في ذكرى رحيل المؤرخ عبدالرزاق الحسني..كتابه الاول.. وبدايات ناجحة

في ذكرى رحيل المؤرخ عبدالرزاق الحسني..كتابه الاول.. وبدايات ناجحة

بعد أن هدأت الأوضاع عاد إلى بغداد ليقبل في الصف الثاني في دار المعلمين ومن يومها ولع بالكتابة والنشر وما زال طالبا فيها فكان يقتني الجرائد اليومية والمجلات الدورية ويقتبس منها بعض الكلمات والعبارات الملائمة لينشئ خبرا محليا أو نتفة أدبية أو قطعة شعرية وكانت جريدة "المفيد" لصاحبها المرحوم إبراهيم حلمي العمر تنشر له هذه الأخبار والنتف تلطفا منها وتشجيعا وما لبت أن وضعت رسالة موجزة بعنوان:

(المعلومات المدنية لطلاب المدارس العراقية)
استعان بما يتيسر لديه من الكتب المدرسية المشابهة
وكان لأستاذ التاريخ في "دار المعلمين" العالم الآثاري المغفور له عبد اللطيف الفلاحي مطبعة معروفة في بغداد اسمها (مطبعة الفلاح) فراجعه لطبع هذه الرسالة وإذا به يشجعه على المضي في التتبع المفيد ويتبرع بكلفة الطبع متى يسرت له الورق وكان عدد ما يطبع من الكتب يومئذ لا يتجاوز الخمسمائة نسخة عدا شأن الصحف الأدبية والمجلات
وهكذا أصبح مؤلفا معروفا وتتابعت مؤلفاته حتى تجاوزت الثلاثين كما كان وهو طالب في دار المعلمين يكتب في الجرائد الوطنية واشتغل في الأمور السياسية فلما تخرج من هذه الدار انصرف للصحافة انصرافا كليا حتى عين مديرا لإدارة جريدة (المفيد) ومندوبا متجولا لها وقد طاف العراق من شماله إلى جنوبه بهذه الصفة ووضع رحلته المشهورة (رحلة في العراق أو خاطرات الحسني) التي طبعت ثلاث طبعات ولما الغت الحكومة امتياز جريدة المفيد انشأ جريدة أدبية تاريخية أسبوعية باسم (الفضيلة) وقد برز عددها الأول في الأول من أيلول (سبتمبر) عام 1925
ويضيف عبد الرزاق الحسني قائلا:
ويشاء الطالع أن ينتقل الوالد إلى الرفيق الأعلى وان استعين بما تركه لي من مال فابتاع مطبعة خاصة وانتقل إلى مدينة الحلة لأصدر جريدة علمية أدبية تاريخية باسم (الفيحاء) وقد صدر عددها الأول في 27 كانون الثاني (يناير) عام 1927 ويقول الحسني أن العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة نشر تراجم علماء الحلة وفقهائها في القرن السادس للهجرة في جريدتي (الفيحاء) تباعا وقد فسرت بعض الجهات المتعصبة هذه التراجم تفسيرا بعيدا عن الحق فسحبت امتياز الجريدة وصادرت المطبعة
ويضيف الحسني بالقول:
وتلقيت رسالة من (سكرتير المعتمد السامي البريطاني) في بغداد يطلب إلي فيها التوجه إلى بغداد ومقابلة محمد حسين خان النواب في دار المندوبية وشعرت يوم تمت هذه المقابلة ان هنالك رغبة ملحة في استغلال قضيتي للدس والكيد لحكومتي
وكان لي علاقة صحفية بالمغفور له جعفر باشا العسكري منذ عام 1923 وكان العسكري يشغل آنذاك رئاسة الوزارة في عام 1927 للمرة الثانية فنقلت إليه موضوع سحب امتياز جريدتي ومصادرة مطبعتي ومحاولة استغلال قضيتي فأمر رحمه الله بإعادة المطبعة إلي فورا وطلب الى الزعيم الخالد ياسين باشا الهاشمي ان يبحث عن وظيفة مناسبة لي في ديوان وزارته فعينت معاونا لمحاسب وزارة المالية فمديرا لخزينة بغداد فمديرا لحسابات مديرية الري العامة ومنها نقلت الى مثل وظيفتي في (مديرية البرق والبريد العامة) وحتى إذا أعلنت الحرب العالمية الثانية في 3 أيلول (سبتمبر) 1939 وجدت الاصطدام المسلح بين الجيشين
العراقي والبريطاني في 2 مايس (أيار) 1941 (فيما عرف بحركة رشيد عالي الكيلاني) فصلت من الخدمة لمدة خمس سنوات وأبعدت الى المعتقل (الفاو) أقصى جنوب العراق ثم إلى (معتقل العمارة) قضيت في المعتقلات أربع سنوات كتبت خلالها كتابي (تاريخ العراق السياسي) بأجزائه الثلاثة وهو الكتاب الذي نال جائزة (المجمع العلمي العراقي) لأحسن كتاب قدم في عام 1949 وطبع ست طبعات
عدت إلى الخدمة في الحكومة بعد خروجي من المعتقل وانتهاء مدة فصلي القانونية كما عاد غيري من الضباط والوزراء والمتصرفين والمدرسين وغيرهم إلى وظائفهم ثم ندبت للعمل في (ديوان مجلس الوزراء)...
وفي هذا الصدد يذكر عبد الرزاق الحسني ان نوري السعيد رئيسٍ الوزراء كان مسؤولا عن زج أكثر من ألف شخص في السجون والمعتقلات في أعقاب الحرب العراقية البريطانية التي اندلعت في أيار 1941 فلما انتصر الحلفاء على دول المحور في نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 أراد نوري ان يخفف عن المعتقلين آلامهم وينسيهم ما لاقوه من ضروب المحن فصار ينعم عليهم بأساليبه الخاصة كمنح الموظف درجتين أعلى وإعطاء تعهدات حكومية الى بعض المقربين ومصاهرة البعض الآخر
وفي شباط العام 19499 استدعى نوري السعيد عبد الرزاق الحسني وقال له: (بلغني أنك تنفق قسما من راتبك في إفساد ضمائر بعض الموظفين بغية الحصول على بعض الوثائق لكتبك التي تؤلفها وعليه قررت نقلك الى ديوان مجلس الوزراء لتبحث عما تريد!!)
ثم أمر بان توضع تحت تصرفي أوراق القضية الفلسطينية لكنه اسر الى رئيس الديوان (نوري القاضي) ان يمكنني من الاطلاع على ما أريد وهكذا منذ شباط 1949 عهد إلى تنظيم سجلات خاصة بتاريخ الدولة على نمط المؤسسة العثمانية (وقعي نويس) وقد قضيت في هذا الديوان أربع عشرة سنة استفدت خلالها فوائد تاريخية جليلة وكانت من اسعد ايام حياتي في الوظائف الحكومية فتعاقب على رئاسة الوزراء في بحر هذه السنوات السادة:
نوري السعيد، مزاحم الباجة جي، علي جودة الأيوبي، توفيق السويدي، مصطفى العمري، نور الدين محمود، جميل المدفعي، فاضل الجمالي، أرشد العمري، عبد الوهاب مرجان، احمد مختار بابان، عبد الكريم قاسم، واحمد حسن البكر فلم يتدخل احد منهم في عملي ولم يمسسني سوء من واحد منهم حتى أحلت نفسي على التقاعد في أواخر عام 1964
يمتاز الأستاذ عبد الرزاق الحسني بخصال فريدة يندر أن تجتمع في غيره من المؤرخين فهو يتوخى الصدق والحق في كل ما كتب ويكتب رغم صعوبة الخوض في أحداث ما زال بعض رجالها أحياء يملكون من أسباب القوة والمنعة ما يحرج الباحث وقد صرح السيد الحسني بهذه الحقيقة في قوله: "ان تدوين أحداث العراق السياسية الحديثة من الصعوبة بمكان، فان معظم أرباب العلاقة ما زالوا في قيد الحياة ولكن تمرسنا في الحياة الكتابية خلال ثلاثين عاما شجعنا على المضي في هذا السبيل الوعر على الرغم مما تعرضنا له من مضايقات وما تكبدناه من خسارات ولم ابتغ من إقحام نفسي في حلبة هذا الجهاد المتعب إلا الإسهام في خدمة البلاد من ناحية تدوين تاريخها الحديث تدوينا بعيدا عن الغرض والمحاباة.
لذا فقد استأثرت كتبه باهتمام الدارسين والباحثين وما من كتاب من كتبه ألا قد أعيد طبعه مرات ومرات منها ما جاوز الطبعة السادسة وهي ما تزال مرغوبة لحيوية موضوعاتها وقربها من تاريخ العراق الحديث والعقائد والأديان وخاصة التاريخ السياسي وقد ناهزت مؤلفاته الثلاثين عدا وهي وحدها تؤلف مكتبة لا يستغني عنها باحث او كاتب او مثقف مهما كان حظه من العلم والمعرفة موفوراً
وعن مقالاته المنشورة يحدثنا عبد الرزاق الحسني فيقول
نشرت عددا كبيرا من المقالات البلدانية، والتاريخية، والأدبية في معظم المجلات العراقية المعتبرة كالزنبقة والتلميذ ودار المعلمين والمرشد ولغة العرب والنشء الجديد (وهذه كلها تصدر في بغداد) والاعتدال والعربي والبيان (وكانت تصدر في النجف) وفي مجلة النجم الموصلية والهدى التي كانت تصدر في العمارة وفي غيره
كما نشرت في الهلال، والعصور، والكتاب، ورسالة الإسلام (الحصريات) والعرفان والعروبة والمكشوف (اللبنانية) والحديث (الحلبية) و... الخ
واني لمدين لمجلة (العرفان) الصيداوية لأنها كانت تنشر لي عشرات المقالات المنوعة كما ان (مطبعة العرفان) تولت طبع كتبي كلها تقريبا فلولا (العرفان) ولو لا رعاية صاحب العرفان الشيخ احمد عارف الزين لما كنت ولا كان اسمي ولا أبصرت مؤلفاتي العديدة النور وهذه حقيقة اذكرها ما حييت حياتي الكتابية
ويضيف الحسني في إعطاء صورة واضحة عن حياته الكتابية، فيقول: وكاتبت جماعة من فطاحل الاستشراق كالدكتور هـ. رير، وف. كرنكو، وي. شخت، وهو تسما، ود نلوب، وجب، ولويس ما سينيون، وجاك بيرك، وكراتشوفسكي، وغفوروف، وف. كوتلوف، وبيتر، وغيرهم، ومازلت احتفظ برسائل كثيرة من هؤلاء
كما راسلت جمعا من العلماء العرب أمثال: الأمير شكيب أرسلان، وشيخ العروبة احمد زكي باشا، واحمد تيمور باشا، وإسعاف النشاشيبي، وأمين الريحاني،
الأب انستاس ماري الكرملي
ومشايخ جبل عامل: الشيخ احمد عارف الزين، واحمد رضا، وسليمان الظاهر، ومحمد كرد علي، والأب انستاس ماري الكرملي، ومحمد الفاسي، وسلامة موسى، وعباس العقاد وغيرهم
كما توليت كتابة مذكرات رئيسي الوزراء الأسبقين: على جودة الأيوبي، وناجي شوكت، وأشرفت على أعداد مذكرات الوزراء: عبد العزيز القصاب وطه الهاشمي وتحسين العسكري.
أما مذكرات اللواء الركن إبراهيم الراوي فقد جاء إسهامي بما ذكره في المقدمة:
واخص بالذكر صديقي الأستاذ عبد الرزاق الحسني الذي بذل جهدا محمودا وسعيا مبرورا، في ملاحظة مواد المذكرات والتثبت من الفصول وصحة التواريخ، ونحو ذلك حتى انه صحبني الى لبنان للإشراف على طبع الكتاب ولولا هذه الجهود وملاحقاته وإلحاحه لما يتسر للكتاب ان يبصر النور.

عن (الصفحة الرسمية للمؤرخ الحسني
بادارة السيدة احلام الحسني)