لغتي العلم والفلسفة في ذلك الزمان كما درس فلسفة أرسطو في مدرسة ويستمنستر بين عامي 1646 - 1652 ثم أصبح محاميا في مدينة أكسفورد ومعلوم أنه كانت توجد آنذاك منافسة كبيرة بين كمبردج وأكسفورد وكلتاهما مدينتان جامعيتان من أعلى طراز فالأولى كان يسيطر عليها أتباع أفلاطون والثانية أتباع أرسطو وكان الصراع بين الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطوطاليسية أخترق تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره سواء في العالم الأوروبي أو في العالم العربي الإسلامي فالأفلاطونية كانت مثالية أو روحانية جدا وأما الأرسطوطاليسية فكانت واقعية أو مادية عموما وقد أنعكس ذلك على الفلسفة العربية الإسلامية ذاتها فأبن رشد مثلا كان واقعيا من أتباع أرسطو وأبن سينا كان مثاليا أستاذه أفلاطون.

نظرية جون لوك في العقل والحس:

لا ينشغل لوك بفحص الذهن البشرى ذاته من حيث تركيبه العضوى أو من حيث العمليات العقلية التي يقوم بها بل ينطلق مباشرة نحو فحص عناصر المعرفة في الذهن البشرى من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات وهو يذهب إلى أن لكل الأفكار أصلها في الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقى الأنطباعات والإدراكات والأفكار عنده هي ما يشكل كل المعرفة الإنسانية ولذلك ينطلق نحو البحث في (كيفية حضورها للذهن) ولا يجد سبيلاً تأتى به الأفكار إلى الذهن البشرى إلا عبر الإدراكات التي مصدرها الحواس ولأن لوك قد رفض نظرية الأفكار الفطرية فقد ذهب إلى أن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجريبية وعلى الرغم من ذلك فقد تمسك بمعنى واحد فقط للفطرية فليست الأفكار هي الفطرية عنده بل ملكات الذهن من تذكر وتخيل ودمج بين الأفكار وبعضها وكذلك الرغبة والإرادة.
1- تنقسم الأفكار البسيطة عند جون لوك إلى أفكار تأتى من حاسة واحدة مثل الألوان التي تأتى من حاسة البصر والسخونة والبرودة والنعومة والخشونة التي تأتى من حاسة اللمس والروائح التي تأتى من حاسة الشم والأصوات التي تأتى من حاسة السمع وألأفكار تأتى من أكثر من حاسة واحدة مثل المكان والامتداد والشكل والسكون والحركة ذلك لأننا ندرك المكان من حاستى البصر واللمس بأفكار تأتى من الانعكاس على العمليات الذهنية(reflection) وهو تفكير العقل في أفكاره التي حصل عليها من الإدراك الحسى فعندما يتأمل العقل في الكيفية التي يتعامل بها مع الأفكار يدرك أنه يقوم إما بإدراك حسى أو استدلال أو حكم أو تمييز وتفريق ومقارنة أو تذكر.
2 - أما الأفكار التي تأتى من الإحساس والانعكاس معاً فهي اللذة والألم لأنهما يبدآن بإدراك حسي معين يتبعه شعور بالارتياح أو عدم الارتياح يأتي من الانعكاس على ما تلقته الحواس وكذلك القوة إذ بعد أن يلاحظ العقل تأثير جسم ما على أجسام أخرى يدرك أن فيه قوة على هذا التأثير والتتابع أيضاً succession))لأن العقل بعد أن يستقبل إحساسات معينة يلاحظ ما بينهما من علاقة تتابع أي أنها تتبع بعضها البعض ويكون بعضها قبل بعض أو بعد بعض.

3- ويذهب لوك إلى أن الأفكار البسيطة في العقل تقابلها صفات في الأجسام بمعنى أن العقل يستقبل من الأجسام صفاتها التي تتحول فيه إلى أفكار وهو يقر بأن لكل من الأفكار وصفات الأجسام طبيعة مختلفة فالأفكار من طبيعتها أن تكون ذهنية ومجردة والصفات من طبيعتها أن تكون حسية لكن الأفكار البسيطة هي في النهاية انعكاس ذهنى لصفات الأشياء كما لو أن العقل الإنسانى مرآه تنعكس عليها صفات الأشياء

مقال في الفهم الانساني: يبدأ لوك كتابه الذي نشره في العام 1690 بتوضيح الهدف من تأليفه ويذهب إلى أن الفهم هو الملكة التي تميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية ولذلك فإن البحث فيها له الأولوية القصوى ذلك لأنه كما أن العين هي وسيلة الإنسان لرؤية الأشياء فإن الفهم هو وسيلته في الإدراك والمعرفة وقبل أن ينشغل الفيلسوف بإنتاج أى نوع من المعرفة فإن الأولى هو البحث في الفهم الذي هو أداة المعرفة وهكذا يفتح لوك مجالاً جديداً للبحث الفلسفى يختلف عن مجالات الفلسفة التقليدية إذ كان كل مذهب فلسفى سابق يبدأ مباشرة بالبحث في قضايا الوجود وطبيعة الإنسان ومفهوم الحقيقة وواقعية العالم الخارجى، ينقسم كتاب المقال إلى أربعة أجزاء: الأول عن الأفكار الفطرية، والثانى عن الأفكار، والثالث عن الكلمات، والرابع عن المعرفة الجزء الأول ينتقد لوك الرأى القائل بالأفكار الفطرية بناء على أن الخبرات البشرية متعددة وأن ما هو فطرى بالنسبة للبعض ليس كذلك بالنسبة للبعض الآخر وأن أجناساً بشرية مختلفة تعتنق أفكاراً مختلفة وتعتقد في أنها فطرية وأن البشرية كلها ليست مجتمعة على القول بأفكار فطرية واحدة هناك شعوب لا تعتقد في وجود هذه الأفكار في الأصل وهذا دليل على أنه ليس هناك إجماع بشرى عام على أفكار فطرية واحدة إذ لو كانت هذه الأفكار الفطرية موجودة لكانت كل البشرية تعتقد فيها..

يقسم لوك العمليات الذهنية إلى أنواع عديدة تبعاً لنظريته حول الأفكار البسيطة والأفكار المركبة فهناك عمليات ذهنية مرتبطة بالأفكار البسيطة:

1 - أولها الإدراك الحسي: وهو أول مرحلة في التفكير وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى(perception) عملية ذهنية تتضمن التفكير إلا أنه ليس تفكيراً بالمعنى الحرفى للكلمة إذ لا ينطوى على الفاعلية والنشاط بل يتضمن السلبية والتلقائية أي أن الإدراك الحسي هو التفكير السلبي الذي يقتصر على تلقى الإحساسات كما هي دون أن يتعامل معها بالربط بينها ودون أن يكتشف فيها أى علاقات.

2- الاستبقاء(retension): وهى الاحتفاظ بالأفكار البسيطة التي تلقاها العقل من الإحساس ويتم هذا الاحتفاظ بطريقتين: الانتباه إلى هذه الأفكار ذاتها كما هي موجودة في العقل (contemplation) والذاكرة memory)) أى الاحتفاظ بالأفكار البسيطة في الذاكرة بعد أن تكون الإحساسات التي أنتجتها قد غابت عن أعضاء الإحساس والذاكرة هي القوة التي نستطيع بها إحياء الأفكار في الذهن بعد أن غابت إحساساتها ويطلق لوك على الذاكرة اسم (مخزن أفكارنا).

3- المقارنة والدمج والتسمية (comparing / compounding / naming): عن طريق المقارنة يميز العقل الامتداد والدرجات فهو يدرك الأطول والأقصر عن طريق المقارنة على أساس الامتداد ويدرك درجات اللون الواحد على أساس المقارنة بين الألوان عن طريق الدرجات اللونية ويدرك الترتيب بين السابق واللاحق عن طريق المقارنة على أساس الزمان أو المدة، ويدرك العلاقات المكانية عن طريق مقارنة الأشياء بعضها ببعض حسب المكان.

4 - التجريد: (abstraction) وهي آخر عملية ذهنية يشرحها لوك تحت ملكة الإدراك الحسى وهى إدراك العام والمشترك بين أشياء متشابهة في صفة ما ووضع اسم عام لها مثل إدراك البياض الذي هو صفة تجمع الأشياء البيضاء وإدراك الشكل الكروى الذي يجمع أشياء تتصف بهذا الشكل مثل الشمس والقمر وكرة القدم ومن الملاحظ أن التجريد هو أعلى العمليات الذهنية التي تقع في نطاق الإدراك الحسى فبدون التجريد لن يصبح الإدراك الحسى كاملاً ودقيقاً لكن التجريد هو في نفس الوقت أول عملية ذهنية تنتمى لملكة الفهم ومعنى هذا أن التجريد هو الصفة الحقيقة التي ينتقل بها الذهن من الإدراك الحسي إلى الفهم وهو أيضا ًأول عملية يستطيع بها الفهم الوصول إلى الأفكار المركبة ذلك لأن الأسماء العامة والتصورات والمفاهيم المجردة أفكار مركبة لكن يصر لوك على اعتبار أن التجريد عملية ذهنية تعمل في نطاق الإدراك الحسي والفهم معاً فهو قوة إدراك وقوة فهم في نفس الوقت.

وهكذا كان لوك هو أول واضع لمبحث (الابستمولوجيا) أو نظرية المعرفة بدأ لوك بتناول عناصر الفهم الإنسانى مباشرة من إدراكات حسية وأفكار وإحساسات وتصورات دون أن يشغل نفسه كثيراً بالبحث في فسيولوجيا الذهن ذات الطابع السيكولوجى أو في الطبيعة العضوية للإدراك الحسى وكان كل ما يهمه في المعرفة الإنسانية هو كيفية حدوث المعرفة للفهم البشرى لا الطبيعة العضوية للتفكير والتي توقع دائماً في إشكالية الارتباط بين النفس والجسم..
نظرية جون لوك في كتابه (رسالة في التسامح). التي نشرها في العام (1689) أي بعد عام انتصار الثورة والتي بلور فيها هذا الفيلسوف الإنكليزي النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية والحرية الفردية وعندئذ خرج بالقانون التالي (إن حريتي تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين) وبالتالي فإذا كان هو فيلسوف الليبرالية أي الحرية فإن ذلك لا يعني أنه مع الفوضى فالمجتمع الليبرالي هو ذلك المجتمع الذي يحترم فيه كل شخص حرية الآخرين ولا يعتدي عليها وعلى هذا النحو تنتظم أمور المجتمع.

كان هدف لوك في ذلك التأكيد على (أنه ليس من حق أحد ان يقتحم بأسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية وأن فن الحكم ينبغي أن لا يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق) وهو يعني بذلك أن التسامح الديني يستلزم أن لا يكون للدولة دين لأن (خلاص النفوس من شأن الله وحده ثم أن الله لم يفوض أحدا في أن يفرض على أي أنسان دينا معينا... وأن قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الانسان).

وبسبب هذه الأفكار العقلانية هوجم لوك فألف رسالة ثانية في التسامح عام 1690 ثم رسالة ثالثة عام 1792.

ويمكن تلخيص دعوة جون لوك في رسالتة في التسامح بقوله (ليس لأي انسان سلطة في ان يفرض على انسان آخر ما يجب عليه ان يؤمن به أو ان يفعله لأجل نجاة نفسه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أي انسان آخر. ان الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي انسان ولا لأية جماعة ولا يمكن لأي انسان ان يمنحها لانسان آخر فوقه اطلاقا).

وقال جون لوك إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسؤولية فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمهما بشكل صحيح لا بشكل خاطئ والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم على العقل وهو ذو أصل إلهي.

ثم قال جون لوك: في المجتمع الليبرالي الحديث فإن للإنسان الحق في الحياة والحق في الحرية والحق في الاستمتاع بأملاكه الشخصية وكل مجتمع يضمن لأفراده هذه الحقوق الأساسية يمكن القول بأنه مجتمع ليبرالي عقلاني كما أن لكل فرد الحق في الإيمان بدينه أو مذهبه بشرط ألا يفرض ذلك بالقوة على الآخرين وهنا أسس التسامح بين المذاهب والأديان بل ووصل الأمر به عام 1689 إلى حد الدفاع عن المسلمين واليهود وما عداهما من غير المسيحيين العائشين في المجتمع الإنجليزي قائلاً: لا ينبغي إطلاقا حرمانهم من الحقوق المدنية أو نبذهم من المجتمع لأسباب دينية أو طائفية.

نتائج فكر جون لوك في الثورة الانجليزية 1688:

كان من ثمار المنجزات الفكرية والثورية لجون لوك أنتصار الديمقراطيين على السلطة الملكية متمثلة بجيمس الثاني وريث شارل الثاني فيما عرف بالثورة المجيدة عام 1688وتغير نظام الحكم من ملكي مستبد إلى نظام ملكي مقيد بقوانين يشرعها البرلمان حيث: أنشأ مجلسين هما العموم واللوردات وأعطيت الصلاحيات الأوسع للعموم - ظهور الانتخابات والمجالس والتمثيل النيابي - تقييد الملك والحد من صلاحياته

وثيقة أعلان الحقوق 1689 التي أصدرها البرلمان:
1- قسم جون لوك سلطات الدولة إلى ثلاث السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية و السلطة الاتحادية و أكد على ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية و التنفيذية بحيث تتولى كل منها هيئة مستقلة عن الأخرى.

2- حق الملك بالتاج مستمد من الشعب وليس الله.

3 - لايقوم اي ملك بالانتقاص من حقوق الشعب.

4- ليسس لملك اصدار قوانين جديدة او الغاؤها دون العودة للبرلمان.

5- حرية الراي والتعبير في البرلمان مصانة.