الشعر هو المعبر الحقيقي عن كثير من الجوانب الخفية في الحياة العربية

الشعر هو المعبر الحقيقي عن كثير من الجوانب الخفية في الحياة العربية

اجرى الحوار: محمد صالح عبد الرضا
حديث المحقق العراقي محمد جبار المعيبد حول تحقيق التراث العربي ودوره في حاضرنا والمستقبل

تستأثر حركة بعث التراث العربي باهتمام رجال ينذرون انفسهم لخدمة مجد الامة المندثر في المخطوطات والمظان التي يعلوها الغبار ويغور في ذاكرة الزمن ومن اولئك الرجال الجادين المحقق الثبت محمد جبار المعيبد، مساهم متواصل في رفد المكتبة العربية بما يهيء للباحث والقارئ فرصة الاطلاع على جهود طيبة وجديدة في مجال تراثنا العربي والدراسة الادبية،

بالاضافة الى انجازه عددا من دواوين الشعراء العرب (عدي بن زيد العبادي والعطوي وطهمان بن عمرو الكلابي وابراهيم بن هرمة والخريمي) انجز كذلك تحقيق كتاب حماسة الظرفاء من اشعار المحدثين والقدماء للعبدلكاني وقد صدر جزؤه الاول عن وزارة الاعلام العراقية في شباط 1974 كما درس المعيبد نتاج اللغوي ابي عمر الزاهد واراءه اللغوية في متطلبات دراسة الماستر في اللغة العربية التي انهاها بحصوله على درجة الشرف الاولى العام الماضي في جامعة بغداد وفي لقاء مع المعيبد جرى هذا الحوار:

• ما هو رايك بحركة تحقيق التراث العربي المعاصرة في وطننا العربي؟
حركة التحقيق المعاصرة اذا ما اردنا قياسها بما حقق ونشر قبل ربع قرن او اكثر، اثرت المكتبة العربية وقدمت الكثير من الكتب التي كانت بعيدة عن متناول الباحثين والدارسين والكثير منها كان يعد مما فقد، اما اذا اردنا قياساه بما هو موجود من المخطوطات العربية التي لم تر النور في مختلف مكتبات العالم، فاننا نجد انفسنا متخلفين في هذا الميدان، ونحتاج الى وقت طويل جدا لننشر المهم والاصيل من هذا التراث وهذا يعني حرمان اكثر من جيل من الاجيال القادمة من الاطلاع على هذا التراث والكشف عن الجوانب المضيئة من ثقافتنا العربية.
• ماهي مقترحاتك ازاء دوائر تحقيق التراث العربية الاكاديمية وغيرها وما هو رايك بجهودها العملية؟
ليست هناك دائرة اكاديمية عربية لتحقيق التراث والمجامع العلمية العربية الثلاثة لم تؤسس لتحقيق التراث ونشره وانما من بعض مهامها العناية بهذا التراث ونشر النماذج الجيدة منه ومجمع اللغة العربية بدمشق انشط هذه المجامع واكثرها نشرا وتحقيقا ومطبوعاته لها مكانة علمية كبيرة اما مجمعا القاهرة وبغداد فليس لهما مثل هذا النشاط. اما الدوائر غير الاكاديمية واخص فأخص وزارة الثقافة والاعلام ووزارة الاوقاف في بعض الدول العربية كالعراق ومصر وسوريا والكويت، وهذه الوزارات انشط الدوائر الرسمية في نشر التراث.
وهناك دائرة ثالثة بين هاتين الدائرتين وهي كلية الاداب في جامعاتنا العربية وليست مهمتها نشر التراث وانما تقوم بتكليف الطلبة في الدراسات العليا بتحقيق مخطوط يتعلق بالموضوع الذي اختص به الطالب الا ان هذه المخطوطات اصبحت من الكثرة بحيث لم تعد مجالا للنشر ولو نهضت المجامع العلمية الثلاثة واخص مجمعي بغداد والقاهرة بعبء نشر بعض هذه المخطوطات التي تتعلق بمهمتها لكان ذلك مهما لنا جميعا.
• ماهي السمات الحقيقية للمحقق الجيد، وماهي ادواته التي يجب ان يمتلكها كي يكون محققا فاعلا بالضرورة؟
التراث امانة في اعناق من وصل اليهم والمحقق الصق من غيره بهذا التراث فعليه لا بد ان يتحلى بالغيرة عليه، ويؤديه كما وصل اليه، وهذا يقتضي منه التعب والنصب والحذر والاستعداد التام للقيام بهذه المهمة.
والادوات التي يجب ان يمتلكها المحقق جانب من هذا الاستعداد فلا بد ان يتهيأ للموضوع الذي يروم تحقيقه سواء اكان شعرا ام لغة ام تاريخا ام فلسفة، ومن النادر ان تجد محققا يقدم على تحقيق ما تقع عليه عيناه من مخطوطات في شتى الفنون فان مثل هذا الاقدام مخاطرة بالتراث.
ومن جوانب هذا الاستعداد معرفته بالمخطوطات التي ترشد الى مكان حفظ المخطوطات العربية في المكتبات العامة والخاصة في الشرق والغرب والا فان مجرد العثور على مخطوط مصادفة في مكتبة من المكتبات لا يعني عدم وجود نسخ اخرى منه في اماكن اخرى كما لا ننسى الخبرة بقراءة المخطوطات ومعرفة الخطوط مع اطلاع كاف على اللغة العربية وفقهها، اذ هو السلاح الرئيسي الذي يتسلح به لانه يقوم بتحقيق نص عربي، والمستشرقون الغربيون مع تطبيقهم قواعد التحقيق ومعرفتهم اصوله جاءت جل تحقيقاتهم مملوءة بالتصحيف والتحريف لجهلهم اللغة العربية وعدم تمكنهم منها.
• يعتقد بعضهم ان عملية التحقيق تكنيكية تخلو من الابداع وهي ليست صعبة كما يتصور المحققون فما تعليقك على ذلك؟
يعتقد هذا الاعتقاد من لا صلة له بالتحقيق ومن لم يعتمد في دراسته وابحاثه على مخطوط من مخطوطاتنا التي كتبت قبل مئات السنين، ويعتقده من لم يعان قراءة هذه المخطوطات التي تحتاج الى خبرة ودراية في خطوطها ومادتها والكثير منها اشبه بالطلاسم والرومز يقف المحقق عند سطر من سطورها، بل احيانا عند لفظة من الفاظها اياما وليالي حتى تستقيم له ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان عناء مؤلف الكتاب يهون الى عناء محققه.
• بم تعلل نفور بعض شبابنا من التراث العربي؟ وما هو موقفك من ذلك، لاسيما ان البناء الجديد لا يستطيع ان يكون مليئا ما لم يكن مستندا الى الاساس القديم الذي هو نقطة البداية نحو الجديد؟
ميراثنا في الثقافة العربية يمتد بين العصر الجاهلي واوائل عصر النهضة العربية، فهو ميراث يشمل فترات في شتى نواحي الحضارة وما وصل الينا منه كثير جدا لا يمكن تحقيقه ونشره في فترة زمنية قصيرة والاهم من هذا اننا لم ننته حتى الان من حصر وفهرسة ما في المكتبات الخاصة والعامة في مختلف انحاء العالم، فعليه لابد من مضاعفة الجهود لاخراج ونشر اكبر عدد ممكن من هذا التراث، وهذا لايتم الا ببث الوعي التراثي لدى اجيالنا والاجيال القادمة، والنفور الذي تذكره ليس نفورا واعيا وهو عند قلة قليلة من شبابنا المثقفين مبعثه عدم قراءة هذا التراث قراءة واعية يضاف اليه هذا الفاصل الزمني بين هذا الجيل وبين تراثنا مما يشعره بتخلف هذا التراث خصوصا اذا ما قرأ النماذج الرديئة عن ركب الحضاة العالمي ناسين الحضارة العربية احدى اللبنات التي قامت عليها الحضراة المعاصرة.
الواقع ان نشر النماذج الجيدة في تراثنا العلمي والادبي والفلسفي واللغوي والجغرافي ووضعها بين ايدي هؤلاء الشباب يزيل هذا النفور وتقوم مجلة المورد التي تصدرها وزارة الاعلام العراقية بهذا الدور وهناك مجلات تراثية اخرى قدمت دراسات ونصوصا جيدة الا انها بعيدة عن ايدي الشباب لصدورها عن دوائر اكاديمية.
• لوحظ انك تهتم فيما حققت بجمع شعر شاعر وتحقيقه وفي النية الاتجاه الى تحقيق نصوص نثرية او لغوية او رسائل ادبية؟
الشعر كما قيل ديوان العرب وهو المعبر الحقيقي عن كثير من الجوانب الخفية في الحياة العربية وقد برز خلال تاريخنا الطويل شعراء كثر الا ان اشعارهم فقدت ولم يسلم منها الا القليل القليل ومما فقد احتفظت ببعضه كتب الادب والتاريخ والحماسات وغيرها.
فجمع هذا المتفرق من الاشعار في مجموعات شعرية يساعد الباحثين على دراسة هؤلاء الشعراء على ان يلتزم المحقق او الجامع كمهجا سليما في عملية التحقيق والجمع والا فقدت هذه العملية اساسها العلمي كما حصل في الكثير مما جمع من اشعار الشعراء لقد ساهمت في جمع وتحقيق اشعار ستة من الشعراء الجاهليين والامويين والعباسيين كما حققت مجموعة شعرية ضخمة هي حماسة الظرفاء ولكن دراستي ابا عمر الزاهد اللغوي جعلتني اهتم بكتب هذا الرجل فحققت له كتابين هما: (يوم وليلة في اللغة والغريب) و(المقصور والممدود) كما حققت كتاب (العسل والنحل) لابي حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات وهو مما نسب الى ابي عمر.
• ماهي خلاصة النتائج التي كشفت عنها في دراستك لابي عمر الزاهد؟وهل تشكل تلك النتائج اهمية تاريخية بالنسبة لتراث ذلك الرجل في نظرك؟
ابو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد لغوي من رجال القرن الرابع الهجري قرأ على اشهر شيوخ عصره ثعلب والمبرد، وعلى الرغم من ان الرجل نشر له كتابان:
المداخل و جزء من الحديث الا انه ظل مغمورا لم تكتب عنه دراسة جدية معاصرة فاهمية الدراسة التي قدمتها انني استطعت ان ارسم صورة قريبة لابي عمر، فاستقصيت اخباره واثاره ومنهجه اللغوي ومكانته بين علماء اللغة في القرن الرابع.
ومما وصل الينا من كتبه المطبوعة والمخطوطة عرفنا مدى اهميته بين علماء عصره فقد ابتكر فن المداخل وهو فن لغوي يقوم على مبدأ تسلسل الالفاظ ونظمها برابط من المعاني فتفسر الكلمة بكلمة ثانية والثانية بثالثة وهكذا، كما كان مبتكرا في كتابه العشرات وهو ايراد عشرة الفاظ مختلفة في حروفها وبعضها متفق في جميع الحروف لكنها تشترك جميعا في الحرف الاخير وتعتبر الالفاظ العشرة هذه عن معان مختلفة غريبة.
وكان يظن ان ابا عمر الزاهد درس على ثعلب وحده وقد كشفت ان المبرد كان الشيخ الثاني بعد ثعلب لابي عمر، وكان له تاثير كبير على ارائه اللغوية حتى اننا نجده ينكر على ثعلب كثيرا من ارائه ويرد عليه في كتبه ويستدرك.
وبعض كتب النحو تصوره لنا نحويا لكن هذه الدراسة اثبتت ان ابا عمر كان لغويا ليست له اراء في النحو بل لم اجد له كتابا واحدا في هذا الجانب.
كما استطعت ان انفي عنه كتابا ظلت مخطوطاته تحمل اسم ابي عمر قرابة ثمانية قرون، وهو كتاب العسل والنحل وانما توصلت مستندا الى النصوص ان الكتاب لابي حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات. وقد حققته وسينشر في بغداد هذا العام.

مجلة البيان / الكويت /
العدد 101 / اب/ 1974