الجواهري وانتفاضة 1952..كيف اعتقل الشاعر الكبير واغلقت صحيفته؟

الجواهري وانتفاضة 1952..كيف اعتقل الشاعر الكبير واغلقت صحيفته؟

عباس غلام حسين نوري
تعد انتفاضة تشرين الثاني عام 1952 من الانتفاضات والأحداث المهمة في تاريخ العراق المعاصر لما تحمله من جذور وممهدات سابقة تجمعت لتنفجر في ذلك اليوم، وكانت هناك عدة عوامل مؤثرة سواء كانت هذهِ العوامل اقتصادية أو اجتماعية او سياسية، فقد خضع النفط العربي الى سيطرة الشركات الاحتكارية التي استطاعت استغلاله بموجب الامتيازات التي تمنح لشركات الاستثمار الأجنبي وفي ثلاثينات القرن الماضي

استثمر النفط العراقي، وكانت مدة الامتيازات نحو "75" عاماً اذ عقدت في ظروف عصيبة لم يتسن للبلاد خلال تلك المدة من أن تؤمن مصالحهِا وتضمن حقوقها على أكمل وجه، لذا أملت شركات النفط الاحتكارية شروطاً وصاغت أحكاماً بحيث تخدم مصالحها وبعد مدة انتهاء الحرب العالمية الثانية، حدثت تبدلات في الأوضاع الدولية واشتد ساعد الحركة الوطنية فواجهت قوى الاستعمار واخذت توجه الرأي العام باتجاه المطالبة بضرورة تعديل الامتيازات الممنوحة للشركات النفطية الأجنبية بشكل تزداد فيه حصة الحكومة من كمية النفط الى الحد المناسب.
لقد كانت الحركة الوطنية تدرك ان انماء صناعة النفط في العراق تجري ببطء قياساً الى دول الجوار "الخليج العربي" ممادفع بأحد النواب في البرلمان الى أن يطرح بعدة تساؤلات بهذا الخصوص منها مساءلته رئيس الوزراء نوري السعيد حول إمكانية تأميم النفط، ووضع حد للشركات الأجنبية في غبنها ونهبها للنفط العراقي من جانبه ماطل رئيس الوزراء وطلب تأجيل الموضوع وعلى أثر ذلك تقدم عدد من النواب في 25 آذار 1951 بمذكرة تطالب الحكومة بسن "لائحة قانون لتأميم شركات النفط" مستعرضين الحالة الاقتصادية السيئة لفئات الشعب العراقي، ومدى احتياجاتها لزيادة واردات النفط من أجل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فأثارت الحملة الأوساط الاستعمارية إذ حذرت الحكومتان الأمريكية والبريطانية العراق من اتخاذ أي خطوة لتأميم النفط، فأسرعت الشركات للبدء بالمفاوضات مع الحكومة العراقية في 14 شباط 1952" انتهت بوضع أسس جديدة خرجت بها تلك الاتفاقية.
تابعت جريدة الثبات لصاحبها الجواهري في عددٍ من المقالات بشان اتفاقيات النفط، اذ جاء في مقالته حول بيان رئيس الوزراء في المؤتمر الصحفي الخاص بهذهِ الاتفاقيات بقوله "ان البيان لم يكن جديداً وانه لم يخرج عن كونه ترديداً لبيانات سابقة اجملت فيها الحكومة تاريخ منح امتياز النفط في تلك المراحل" سلط فيه الضوء على المفاوضات السابقة التي أبرمها نوري السعيد مع الشركات النفطية المستثمرة قبل سنتين، واستطاع أن يرفع فيها حصة الحكومة من النفط، ووازن ذلك بوضع النفط في إيران بعد مرور سنة على الخلاف المتواصل بين الحكومة الإيرانية وشركات النفط الاستعمارية فبعد ان غطت جريدة الثبات جولة السعيد الى بعض عواصم البلدان الغربية منها لندن وباريس التي تمخضت عن عقد مجموعة من الاتفاقيات والمشاريع طالبت الثبات إطلاع الراي العام العراقي على حقيقة ما رافق رحلتهِ الى هذه البلدان.
وفي 14 شباط 1952 عرضت اتفاقية النفط الرئيسة على مجلس الأمة ونوقشت بصورة سريعة بناء على اقتراح رئيس الوزراء.
وعلى الرغم من قبول المجلس بها الا ان اطرافا من الحركة الوطنية اهاجت الرأي العام وابدت مساوىء الاتفاقية واحكامها المجحفة بحق العراقيين. ولاسيما تلك المقالات التي نشرتها صحف الاحزاب "الاستقلال والوطني الديمقراطي والجبهة الشعبية" وغيرها من الصحف وكان ذلك كله إحدى مقدمات الانتفاضة الشعبية وبهذه المناسبة نشرت جريدة الثبات لصاحبها الجواهري مقالة بعنوان "الاتفاقية الجديدة يرفضها الشعب ويقرها ستون "أصبعاً"ً، والمعارضون الحزبيون هم المسؤولون الأولون.... فهل يعتبرون؟؟ " وقال الجواهري في هذا المقال "ان الاجماع على شجب الاتفاقية والرغبة الملحة من جميع طبقات الشعب في صيانة مصالحهِ العامة تكاد تذهب مع الأسف أدراج الرياح وان ستين أو سبعين أصبعاً يرفع في هذا المجلس بالموافقة عليها التي سيكون فيها التأثير في المصالح الاقتصادية للشعب "النفط" ووضع الثقل الأكبر على الأحزاب الموجودة في داخل المجلس بان باستطاعتهم ان يردوا للشعب أكثر مما يستحقون قسماً ولو شيئاً ضئيلاً من حقوقهِ المسلوبة وحريتهِ المنزوعة، وزيادة عدد المعارضين لرفع أصوات المعارضة البرلمانية واعتبار هذا جزءاَ من واجبهم تجاه الشعب ورصيداً لهم بعد عودتهم الى صفوف المعارضة عندما يودعون كرسي الحكم"، وقال أيضاً "ويتذكروا أيضاً أن المجلس القادم قد يلزم الشعب العراقي كلهُ لأن يدفع ثمناً أغلى مما دفعهُ اليوم على يد المجلس القادم".
ودعت جريدة الثبات لصاحبها الجواهري على هامش الاتفاقيات النفطية الى ان تكون الدولة جادة إن حققت فعلاً اعتقادها زيادة رواتب الموظفين والقضاء على البطالة وايجاد موارد للقادرين على العمل مسلطةً الضوء على حركة مصدق ضد "شاه إيران" وكيف ألتف حوله الشعب الإيراني في قرار التأميم وسلطت الضوء أيضاً على الثورة المصرية ودخول مصر خط المواجهة ضد بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية وقالت "كما ان الولايات المتحدة تجابه اليوم هذا الخصم العنيد المتمثل بالشعب الإيراني وهو يفسد عليها لعبتهُ المبيتة مع شريكتها الضعيفة بريطانيا في البترول، حيث يقف هذا الشعب الواعي لينتزع هذهِ الغنيمة ويتوقع ان يكون الحال مع القضية المصرية" وبهذا العرض يبدو ان الجواهري اراد غمز قناة السلطة بأن ماحدث في إيران يمكن حدوثه في العراق وأن أي حكومة سيكون مصيرها السقوط اذا عارضت طموح الشعب في تحرير نفطهِ.
اعلنت احزاب المعارضة وأطراف من الحركة الوطنية الإضراب في 19 شباط 1952 احتجاجاً على الاتفاقية المذكورة، بل طالبت بحل المجلس النيابي، ونجح الاضراب في بغداد وبعض المدن الأخرى مما حدا بالحكومة الى تكثيف اجراءاتها الأمنية واعتقال عدد من أفراد الحركة الوطنية وعدد من طلبة المدارس والكليات ، كالذي حدث في كلية الحقوق بمناسبة الذكرى الخامسة للوثبة الشعبية، فقد فصلت كلية الحقوق طالبين لقيادتهما المظاهرات وهما "عبد الرزاق الصافي وجميل أسود من طلاب الصف المنتهي، وقد أضرب في اليوم الثاني طلبة كلية التجارة، فكتبت جريدة الثبات مقالاً "حول اضراب طلاب الحقوق" طالب من عمادة الكلية بالتعامل الجيد مع هذه الشريحة وانها تقود عقولاً واعية وعدم استفزاز الآخرين من شدة التعامل في حين وجه رئيس الوزراء نداء الى الاوساط الشعبية اتهم فيه الأوساط الطلابية بالتعامل مع جهات خارجية زاعماً ان الوزارة عثرت على مستمسكات تشير الى عدد من الطلاب ينتمون الى منظمات خارجية هدامة وحاولوا استغلال الروح الوطنية الصادقة.
تحفظ الجواهري حول هذا البيان ولم يبد استعداده لمناقشة القضية التي وصفها بالمفتعلة، وعزا فصل الحكومة أولئك الطلبة على خلفية معارضتهم للاتفاقية النفطية.
وعلى صعيد آخر تصاعد النضال الشعبي، ان صح التعبير، المعارض للحكومة آنذاك، وعلى سبيل المثال انتفاضة الفلاحين من آل فرطوس في العمارة وسيطرتهم على الاراضي وطرد أتباع الاقطاعيين وعدم دفع الضرائب وتجددت عام 1950، فقامت الحكومة بترحيل آل فرطوس الى المنتفك "ذي قار". فضلاً عن انتفاضة العمارة التي قُمعت بقوة لتكن امتداداً لسلسلة من الانتفاضات الفلاحية ضد السيطرة الاقطاعية والتخلف الاقتصادي.
وفي الجانب السياسي اشتدت في هذه المرحلة المطالبة بالاصلاح الداخلي، سياسياً ودستورياً، منها تغير نظام الانتخاب وجعله مباشراً وذلك عام 1951 على لسان مجموعة من عدد من النواب في المجلس اذ طالبوا بتعديل هذا القانون ، وكذلك المطالبة بأطلاق الحريات الديمقراطية وتأليف حكومة وطنية مخلصة، واعطاء المراة حقها للاشتراك في الانتخابات، وبالمقابل شرعت الحكومة على تعديل نظام الانتخابات المرقم 11 لسنة 1946 الذي حرم الاعتراض على نتائج الانتخابات لتمهد بفرض دكتاتورية تسهل الطريق للحكومة للتصرف بنتائجها كما يحلو لها.
وبصورة عامة اتسم العقد الأخير من عمر النظام الملكي بالتراجع عن القيم الديمقراطية قياساً بماكان عليه الامر من قبل... ولو راجعنا المذكرات التي رفعتها الاحزاب السياسية للوصي قبيل قيام الانتفاضة وجدنا اتساع حجم المطالبة بالاصلاح سواء أكان اقتصادياً ام دستورياً وكان من ضمن هذه المذكرات الانتقادية مذكرة حركة أنصار السلام التي كان الجواهري قيادياً في تنظيماتها. اما الفتيل الذي أشعل نار الانتفاضة فكان أثر وقوع إضراب قام به طلبة كلية الصيدلة وقسم الكيمياء، نتيجة مطالبتهم بتعديل نظام الامتحانات وفي اليوم التالي تم الاعتداء على أربعة طلبة عدهم الشرطة حركة الأضراب فعدّ الطلبة ذلك حادثاً مدبراً وانتهاكاً لحرم الجامعة فأعلنوا الإضراب العام حتى يأخذ القضاء مجراه ، فتفاقم الوضع وساندتهم الكليات الأخرى والمدارس الثانوية، واستغلت الاحزاب السياسية للتدخل في هذا الموقف ووقفت الى جانب الإضراب وعمت المظاهرات جميع المناطق بما فيها المعاهد والكليات، وبالمقابل هاجمت الشرطة وسارعت الى اطلاق النار دون رحمة فسقط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين، الذين شملت تظاهراتهم أغلب المدن منها كربلاء والديوانية والناصرية والبصرة وغيرها..، وهو الامر الذي حدا برئيس الوزراء "مصطفى العمري" الى تقديم استقالته في 23 تشرين الثاني 1952.
كان الجواهري قبل أكثر من سنة قد أغلقت جريدته "الرأي العام" وحصل بعدها على امتياز بإصدار جريدة جديدة بأسم "الجهاد" وفي اليوم التالي لوقوع المصادمات في الانتفاضة التي نحن بصددها، نشر في الجريدة المذكورة مقالاً في وقتٍ أضربت فيه أغلب الصحف من نشر أي تعليق او حتى إصدار جريدة، وامتنع الجواهري من الامتثال الى ذلك، ونشر في جريدته الجهاد التي صدرت بصفحتين فقط لذلك اليوم افتتاحية بعنوان "ما أشبه الليلة بالبارحة" قال فيها "لقد تفجرت شوارع بغداد اليوم بما تفجرت به بالأمس، ولقد قرعنا الجرس اليوم 22 تشرين الثاني كما قرعناهُ أمس يوم 28 كانون الثاني1948 لئلا يستغل (المعرسون) الوزراء اليوم، ما أستغله المعرسون امس من دماء الشهداء". ومنها انتقاد لاذع للسلطة وتأجيج واضح للرأي العام على مواصلة التعبير عن حقوق الجماهير الهاجمة.
ويذكر الجواهري في مذكراته أنه كتب مقالة أخرى بعنوان " الراقصون على القبور" كانت هي الأخرى أيضاً شديدة الوقع على الحاكمين وتأسف كثيراً عن فقدانها وخلوها من أروقة مذكراته اليوم التي تعدّ من المواقف طالما يعتز بها.
من الملاحظ أن هذه المظاهرات حملت عدة شعارات طالبت بتأليف حكومة وطنية، تقوم بتأميم النفط، وغلق المكاتب الثقافية الأجنبية، وبسقوط الملكية، واعلان الجمهورية، فكان من نتيجة هذهِ المصادمات استشهاد "23" من المتظاهرين وقتل نحو "4" من رجال الشرطة واعتقال ما يقارب "73" متظاهراً. وعدداً من الجرحى. وبعد استقالة حكومة مصطفى العمري في 23 تشرين الثاني في 1952 كما أشرنا، امر رئيس أركان الجيش "نور الدين محمود" بنزول الجيش الى الشوارع بأمر الوصي للسيطرة على الموقف وقد أعلن الأخير الارادة الملكية بتشكيلهِ الوزارة التي ترأسها الرئيس المذكور.
تميزت الانتفاضة التي كان لها الأثر البارز في مسيرة الحركة الوطنية بالعنف الشديد ضد السلطة والتماسك القوي بين القوى الوطنية، واتسمت أيضاً بالشمولية، والطابع الثوري في أحيان عدة، وتمخضت عن نتائج أهمها التقيد في الحريات الدستورية واعتماد سياسة الكبت، وشمل ذلك الجواهري فقد عطلت جريدة الجهاد الى جانب كثير من الصحف، وشمله أيضاً أسوةُ بغيرهِ الاعتقال وأودع في سجن أبي غريب الى جانب عدد من أفراد عائلته ومنهم فرات الأبن الأكبر للجواهري الذي اعتقل بتهمة نشر المبادىء الهدامة التي كانت سائدة أو شائعة في تلك المدة وكذلك فلاح الجواهري الذي أخذته الروح الوطنية مع أقرانه من الطلبة ليعتلي سلماً عالياً في وسط شارع الرشيد وهو يخاطب الجماهير كما فعل أبوه سابقاً في وثبة كانون الثاني 1948 ولم تسلم أخت زوجته من الاعتقال، فيما تمكنت أبنتهُ "اميرة" من الهروب من منزل الى آخر حتى ذهابها الى النجف. أن مواقف الجواهري من انتفاضة عام 1952 لايقل أهمية عن وثبة عام 1948 مقارناً هذه الانتفاضة بما يجري في أرض فلسطين أيضاً، اذ تميزت بالأثر الكبير في المسيرة المتطورة للحركة الوطنية بالعنف ضد السلطة والتماسك بين القوى وشعارات تطالب بالاصلاح الجذري لنواحي الحياة كافة وتعجب الجواهري من مواقف القوى السياسية والساسة الذين عدّوا أنفسهم دعاة الشعب العراقي والمسؤولين عن مصائرهم بيد أنهم يصطادون بالماء العكر حسب تعبير الجواهري، ويزيد أن مطالبة الصحف في اليوم التالي من انتفاضة 1952 اتهم الجواهري الجهات المحسوبة على القوى الوطنية وصدروا بياناً باعلان الاضراب العام لعمال المطابع والأكثر ايلاماً في هذا القرار أو هذهِ الدعوة نجاح الاجهزة الأمنية في منع اطلاق الصحف لهذا اليوم مستغفلة به بعض القوى الوطنية على يد مدسوسين من عمال المطابع، فقد قرر الجواهري التمرد على هذا البيان واصدر صحيفتهُ في اليوم التالي فيقول بهذا الشأن "كان اصدار جريدتي في اليوم الثاني، وكانت الوحيدة التي صدرت، واني أعي جيداً ما يدور خلف الكواليس واني احترم استقلاليتي وجريدتي واعرف خلفيات هذا البيان وانعكاساته وكذلك سوابق العمال.
وبعد انقطاع دام فترة ليست بقصيرة استأنف الجواهري اصدار جريدته الرأي العام في عامي 1953 – 1954 تناول خلال تغطيته للاحداث العراقية، اذ اقدم الجواهري بمقالة اسماها "بكلمة شاملة" بمناسبة عودة جريدته للصدور انتقد فيه رجال الحكم في العراق لتعاونهم مع الاستعمار في ايقاف جريدته التي سماها "صوت الشعب" وطالب بمقاومة الحاكمين الظالمين كما انتقد سياسة الحكومة والساسة على أنهم عبارة عن حفنات من الساسة "الاعتقين" وحذرهم من النظر الى الارادة الملكية على انها "سند خاقاني" واشار الى ان هؤلاء الاعتقون المتحجرون المفروضون على الشعب العراقي بقوة الحراب من يوم قيام هذا الكيان وحتى هذا اليوم، ونَشَر قصيدته المدوية في ذم رئيس الوزراء ارشد العمري وعلى أثر ذلك المقال وتلك القصيدة المثيرة للتساؤل وضع الجواهري تحت المراقبة الامنية في محل عمله ومنزله فأستفز ذلك الجواهري ووضع اللوم على رئيس الوزراء ووزير داخليتهِ سعيد قزاز بأنهم وراء ذلك لمجرد نشر مقالهِ او قصيدته وانتقد اسلوب عمل تلك الاجهزة الإرهابي واتباعها الترويع والاهانة.
وعند اقتراب موعد الانتخابات النيابية اشارت جريدة الرأي العام الى وجوب مشاركة الجبهة الوطنية وضرورة استمرار العمل الوطني في إطارها في مثل هذهِ الظروف التي يحارب بها الاستعمار واعوانه وعقبت جريدة الرأي العام على نتائج الانتخابات وتدخل الحكومة فيها وتصريحات رئيس الوزراء أرشد العمري بشأنها وعدتها فضيحة لما جرى فيها من تزوير كونها جرت تحت أشراف العمري، واشارت الى أنه يمكن تأليف مجلدُ ضخم عن مأسيها وفضائحها وجيف قتلاها ودماء جرحاها محذرة "أن هناك خطراً كامناً... وناراً تحت الرماد" وكتب قصيدة بهذا الشأن حمل عنوان "سلاماً ايها الناس".
ويمكن للفائدة سرد الأحداث اليسيرة التي رافقت الجواهري من سنوات ما بعد الانتفاضة فأنه حال انتهاء الانتفاضة وخروج الجواهري من سجنهِ كانت جرائدهُ قد اغُلقت وانقطع مورد معيشته وانقطعت به سبل العيش فبقى يشكو ضآلة المال، وهناك بادر الوصي والسعيد الى تعويض الجواهري عما كان قد خسره والراجح لدينا أن الغرض من ذلك احتواء الشاعر ليظل بعيداً عن المعارضة، وموالياً للحكومة، اذ قطعتهُ الحكومة أرضاً مزروعة من ثلاثة الآف دونم في "علي الغربي" في العمارة "ميسان" فأخذ الشاعر هذهِ المنحة متاملاً الراحة والرخاء فيما يروي أحد المهتمين بالشاعر فيقول "اعَتَقد الجواهري أن حياته في الأرض التي منحتها له الحكومة في قضاء علي الغربي في محافظة ميسان ستكون تعويضاً عن خسارة يستشعرها أو عن حق يريدهُ،إنه يعتقد أن على الدولة تقع مسؤولية توفير حياة طيبة له أسوةً بما تفعل الدول المتقدمة بشعرائها وعباقرتها العظام" وفعلاً أخلد الشاعر للراحة فنجد قلة عطائه بالقصائد في تلك المدة في ديوانه الا اليسير مثل قصيدته "يا أم عوف"، فلم يواصل حياة الراحة في مزرعته وتراكمت عليه الديون بدل ذلك الثراء المتوقع، واحس الشاعر بأنه محاصر في مزرعته ولم يثبت على هذا المنوال بعيداً عن الساحة السياسية رغم عدم انقطاع نشاطاته ولاسيما في الميدان الذي سبق أن تطرقنا اليه وهو حركة أنصار السلام، ومع هذا شعر الجواهري بأنه محاصر، ولم يصبر على هذه الحال ولاسيما بعد ان اتهمتهُ الصحافة جوراً وخطأً بانه ابتعد عن السياسة والشعر وسنحت له فرصة للخروج من العراق، ففي دعوة تلقاها الجواهري من الجيش السوري عام 1956 للمشاركة في حفل تأبين الشهيد "عدنان المالكي" ممثلاً عن العراق الذي أقيم في دمشق بقصيدة بعنوان "خلفت غاشية الخنوع" ممجداً فيها دور الشهيد، طالباً اللجوء السياسي من الحكومة السورية لتوتر العلاقات بين البلدين بسبب إتهام العراق بالضلوع في اغتيال المالكي، وبقي في سوريا قرابة السنة والنصف حتى أواخر عام 1957، وبعدها قرر العودة الى العراق بطريقة غير قانونية وبجواز سفر مزور، وبعد التحقيق أفرجت عنهُ الحكومة بعد أن توسط له أحد معارفهِ في الحكومة نفسها، وعاد مرة أخرى الى مزرعته حتى البيان الأول لثورة 14 تموز عام 1958.
عن رسالة
(محمد مهدي الجواهري ومواقفه السياسية والفكرية)