هكذا عرفت مدينة النجف التعليم الحديث..

هكذا عرفت مدينة النجف التعليم الحديث..

د. عبد الستار شنين الجنابي
كان احتكار رجال الدين للتعليم في النجف تاماً، ومن دون منازع حتى سنة (1886) حينما كُسرَ هذا الاحتكار نهائياً بافتتاح اول مدرسة حديثة في النجف. كان ذلك خلال فترة ولاية تقي الدين باشا الثانية لبغداد (1881- 1887)، اذ ورد في سالنامة نظارة المعارف العمومية للدولة العثمانية لسنة (1316 هـ/ 1898م) ما يفيد بقيام نظارة المعارف بفتح اربعة مدارس ابتدائية في ولاية بغداد خارج مدينة بغداد،

كانت الرابعة منها في مدينة النجف سنجق كربلاء. وكان ذلك نتيجة لادراك المسؤولين عن شؤون التعليم بضرورة نشر المدارس في انحاء ولاية بغداد التي لم تؤسس فيها اية مدرسة حديثة بعد .

ومن هنا يمكن بسهولة تفسير المعارضة الشديدة التي تواجهها عملية فتح المدارس الحديثة في النجف. اذ عارض هذه المدارس نسبة كبيرة من رجال الدين، وكان من بينهم بعض المجتهدين والمراجع الدينية، بحجة ان التعليم في هذه المدارس يتناقض مع الدين بسبب علمانية الدراسة فيها، وانها تدرس علوم لم تكن تتوافق مع الدين بحسب ما كانوا يعتقدون لانها من علوم الكفار. كما ان هذه المدارس كانت تدار من قبل جهات حكومية غير شرعية في نظرهم. وقد استمرت معارضتهم هذه حتى في حالة زوال بعض او كل اسباب هذه التبريرات، اذ ان زوال الحكومة اللاشرعية وقيام الحكم الوطني لم يحقق قناعات حقيقية بالدور الذي تؤديه المدرسة الحديثة، حتى وأن كانت أهلية تدار من قبل شخصيات نجفية لها وزنها الأُسري والعلمي في المدينة، كما في حالة مدرسة الغري الأهلية، التي لم تكن تدار من قبل سلطة حكومية. اذ تم معارضة عملية افتتاحها واستمرارها، بل تم محاربتها بشدة وأُصدرت الفتاوى التي تحرم تلقي العلم فيها، وكانت المعارضة لها اشد بكثير من المعارضة التي واجهتها المدرسة الرشدية او الأميرية على الرغم من كونهما حكوميتين علمانيتين.
ان هذا يعطينا تصوراً كافياً عن كون عملية معارضة فتح المدارس الحديثة لم تكن تستند لمسالة شرعية، سواء كان ذلك في موضوع طبيعة العلوم التي تدرس فيها ام شرعية الجهات القائمة عليها اذ ان الاسلام لم يكن في يوم من الايام ليتعارض مع العلم او السعي في طلبه، لا بل ان الاسلام جعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما ان الرسول (ص) شجع اخذ العلم ولو عن " الكفار " حين قال: اطلب العلم ولو كان في الصين. ان عملية معارضة التعليم الحديث في النجف في تقديرنا استندت الى مصالح وحاجات شخصية لشريحة الرجعيين من رجال الدين التقليديين الذين كانوا يرون في وجود المدارس الحديثة خطرا كبيرا على مواقعهم الاجتماعية وسُلطاتهم الدينية وامتيازاتهم المالية. لان استمرار جهل الناس هو استمرار لمواقعهم وسلطاتهم وامتيازاتهم. في حين ان نشر التعليم بعلومه الحديثة واساليبه التربوية يحقق وعيا متنامياً ومستمراً لدى الاجيال الناشئة والشابة، وابتعاداً عن التقليدية والجمود الذي عاشته النجف لقرون طويلة، فضلا عن انه يحقق للفرد مشاركة ودوراً اجتماعيا اكثر ايجابية، وفرصة اوسع لتحسين الوضع المعاشي من خلال الانخراط في وظائف الدولة وتأمين مورد رزق دائم ومضمون. ان الأسس الواهية التي اعتمد عليها المحافظون والتقليديون في معارضتهم للتعليم الحديث وفرصه الواسعة لم تستطع الصمود والاستمرار امام تقدم الزمان وتغيير وتبدل الاحوال ,اذ انهارت كل ادعاءاتهم التي ثبت بطلانها وزيفها وكانوا هم اول المبادرين لارسال ابنائهم ثم بناتهم الى هذه المدارس التي سبق وان اسموها بمدارس " الكفر " و " المروق ".
ويروي لنا الشاعر والاديب علي الخاقاني حادثة للشاعر مرتضى طاهر فرج الله، الذي كان راغباً في صغره دخول المدرسة الابتدائية الحكومية في النجف، رغبة منه في تلقي العلوم الحديثة والابتعاد عن الدراسة التقليدية. وتحققت هذه الرغبة له حينما وافق الاخ الاكبر الشيخ محمد، وما ان دخلها حتى فاجأه والده مستنكرا ً عليه الامر، ومستفهما ً عن سر سماح اخيه بذلك، لكن الاخ الاكبر استطاع ان يقنع الشيخ الوالد بعدم وجود مانع في ذلك. الا ان الشيخ عبد الحسين الحلي الذي كان الصديق الحميم للوالد، افهمه بخطورة هذا الامر وحذره من مغبته، وألزمه بإخراج ولده مرتضى من المدرسة. واستجاب الوالد لما امره به الصديق الحميم واخرج ولده من المدرسة، ولم يكن في وسع الابن مخالفة الاب. فحُرم من تحقيق رغبة شديدة كانت في نفسه، وبقي الكبت يلاحقه، والحسرة تغمره، والحرمان يسير الى جانبه، ولقد ادى خروج مرتضى فرج الله من المدرسة الى ان تتملكه عقدة نفسية لازمته كضله كما يذكر الخاقاني. اما الشيخ الحلي الناصح فقد رغب عن الدراسة الدينية التقليدية لأولاده، فأدخلهم المدارس الحديثة، وعلمهم تعليما ً " علمانيا ً"، فتخرجوا بشهادات راقية ومنهم ولده الدكتور علي الحلي .

واقع التعليم الحكومي بعد سنة 1921

سبق وان كانت هذه المدرسة قبل الاحتلال البريطاني للعراق (1914- 1917) وعلى عهد السلطات المحلية العثمانية مدرسة اولية وابتدائية، أي انها ضمت صفوفها الاولية اربعة مراحل، ثم لمن اتمها مرحلتان. ويذكر محبوبة انها كانت " غاصة " بالتلاميذ، وفيها معلمون من اهل المقدرة والكفاءة متخرجون من مدارس عالية . ويشير الشيخ محمد رضا الشبيبي في مذكراته الى ان السلطات المحلية العثمانية وتحديدا ً في عهد القائمقام بهيج بيك عزمت على إنشاء بناية حديثة لهذه المدرسة اختير لها موقع خارج السور يقع على مسافة (200) متر على خط سكة تراموي النجف – الكوفة. وقد جبى لها معاون القائمقام اليوزباشي امين افندي مال كثير من الأهالي. و احتفلَ بوضع حجر الأساس لها في (10 شوال 1332هـ /1 أيلول 1914م) بعد ان تم ازالة الكثير من القبور عن الموقع الذي تم اختياره والذي كان في الأساس جزءا ً من المقبرة العامة. وقد جرى العمل فيها الى تاريخ (12 ذي الحجة 1333 هـ/21 تشرين الأول 1915م) فكادت ان تنجز على الطراز الحديث، وقبل اتمامها بشكلها النهائي جرت احداث " فتنة " (8 رجب 1333هـ/ 23 مايس 1915م) ـ التي طُرد العثمانيون فيها من النجف ـ فنهبت المدرسة بما فيها من كتب ورحلات واثاث . وعند اخضاع النجف للإدارة البريطانية المباشرة في سنة (1918) قامت إدارة الاحتلال البريطاني بصرف مبلغ مقداره (15000) روبية عليها لجعلها صالحة للاستخدام كمقر للإدارة البريطانية في النجف .
وبعد تشكيل الوزارة العراقية الاولى، خاطبت وزارة المعارف والصحة العمومية وزارة الداخلية، تطلب منها اخلاء بناية المدرسة التي اصبحت مقرا ً لقائمقامية قضاء النجف، لانها في الاصل كانت بناية المدرسة الحكومية في عهد الحكومة العثمانية، ولان مديرية المعارف قد قررت اعادة فتح هذه المدرسة من جديد . وقد جرت مخاطبات بين وزارة الداخلية و متصرف لواء كربلاء والمعارف، اجاب فيها متصرف اللواء حميد خان بأن هذه البناية لا تصلح لان تكون مدرسة بسبب موقعها خارج السور وهذا يجعلها بعيدة عن التلاميذ وخصوصا ً الصغار منهم، اذ يجب عليهم ان يذهبوا لها ويعودوا منها كل يوم اربع مرات تحت ظروف الشتاء البارد والصيف الشديد الحرارة. وفي حالة حاجة المعارف الملحة لها عليها ان تدفع مبلغ الـ (15000) روبية التي تم صرفها عليها لاستكمالها، وهذا ليس بالسهل عليها .
وفي مذكرة اخرى لاحقة في (4 حزيران 1921) علق متصرف اللواء عبد الحميد خان على الموضوع بالقول ان الإدارة المحلية واجهت صعوبة كبيرة في العام الماضي في اقناع الاهالي لإرسال أبنائهم الى المدرسة اذ لم يتجاوز العدد الثلاثين تلميذا ً على الرغم من كون المدرسة في مركز المدينة، وعلل السبب في ذلك الى عدم رغبة الأهالي بالتعليم الحديث اذ اشار الى ان المدارس الحديثة غير معروفة في النجف... بل ومكروهة من اهلها، وان نسبة الراغبين لتعليم أبنائهم فيها لم تتجاوز (1%)، وهناك (99%) من يعارض ذلك. وفي هذه السنة (1921) اصبح العدد (100) تلميذ وهو في ازدياد. لذلك فهو لا يرغب بنقل المدرسة الى خارج السور في بناية المعارف التي اتُخذت كمقر للإدارة المحلية بسبب تطرفها، وهو يأمل ان يعتاد الناس على قبول التعليم الحديث وارسال أبنائهم للمدرسة الحكومية وعند ذلك سيكون من المفيد نقل المدرسة الى بنايتها خارج السور بعد زيادة عدد التلاميذ .
اما مِلاك المدرسة واعداد التلاميذ والصفوف فيها في السنوات التالية لأعادة فتحها في (1 اذار 1921) فقد تم استخلاصها من خلال التقارير والمواقف الشهرية لمتصرفية لواء كربلاء وهي على الرغم من تحركها وعدم ثباتها فهي تعطينا صورة اقرب للحقيقية للوضع الاجتماعي العام في المدينة المتعلق بادراك الأهالي لأهمية التعليم وضرورته، فضلا ً عن مدى قبولهم للتعليم الحكومي الحديث، كحكومي أولا ً، وكحديث ثانيا ً.
فبعد ثلاث سنوات من بدء الدراسة في هذه المدارس لم يزد مجموع عدد التلاميذ فيها عن (279) تلميذا ً. " هذا ما يبعث على الاسى والاسف " حسب ما ورد في تقرير هتصرف اللواء مولود مخلص. وفيما يخص المدرسة الأميرية في النجف، فقد ارجع المتصرف علي جودت الايوبي السبب في تراجع اعداد التلاميذ فيها الى سوء سلوك وتصرفات مدير المدرسة الشيخ جواد النجفي، الذي سبق ان نُقل من مدرسة كربلاء الأميرية الى مدرسة النجف على اثر عدة مشاكل جرت في مدرسة كربلاء. وقد وردت الى متصرفية اللواء عدة مضابط من أهالي النجف تشتكي هذا المدير لكونه رجلاً غير مقبول اجتماعيا ً، ولا يتآلف مع الأهالي، وكثير الجدل والمناقشة، مما يسبب الكثير من المشاحنات، لذلك اوصى المتصرف بنقله لتفادي المشاكل مع الأهالي، وتم تعيين مدير جديد للمدرسة هو سامي افندي خوندة.
في حين ان هناك من يرجع عزوف الأهالي عن إرسال أبنائهم الى المدرسة الحكومية الى اسباب اخرى، جاء في مقدمتها كون هذه المدرسة تحت إدارة سلطة الانتداب، مما لايتوافق مع الروح الوطنية التي كانت سائدة آنذاك، اذ يشير حسن الاسدي الى ان عدد غير قليل من الاهالي قد اخرجوا اولادهم من المدرسة الحكومية وادخلوهم في مدرسة الغري الأهلية وكان هو احدهم بعد افتتاح القسم النهاري فيها في (26 آذار 1922).
وعند التدقيق في اعداد تلاميذ مدرسة الغري الأهلية بعد سنة من افتتاحها نجد ان عددهم فيها قد زاد الى (160) تلميذا ً منهم (119) تلميذا ً في القسم النهاري من المدرسة، و (41) تلميذا ً في القسم المسائي منها. ومع ذلك يكون الرقم النهائي لتلاميذ الدراسة الحديثة في النجف في العام الدراسي (1922- 1923) هو (202) تلميذا ً، منهم (83) تلميذا ً في المدرسة الحكومية، و (119) تلميذا ً في مدرسة الغري الأهلية. و هذا الرقم يبقى متواضعاً جدا ً قياسا ً بعدد السكان العراقيين في المدينة والذي بلغ (26022) نسمة للفترة نفسها. وبذلك تكون نسبة الطلاب في التعليم الحديث لسنة 1923 في مدينة النجف لا تزيد عن (8) لكل الف من السكان، وفي التعليم الحكومي (3) لكل الف من السكان.
ان الارقام السابقة تعطينا مؤشرا ً واضحا ً على عدم رواج فكرة التعليم الحديث في النجف انذاك، والسبب في ذلك يعود الى قوة التيار المحافظ وانتشار افكاره بين عامة الناس، والتي كانت تستند الى فكرة كون التعليم الحديث بُدعة غربية تدعو الى ترويج علوم الغرب التي تتعارض مع شريعة الدين، لذلك يجب ابعاد النشء الجديد عنها. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان الاسباب الاخرى تعود في الاساس الى تفشي الجهل، وانتشار الأمية، وتردي الحالة الصحية، وضعف المستوى المعاشي، وانتشار الفقر، مما ادى الى انشغال الناس بأمور الحياة اليومية الضرورية وسعيهم الدائم لتوفير قوتهم اليومي عن طلب التعليم الذي كان ينظر اليه على انه حاجة كمالية.

عن رسالة (التاريخ الاجتماعي للنجف)