صادق جلال العظم ما بعد حزيران؛ نقد الذات المهزومة

صادق جلال العظم ما بعد حزيران؛ نقد الذات المهزومة

سعد محمد رحيم
أكثر من أربعة عقود مرّت على هزيمة حزيران 1967، وخلال هذه المدة بقيت مسائل وقضايا على حالها وتبدلت مسائل وقضايا أُخر على صُعد موازين القوى في العالم بعد انقضاء حقبة الحرب الباردة، وتدشين عصر ثورة الميديا والمعلوماتية ومجتمع المعرفة. فضلاً عن التحولات الحاصلة في مجالات السياسة والجغرافية السياسية والاقتصاد والعلاقات الدولية.

لكن التبدل الأهم، وإن كان نسبياً، جرى في قناعات النخب والجمهور والقوى والمؤسسات. وتعمق الوعي بجوهر الصراعات وامتداداتها، وبحقائق القوة على الأرض إقليمياً وعالمياً. وتساقطت أوهام وأوهام، وتكرست أوهام بديلة. كما ولدت قوى جديدة وصعدت وأصبحت ذات سلطة وتأثير، وتراجعت قوى كانت لها، في السابق، رصيدها وسلطتها الواسعين. وبرزت رموز لم تكن معروفة، واختفت وانكفأت رموز كانت قد طبعت المرحلة المنقضية بطابعها وحتى اعتقدنا أنها راسخة وستبقى كذلك حتى أمد بعيد. فصورة العالم اليوم تختلف تماماً عمّا كانت عليه قبل أقل من نصف قرن. ومنذ ذلك الحين انتشرت ظاهرة الممارسة النقدية هاجساً وتوجهاً وجهداً منظماً ومناهج علمية في برامج المؤسسات الفكرية والبحثية، وعند المفكرين والسياسيين والمختصين في حقول العلوم الاجتماعية. ولكن هل انشغلنا نحن بالنقد، بالقدر الكافي، الذي يتطلبه حجم التحديات التي باتت تواجهنا، وأكثر بكثير من أي وقت مضى، في هذا العقد الأول من القرن الجديد؟.
لا يمكن إنكار الجهد المعرفي النقدي الذي قام به بعض من المفكرين العرب في أعقاب الهزيمة، إذ سعوا إلى وضع خطاب ومجتمع ونظم ما قبل الهزيمة على مشرحة النقد. وتوسل كل منهم بزاوية نظر ومفاهيم وطريقة منهجية تختلف عمّا توسل بها غيره. وكلٌ اختار جانباً من جوانب هذه الواقعة المفصلية في تاريخنا لكشف آثارها وتداعياتها. وقد تناول هؤلاء إشكاليات ومعضلات ماضينا وراهننا ولاسيما خلال القرن الأخير، وما الذي أفضى إلى أن نخسر تلك المعركة المركّبة، التي كانت أكبر وأعقد من أن تكون معركة عسكرية محض؟. وهناك منهم من تعرّض نقدياً للواقع العربي عموماً ببناه وعلاقاته ومشكلاته، وللفكر والعقل العربي بنيةً وتكويناً، وموجهات واتجاهات، غير أن ما قيل وكتب بهذا الصدد على الرغم من أهميته العلمية وموضوعيته إلى حد بعيد، وعلى الرغم من عمقه وسعة أفقه، إلاّ أنه لم يشكل جزءاً مهماً من وعي الإنسان العربي المعاصر عموماً، وإنما اقتصر على تعميق وعي نخب ثقافية وفكرية وسياسية تعيش اغتراباً مريراً في الواقع، وبينها وبين الجمهور الواسع فجوة كبرى. ذلك الجمهور الذي يعاني نسبة عالية منه من الفقر والأمية والتخلف والقهر الاجتماعي والسياسي. وترزح تحت وطأة مناخ تنتشر فيه، بحكم اليأس، القدرية والاتكالية والخرافات واللامعقول والظلامية. مما يعكس فشل النخب ذاتها في تحويل أفكارها إلى مشروع مجتمعي حضاري، وفشل الدولة في تبني مثل ذلك المشروع.
من الأمراض الشائعة في الكتابات النقدية العربية هو محاولة كل مفكر وكاتب نسف كل ما قاله مجايلوه ومن سبقوه في الكتابة النقدية، فمع بدء أحد هؤلاء بتحليل وتفكيك الخطاب العربي المعاصر ونقده فإن وازعه المسبق يكون دحض وتقويض وتسفيه وتسخيف (وفي بعض الأحيان تجاهل) طروحات أولئك الذين خاضوا قبله معمعة الممارسة النقدية. وقطعاً ليس انطلاقاً من موقف موضوعي يمكن أن يبني خطاباً يتفاعل ويتحاور مع ما توصل إليه السابقون، وإنما على أنقاض ما قالوه وطرحوه، وكأن وجود الكاتب والمفكر لا يتعزز إلا بطرد الآخرين من الساحة الفكرية والثقافية. وإذا كان أدونيس قد قال أن بنية السلطة العربية انشقاقية لا حوارية فإن الأمر ينطبق على بنية المجتمع الثقافي العربي أيضاً.
لكل مفكر مشروعه التنظيري، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، وهذا شيء حسن بحد ذاته، ولكن ما حصل عندنا كان على وفق منطق أن كل مشروع لا تقوم له قائمة إلا بالتصدي للمشاريع الأُخر بغرض تدميرها كما لو أننا في حرب قبائل (الجميع ضد الجميع) حتى ليظن صاحب كل مشروع أنه وحده يملك الحقيقة وما يقوله الآخرون ليس سوى أباطيل، وهذا يسري على مشاريع الأحزاب والقوى السياسية أيضاً، كما لو أن بنية كل عقل مفكر وكل حزب وكل حركة سياسية وكل مؤسسة اجتماعية تنطوي عربياً على عنصر ممانعة داخلية يجعلها ترفض الحوار والتواصل مع خارجها. في الوقت الذي لا يتأصل أي مشروع إلا بالتواصل ومد الجسور والتحاور مع المشاريع الأخرى. وهذا ما أخّر في نهاية المطاف بزوغ مشروع مجتمعي إصلاحي، تحديثي وتنموي، وعطّل محركات النهضة العربية الحديثة التي انطلقت منذ ممطالع القرن التاسع عشر.
بعد الهزيمة جرى نوع من الانسحاب إلى حالة من الصمت، أو إلى العدمية، أو الانغماس بجلد الذات.. لم تكن هناك خيارات واسعة، للوهلة الأولى، غير أن المفتاح الوحيد المتاح كان النقد؛ أن تتحسس النخب السياسية والفكرية والثقافية مواضع أقدامها مع السعي لرؤية نفسها في مرآة التاريخ والعالم. وكان قد برز أكثر من مشروع فكري جدّي وكبير في الوطن العربي، بعضها قبل حزيران 1967، وبعضها بعده (طه حسين، قسطنطين زريق، عبد الله العروي، صادق جلال العظم، عبد الله القصيبي، محمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، أدونيس، هشام جعيط، نصر حامد أبو زيد، سيّار الجميل، عبد الله الغذامي، عبد الله إبراهيم، محمود القمني، وغيرهم). وطال النقد السلطات السياسية العربية القائمة وكانت ثمة إشارات (وأحياناً تأكيدات مفرطة) على مؤامرات خارجية، إمبريالية الطابع والمقاصد، غير أن أكثر المحاولات النقدية جدية هي التي تجاوزت الخطوط الحمر اجتماعياً واخترقت المناطق المحرمة للتفكير. فيما طغى هوس التحرش بالتابوات، حيناً على استحياء، وحيناً بجسارة محسوبة، في أثناء تناول الهزيمة وعقابيلها في أعمال أدبية وفنية وفكرية شتى.
لم تكن قد مضت سنتين على الهزيمة حين أصدر صادق جلال العظم كتابيه الذين أثارا ضجة، تراوحت بين القبول والإنكار، في ذلك الوقت، وهما (نقد الفكر الديني) و (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وهذا يعني أنه لم يكن على مسافة زمنية مناسبة من ذلك الحدث لاستيعاب العوامل كلها التي أفضت إليه ومعطياته بعمق كافٍ، وجاءت بعض أحكامه متسرعة. غير أن ما كتبه في ذلك الحين يبقى خطوة جريئة ومهمة مهدت لآخرين تجرؤوا بهذا القدر أو ذاك لإكمال المشوار النقدي بعدما تصدى (العظم) لنقد الذات المهزومة وعبرها لنقد معتقدات هذه الذات، ولاسيما الدينية منها. ففي (نقد الفكر الديني) يخبرنا العظم منذ البدء أن كتابه يحوي مجموعة أبحاث تتعرض "بالنقد العلمي، والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني السائد حالياً، بصوره المختلفة والمتعددة في الوطن العربي"..
أما لماذا الفكر الديني فيقول أنه بعد هزيمة 1967 صارت "الإيديولوجية الدينية على مستوييها الواعي والعفوي هي السلاح النظري الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن". وينوه العظم إلى أنه لا يقصد الدين بعدِّه ظاهرة روحية نقية وخالصة كما نلمسها عند القديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة وإنما "مجموعة من المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان، في أوضاع معينة، إحاطة شبه تامة".
يعالج العظم بعد ذلك النزاع بين العلم والدين، أو مشكلة الثقافة العلمية والاعتقاد الديني، وينتقد كلاً من المواقف التبريرية (التسويغية) التي تحاول أن تجعل من أنظمة سياسية متباينة متساوقة مع مقتضيات الدين وحكم الشرع والمواقف التوفيقية التي تبحث عن قوانين العلم في النصوص الدينية. ويؤكد أنه لا يريد نسخ الشعور الديني في تجارب الإنسان من الوجود، ولكنه يرى ضرورة التمييز بين الدين وبين الشعور الديني "ذلك الشعور المسحوق تحت عبء المعتقدات الدينية التقليدية المتحجرة" على حد قوله.
وفي فصل مثير عن أسطورة ظهور العذراء في كنيسة الزيتون في القاهرة مثلما أشيعت يومها، ومحاولات ربطها بإزالة (آثار العدوان الصهيوني)!! يتحدث العظم عن الهستيريا الدينية الجماعية التي اجتاحت شرائح واسعة من المجتمع المصري، وسحبت إليها بعض الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية التي راحت تؤكد حدوث مثل هذه المعجزة الربانية، قبل أن يُسدل الستار عليها بعد مقتل وإصابة عدد من الأشخاص (بينهم نساء وأطفال) الذين سحقوا تحت أرجل الجمهور المتزاحم والمهتاج أمام الكنيسة.
وفي كتاب (النقد الذاتي بعد الهزيمة/ 1969) يكون ديدن العظم النقد أيضاً، بطبيعة الحال؛ يقول؛ "أرجو أن يكون التفكير العربي الواعي قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرد عملية تجريح. أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائص لا تنتهي. أي أن يكون قد حقق مستوى يعتبر على أساسه النقد أنه التحليل الدقيق بغية تحديد مَواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنقائص". ويدعو العظم إلى إحداث ثورة شاملة ضد التقاليد الاتباعية الموروثة "في الإنتاج والتفكير والتنظيم والحكم". والأخذ بالعلم والعصرنة، وإقامة دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتأخذ بالاشتراكية العلمية. ويخوض في بعض مسائل التكتيك والاستراتيجيا العسكرية، ويتطرق إلى الارتباطات العشائرية والعائلية والقبلية والقيم التي تفرزها فتتحكم بسلوك وعقلية الإنسان العربي وهي التي قادت موضوعياً إلى الهزيمة كما يعتقد. ويتحدث عن مشكلة التنشئة الاجتماعية في المجتمعات العربية وتعظيم الشخصية الفهلوية، وهذه أسباب، طبقاً لرؤيته، مهدّت للهزيمة.
إن أخطر ما يمكن أن يحصل للفرد أو لجماعة بشرية بعد الفشل هو الإحساس بالعجز، والأخير يفضي إلى الانكفاء أو الارتداد نحو الماضي حيث مستودع المجد والسؤدد، وحيث الأجوبة الكاملة عن الأسئلة كلها، مثلما سيعم الاعتقاد. ولذا لن تكون ثمة حاجة للتفكير؛ هكذا هو الأمر في عرف المتزمتين الأصوليين، فالأجوبة كلها موجودة، وقيلت من قبل السلف الصالح، بحسب ظنهم، وما علينا سوى استعادتها والإيمان بها من غير تشكيك أو أسئلة. وفي كتابه (المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي) يتحدث جورج طرابيشي عن "عصاب جماعي عربي" يرى أن العقدة التي ينتظم من حولها هي "عقدة التثبيت على الماضي في مواجهة حاضر جارح... إن هذه العقدة من طبيعة نكوصية" واللحظة التاريخية التي يحددها لاشتغال آلية النكوص، أي الارتداد إلى الوراء هي "رضة الهزيمة الحزيرانية التي كان لها مفعول ممرض على الشخصية العربية" كما يقول.
والإنسان المنكفئ على نفسه والمقتنع بما لديه لا يجد نفسه مضطراً للعمل والإنتاج والإبداع. وهذا بعد آخر من أبعاد شخصيته، فهو إنسان مهدور من جهة ومقهور من جهة أخرى، من وجهة نظر الدكتور مصطفى حجازي، في كتابين له هما (التخلف الاجتماعي؛ سيكولوجية الإنسان المقهور) و (الإنسان المهدور). وهذا الإنسان الذي يرزح تحت وطأة التخلف ويعاني الاستبداد والاستغلال ينزع كرد فعل إلى الكسل، فهو يواجه المتسلط المستغل من خلال الكسل "فهو يبذل الحد الأدنى من الجهد المنتج. يضيع الكثير من طاقته دون مردود... كما أنه يغرق في حالة من الخمول والجمود، يفتقد المبادرة، ويفتقر إلى الإبداع". بالمقابل نراه يميل إلى التعصب والعنف. وبتعبير الدكتور حجازي "فالجماهير المغبونة والمقهورة متعطشة بشكل مزمن للقوة في مختلف رموزها وعبر شكليها الأساسيين؛ البطش والغلبة من ناحية، والعظمة والتعالي من ناحية ثانية" وهنا يمكن أن تنقاد بسهولة وراء زعيم فاشي بعد أن تتعطل لديها الإرادة والقدرة على الاختيار والنقد والتقدير، "ولا يبقى سوى طاقة انفعالية متفجرة، تفيض على كل شيء، وتكتسح أي صوت للعقل..". فتفجر الطاقة، هنا، لن يكون معقلناً وموجهاً نحو غايات فيها الخلاص وتجاوز اعتباطية الحياة واستمرار منطق الهزيمة والهدر الوجودي، وإنما العكس تماماً.
لا حل إلاّ بالتوجه نحو المستقبل والأخذ بأسباب الحداثة وتنوير الوعي الاجتماعي، وترسيخ قواعد دولة القانون والمؤسسات، وتحقيق التنمية المركبة الشاملة باستثمار عقلاني للطاقات والموارد، وفي ظل العدل الاجتماعي ومنح الحريات الأساسية وتكريس الديمقراطية السياسية. وفقط في مثل هذه الأجواء تستطيع الذات المهزومة استعادة توازنها وعافيتها وقدرتها على العطاء والإبداع، ووضع حد لما سمّاه الدكتور مصطفى حجازي بالهدر الوجودي.
تتراكم الكتابات النقدية العربية، وتشق لها طريقاً صعباً، ولكن مؤكداً، وهذا، لا شك، هو الشرط ألأول لخروجنا من دوامة الهزيمة وتداعياتها؛ عقليةً وقناعات، ومنطقاً فكرياً، ومناخاً سيكولوجياً واجتماعياً، ووضعاً سياسياً واقتصادياً، وواقعاً مأزوماً.