صادق جلال العظم.. اشراقة للعقل النقدي والفكــر العربي

صادق جلال العظم.. اشراقة للعقل النقدي والفكــر العربي

شاكر فريد حسن
جلال العظم من أئمة الفكر وقمم الهرم العقلي ورواد المنحى العلماني الممتلئين بحلم التنوير والتطور والمعرفة والتقدم الثقافي والعلمي الحضاري، ومن الأعلام الفكرية والفلسفية الشامخة في الثقافة العربية التقدمية المعاصرة. ويؤكد ذلك ما للرجل من مساهمات في حقول الكتابة الفلسفية التنظيرية والفكرية الناقدة ذات السمعة في الوطن العربي.

وهو من مواليد سوريا، عاش فيها ردحاً من الزمن وانتقل للعيش في بيروت. درس الفلسفة وعمل محاضراً في الجامعة الامريكية فأستاذاً في جامعة "عمان" بالاردن، الا ان النظام الملكي الحاكم ضاق به ذرعاً وطرده من أروقة الجامعة، بسبب أفكاره المعارضة والمغايرة ومواقفه اليسارية الحادة وكتاباته الفلسفية والتنويرية العقلانية، فعاد الى دمشق ليعمل في جامعتها وتولى قسم الفلسفة فيها ثم سافر الى الولايات المتحدة ليعمل استاذاً زائراً في جامعة "برنستون".
وصادق جلال العظم يتسلح بأداة معرفية منهجية ويلعب دوراً بارزاًفي التنظير النقدي والفلسفي ومتابعة الظواهر المتعلقة بثقافتنا العربية والقيام بتحليلها وتعليلها وتشخيصها ضمن سياقها التاريخي والمجتمعي القيمي واستخراج ما تنطوي عليه من دلالات ايجابية أو سلبية بهدف الارتقاء بهذه الممارسة وتمكينها من الوصول الى غايتها المرجوة، واضفاء المزيد من العقلنة على الهوية الثقافية العربية.
خاض العظم معارك سجالية فكرية وثقافية طاحنة، وكثيراً ما ثارت في وجهه الزوابع والعواصف الهادرة بسبب آرائه ومعتقداته وطروحاته وكتاباته الفلسفية النقدية، التي كرسها في خدمة التنوير والعقل النقدي والابداع الحقيقي. وانطلاقاً من الدور الحضاري والجوهري الذي تؤديه الثقافة في تشكيل الوعي الجمعي فأن العظم يعد هذا الميدان جبهة أساسية لنشر المعارف العلمية وتصفية مخلفات الماضي وتحرير العقول والأذهان من الأوهام الخرافية والاسطورية وتكريس الرؤية العصرية العلمانية،واذكاء مسيرة العرب التحررية الوحدوية.
وضع صاق جلال العظم كتباً ومنجزات فكرية وثقافية هامة استهلها بكتابه " النقد والنقد الذاتي بعد الهزيمة" الذي ضم دراساته ومقالاته في نقد هزيمة حزيران 1967 ثم كتابه " نقد الفكر الديني" الذي كتبه ـ كما يقول ـ بروح ما يسمى بالعلوم النقدية التي تعالج موضوع الدين أو ظاهرة الفكر الديني. وتلاهما بكتابه " دراسات يسارية في فكر المقاومة الفلسطينية" وبعد ذلك أصدر " الصهيونية والصراع الطبقي" و" الحب والحب العذري" و" سيتاسة كارتر والحقبة السعودية" و" زيارة السادات وبؤس السلام العادل " و"دراسات في الفلسفة المعاصرة" و" الاستشراق" اضافة الى كتبه الهام " ذهنية التحريم" الذي يتناول بالدراسة النقدية الأدبية والتاريخية المقارنة أدب سلمان رشدي والتفجير النووي الذي أحدثته رواية"ايات شيطانية" في الساحة السياسية والثقافية العالمية، بمنهج مضاد لمنهج ذهنية التحريم والتكفير وعقلية التجريم وشريعة القمع الفكري والارهاب الاصولي المتطرف، مؤكداً على أن الحوارات والمناقشات والمداخلات التي تناولت رواية سلمان رشدي انطوت على مشكلات بدائية معينة، وأن الكثيرين من المثقفين والصحافيين والنقاد والأكاديميين تورطوا بالهجوم على كتاب لم يقرأوه وعالجوا المسألة وكأن رشدي فقيه وعالم منطق بدلاً من أن يكون فناناً وأديباً. وكذلك عدم احترام النقاد لعقل القارئ العربي وسلب حقه البدائي في أن يكون حكماً بنفسه ولنفسه، ويضاف الى ذلك كتابه " ما بعد ذهنية التحريم" و" ثلاث محاورات فلسفية دفاعاً عن المادية والتاريخ".
صادق جلال العظم يختلف عن المثقفين والمفكرين والمبدعين العرب بأنه ليس من المدافعين عن حرية الكلمة والفكر والابداع فحسب، وانما من المطالبين بوجوب تحرير النص من القداسة وطرح السؤال حول المقدس. ومن هنا تتجلى جرأته وشجاعته واستثنائيته، كما انه يقف دائماً في وجه حملات القمع الشاملة التي لا تمس أشخاصاً مثقفين فقط، وانما تمتد الى القيم الثقافية الحديثة العصرية برمتها، وتدمر العقل والثقافة والانسان.وفي الختام، صادق جلال العظم فيلسوف ومفكر تحرري وباحث عميق، يناقش بشجاعة وصلابة وبدون خوف، الكثير من الممنوعات ويطرح قضايا فكرية وفلسفية وثقافية، كاشفاً أورام الثقافة العربية السائدة وداعياً الى كسر المحرمات، مشدداً على أهمية النقاش والجدل والحوار العقلاني والتحليل العلمي واثارة الأسئلة. وهو يجمع بين السياسة والثقافة والأدب،وبمساهماته يقدم صورة جديدة للنخبة والصفوة الفكرية المثقفة الطليعية غير المساومة وذات المواقف العلمية الدقيقة والرؤية العقلانية المستنيرة المتطورة.