سبينوزا..... الحــرية باعتبارهــا وعيــاً للضــرورة

سبينوزا..... الحــرية باعتبارهــا وعيــاً للضــرورة

د. برهان شاوي
حينما كان مؤسس العقلانية في الفكر الأوربي الحديث (رينيه ديكارت 1596-1650) معتكفا في هولندا، ونشر دونما إشارة للمؤلف، خوفا من رجال الدين وقوى الظلام والانغلاق الأصولي في فرنسا، كتابه الخالد (مقال في المنهج) في العام 1637، كان (بندكت باروخ سبينوزا 1632-1677) يبلغ من العمر خمس سنوات فقط.

وبعد عشرين عاما من رحيل (ديكارت) عن عالمنا، وفي العام 1670 ينشر الفيلسوف الهولندي (سبينوزا) كتابه الشهير (رسالة في اللاهوت والسياسية) وبدون اسم المؤلف أيضا. ونتيجة للصخب وردود الفعل الهائجة ضده من قبل رجال الدين فأنه أحجم عن نشر كتابه الثاني (الأخلاق) الذي نُشر بعد أشهر من وفاته من قبل أصدقائه وتلامذته.
(سبينوزا) كما يرى (هاشم صالح) في كتابه (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا – دار الساقي- بيروت 2010): (الواقع أن سبينوزا هو فيلسوف التنوير قبل أن يظهر التنوير كحركة فكرية شاملة أو كتيار ضخم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فهو الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع عشر – أي قبل مائة عام من ظهور فولتير، ديدرو، وروسو – كان قد واجه رجال الدين قبلهم وفي ظروف أشد صعوبة وخطورة. بهذا المعنى فهو الرائد الأول في صحراء شاسعة من الفكر حيث لم يكن أحد حوله لكي يدله على الطريق، أو يتفهم همومه، أو يتواصل معه). والحقيقة أن (سبينوزا) لم يكن في صحراء شاسعة من الفكر حيث لم يكن أحد يدله على الطريق، فقد كان معاصرا لعدد من الفلاسفة والفنانين أمثال: الفرنسي بليز باسكال (1623-1662)، والإنكليزي جون لوك (1632-1704)، الفرنسي نيقولا مالبرانش (1638-1715)، الألماني جوتفريد لايبتنز (1656-1716)، بيير بايل (1647-1706) وفي عصره انتعشت الفنون حيث كان معاصرا للفنان رامبرانت وكتاب المسرح كورني ومولير وغيرهم. كما أن عصر النهضة الأوربية كان قد بدأ مع بداية القرن الرابع عشر تقريبا، لاسيما في ايطاليا رغم السلطان السياسي والديني والفكري للكنيسة الكاثوليكية. كما شهد القرن السادس عشر ظهور نيقولا مكيافيلي (1469-1572) الذي نادى بضرورة فصل الدين عن السياسة، كما شهد ظهور توماس مور (1478-1535) الذي رسم صورة للمدينة الفاضلة في كتابه (يوتوبيا)، وظهور فرنسيس بيكون (1561-1626) الذي يعد مؤسس العلم التجريبي والداعي الى تحرير العقل من الأوهام، وحيث كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر قد شهدا الثورة العلمية العظيمة في الكيمياء والفلك والطبيعيات والرياضيات وظهور الاختراعات العديدة كالترمومتر والبارومتر والميكروسكوب والتلسكوب واكتشاف الدورة الدموية وغير ذلك، وكان ذلك بعد ظهور علماء أمثال كوبرنيك (1473-1543) وكبلر (1571-1630) وغاليليو غاليلي (1564-1642) إلى جانب رينيه ديكارت (1596-1650) الذي أطلق عليه الفيلسوف برتراند رسل في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1977) لقب (أبو الفلسفة الحديثة)، وبالتالي لم يكن (سبينوزا) نبتة غريبة في صحراء.
رسالة في اللاهوت والسياسة
في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) أشعل (سبينوزا) ثورة حقيقية في الفكر الديني والواقع السياسي. وكما يوضح (د. حسن حنفي) في مقدمة ترجمته للكتاب (للرسالة هدفان: الأول إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطراً على الإيمان، أو بتعبير آخر، أن العقل هو أساس الإيمان، والثاني إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطراً على سلامة الدولة، أي أن العقل أيضاً هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة).
وبالرغم من أن (سبينوزا) يناقش في تسعة عشر فصلا من كتابه المكون من عشرين فصلا تاريخ العبرانيين وكتبهم وأسفارهم المقدسة وأنه في الفصل السادس عشر يتناول فقط (مقومات الدولة، حق الفرد الطبيعي والمدني، حق الحاكم) وفي الفصل العشرين يتناول البحث حرية الفكر والتعبير ويعنونه (حرية الفكر والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة) إلا أن الكتاب يُعد واحدا من أهم الكتب التي أسست لبناء المجتمع المدني الحديث.
فكما يوضح (د. حسن حنفي) في مقدمته إن هدف رسالة (سيبنوزا) كانت ليس فقط لدراسة الصلة بين الدين والدولة أو كما سماها (اللاهوت والسياسة)، وإنما أيضا لدراسة الصلة بين السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية، من حيث أن اللاهوت ليس نظرية في الله فقط بل على أساسه تنشأ منظمة اجتماعية، وأن الدين ليس عقائد فحسب وإنما ينشأ عنه نظام سياسي، أن (سبينوزا) في رسالته بين أن (حرية الرأي) هي ضرورة للسلام الداخلي في الدولة(فحرية الفكر هي دعامة للرأي العام، والرأي العام هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية).
الحق الطبيعي
في الفصل السادس عشر من كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) يطرح (سيبنوزا) مفهوم (حق الفرد الطبيعي والمدني) حيث يكتب: (نتساءل أولاً ما الحق الطبيعي لكل إنسان، بغض النظر عن الدين والدولة. أعني بالحق الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتمياً على نحو معين). ويعلق (د. حسن حنفي) موضحا هذه الفقرة قائلا: (الحق الطبيعي ليس قوة أو سلطة شرعية يمتلكها الإنسان لأنه لا توجد في الطبيعة قوة شرعية أو لا شرعية، أي أنه حقه في المحافظة على وجوده وهو الحق الذي يتمتع به كل فرد).
(سبينوزا) يوضح فكرته أكثر: (الواقع أننا إذا نظرنا إلى الطبيعة في ذاتها، نجد أنها تتمتع بحق مطلق على كل من يدخل تحت سيطرتها أي أن حق الطبيعة يمتد بقدر امتداد قدرتها، لأن قدرة الطبيعة هي قدرة الله نفسه الذي له حق مطلق على كل شيء). هذه الفكرة تتوضح أكثر في كتابه (الأخلاق) حينما يؤكد فيه بأنه ليس في الطبيعة خير أو شر لأن الخير والشر نسبيان، رغم أن الطبيعة لا تسير وفقا للعقل الإنساني أي أنها لا ترعى مصلحة الإنسان الفرد. وينظر (سبينوزا) لبعض جوانب الشقاء البشري حينما يؤكد بأن (الجميع يولد في حالة من الجهل المطبق، وقبل أن يستطيعوا معرفة الأنموذج الصحيح للحياة وممارسة الحياة الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى لو كانوا على مستوى عال من التربية). كما أنه يستبعد بأن الناس يتركون أنفسهم لهداية العقل وحده، إذ تسيطر على كل فرد شهوته، وكثيرا ما يسيطر عليه البخل والغرور والحسد والكراهية إلى حد يستحيل معه سماع صوت العقل. ويحاول أن يقدم شرطه الذي يمكن أن يتكون به مجتمع إنساني دون أدنى تعارض مع الحق الطبيعي، ويمكن به احترام كل عقد احتراماً تاماً. هذا الشرط (هو أنه يجب على كل فرد أن يفوض إلى المجتمع كل ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا المجتمع الحق الطبيعي المطلق على كل شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعين على كل فرد أن يطيعها إما بمحض اختياره، وإما خوفاً من العقاب الشديد. ويسمى نظام المجتمع الذي يتحقق على هذا النحو بالديموقراطية. فالديموقراطية هي اتحاد الناس في جماعة لها حق مطلق على كل ما في قدرتها. وتترتب على ذلك النتيجة القائلة: إن الحاكم لا يلتزم بأي قانون، ويجب على الجميع في كل شيء، لأنهم فوضوا له، بموجب عقد صريح أو ضمني، كل قدرة كانت لديهم على المحافظة على أنفسهم، أي حقهم الطبيعي كله).

ينتبه (سيبنوزا) لما قد يفهم من ظاهر هذا الكلام فيجيب: (قد يدعّي مدع أننا بهذا المبدأ نحيل الرعايا إلى عبيد، إذ أن العبد، كما يظن الناس، هو من ينفذ أمر إنسان آخر، والحر من يفعل ما يشاء. غير أن هذا ليس صحيحاً صحة مطلقة. فالواقع أن الفرد الذي تسيطر عليه شهوته إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى أو يفعل ما تتطلبه مصلحته الحقيقية، يكون في أحط درجات العبودية، أما الحر فهو الذي يختار بمحض إرادته أن يعيش بهداية العقل وحده، أما السلوك الذي يتحقق تلبية لأمر، أي بالطاعة، فمع أنه يقضي على الحرية على نحو ما، فإنه لا يجعل من يقوم به عبداً في الحال، بل أن الذي يجعله كذلك هو الدافع الموجه للفعل: فإذا كانت غاية الفعل تحقيق مصلحة الآمر بالفعل، لا مصلحة الفاعل، يكون الفاعل عبداً لا يحقق مصلحته الخاصة أما الدولة أو نظام الحكم الذي لا تؤخذ فيه مصلحة الآمر بوصفها قانوناً أسمى، بل تراعى مصلحة الشعب كله- فمن الواجب ألا يعد من يطيع الحكم عبداً لا يحقق مصلحته الخاصة، بل مواطنً، وعلى ذلك تكون أكثر الدول حرية تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم، ففي مثل هذه الدولة يستطيع كل فرد- إذا أراد- أن يكون حراً، أن يعيش بمحض اختياره وفقا للعقل).
غاية الـدولــة هي الحرية

في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) يركز (سيبنوزا) على مفهوم (الحق الطبيعي) و(الدولة الديموقراطية) و(حرية الفكر والتعبير) من منظار علم السياسة ونظريات المجتمع المدني، بينما يركز في كتابه (الأخلاق) على (فلسفة الحرية). وفي كتابه الأول يقدم هذا المفكر الكبير رؤيته لغاية قيام (الدولة)، مؤكداً: (إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداماً حراً دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع وبحيث يتعاملون معاً دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة). ويمضي أكثر في تفكيك منظومة هذه الدولة وعلاقتها بالفرد فيكتب: (لما كانت أحكام الناس، إذا ما تُركوا أحراراً، تختلف فيما بينها كل الاختلاف، ولما كان كل فرد يظن أنه وحده الذي يعلم كل شيء، ونظرا إلى أن من المستحيل أن يفكر الناس كلهم ويعبروا عن أفكارهم بطريقة واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخل كل فرد عن حقه في ان يسلك وفقاً لما يمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم).

في (رسالة في اللاهوت والسياسة) يركز (سيبنوزا) على دور الفرد في الدولة وغاية الدولة وحرية التفكير والتعبير وجدل العلاقة بينهما، لذا فأنه يقترح في نهاية كتابه مباديء ستة أساساً للدولة الديموقراطية، هي:

يستحيل سلب الناس حرية التفكير والتعبير

لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة أو حقها

لا يمثل التمتع بالحرية الفردية أي خطر على سلامة الدولة

لا تهدد الحرية الايمان بالأديان

تعجز القوانين الصادرة على تنظيم الأمور النظرية

ضرورة الحرية الفردية للمحافظة على السلام وعلى الأيمان وعلى حق السلطة العليا.

قوة المعرفة والحرية الإنسانية

هذا هو عنوان الفصل الخامس من كتاب (الأخلاق) المنشور بالألمانية (سبينوزا– الأخلاق- كتابات – رسائل- الترجمة الى الالمانية كارل فوغل – منشورات كرونر- شتوتغارت – 1982) وفيه يقدم (سبينوزا) أثنتين وأربعين مقولة فلسفية وأخلاقية مع تقديم الدليل والإثبات لها.

المبدأ الأساس الذي تقوم عليها فلسفته في (الحرية) هي أن الإنسان جزء من الطبيعة وأنه موضوع يتميز بجانبين الأول طبيعي (فيزيائي) وآخر نفسي (سايكولوجي). صحيح أنه يعود إلى (ديكارت) في مفهومه للإرادة باعتبارها فعل يقود إلى الخطأ لكن مع نوع من القلب للمفهوم الديكارتي، فلديه أن (الرغبة) هي التي تشكل (ماهية الإنسان)، بل أن النفس البشرية ليست جوهرا مستقلا ومتميزا وإنما هي صوت الجسد وتجليه.

وفي كتابه المهم (سبينوزا– الفلسفة الأخلاقية – دار التنوير- بيروت- 2008) يقدم (د. زيد عباس كريم) تعليقه على هذا الجانب لدى (سبينوزا) قائلا: (هنا يقوم سبينوزا بمماهاة خطرة بين الجسد والنفس وبين الرغبة والفكرة. وهذا الجمع بين سجلين لا يمكن أن يجتمعا أبدا إلا إذا تخلينا في الوقت نفسه عن مبدأ المعقولية وعن مطلب الحرية. على اعتبار أن التصور الشائع للحرية يعني غياب الموانع والضرورات، وان الأفعال الإنسانية تتأسس على إرادة إنسانية حرة في أن تفعل ما تشاء، ويتأسس هذا التصور كله على فكرة الثنائية للنفس والجسد. فالقول بالثنائية يؤدي إلى علو النفس، وحرية الإرادة الإنسانية، إذ أن استقلالية النفس عن عالم المادة والضرورة يّمكن من اعتبار الإرادة الإنسانية حرة).

في المقولة الثامنة والأربعين من الفصل الثاني من كتاب (الأخلاق) يكتب التالي: (إن النفس لا تمتلك أية إرادة حرة أو مطلقة، وإنما هي مسيرة في هذا أو ذاك من خلال علة ما، والتي هذه بدورها مسيرة من خلال على أخرى، وهذه بدورها أيضا من خلال علة أخرى مسيرة، وهكذا إلى ما لا نهاية). ووفق فلسفة (سبينوزا) فأن العلة الحرة المطلقة الوحيدة هو الإله، وبالتالي فان كل ما يحدث في الوجود يصدر عن قدرته اللامتناهية، أي أن كل ما يحدث في الوجود مرتبط بعلة إلى أن تصل الأشياء إلى الله الذي هو علة بدون معلول، وبالتالي فان حرية الإنسان نسبية وأنه من المحال أن يكون حرا فكل حركة من مرتبطة بعلة خارجية.
إنه يؤمن بمبدأ (الحتمية) في مواجهة (حرية الإرادة) فهو يعتقد أن (حرية الإرادة هي وهم لأنه جهل مطبق بمبدأ السببية)، بل أنه لا يرى تعارضا بين (الحرية) ومبدأ (الحتمية)، فإذا ما كان الإنسان منسجما مع دواخله وطبيعته و(حتميته الباطنية) فانه (حر)، بينما أنه ليس كذلك إذا ما تم التحكم به وتم إرغامه من الخارج وبالتالي فان (الله وحده هو الحر). إن هذا الموقف ينسجم أصلا مع موقفه الفلسفي فهو يؤكد في المقولة التاسعة والعشرين من الفصل الأول من كتاب (الأخلاق) والذي يحمل عنوان(عن الله) ما يلي: (في طبيعة الأشياء لا توجد أية صدفة، وإنما كل شيء تقرره ضرورة الطبيعة الإلهية بطريقة تحدد وجود وتأثير ذلك الشيء)- (النص بالألمانية)، بل أنه في المقولة الثانية والثلاثين يعيد تأكيده قائلا: (لا يمكن تسمية الإرادة دافعا أو فعلا حراً وإنما هي ضرورة)،علما أن (سبينوزا) يستخدم مفهوم (الإنسان الحر) مرات عدة في مقولاته ويشرح فهمه تعليقا على المقولة الثامنة والستين من الفصل الرابع المعنون (عن اللاحرية أو الإرغام الإنساني) قائلاً:

(أنا أسمي الإنسان حرا وأقصد بذلك حينما يقوده العقل). وكذا يرد هذا المفهوم في المقولات 67,68,70,71,72,73. وفيها جميعا يؤكد على أن (الإنسان الحر) هو الذي يعيش دائما وباستمرار بإرشادات العقل. ومن هنا فأن (سيبنوزا) يرى بأن الإنسان يكون حرا حينما يدرك ويعي الأسباب والضرورات التي تقوده وتقود فعله، وبالتالي أن الحرية تعني وعي الضرورة، وإذا ما كان (سبينوزا) قد ركز أيضا على (الضرورة الإلهية) فأن (ماركس) أكد بعد قرنين من الزمان أيضا بأن (الحرية هي وعي الضرورة) بما في ذلك (الضرورة التاريخية).
إن مبدأ (الحتمية) الذي يؤكد عليه (سبينوزا) ينفي تمتع الإنسان بأية إرادة حرة، فحتى أفعاله التي يعتقد أنه حر في القيام بها هي في الجوهر نتيجة وتحصيل حاصل لضرورات كونية، لا سيما في تلك الأجزاء التي لها علاقة بالقوانين التي يسنها البشر وليس بالقوانين التي تتحكم بالوجود. وكما فسر (تيسير شيخ الأرض) الوهم البشري بحرية الإرادة والفعل بأنه نتيجة (حرية محتومة) وذلك في كتابه (الفحص عن أساس الأخلاق – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق – ط1- 1989) قائلا: (إن ذلك الفعل لم يكن حرا بحرية مطلقة، بل بحرية محتومة بحتميات كثيرة مختلفة: حتميات حاجاتنا العضوية وحتميات حياتنا الاجتماعية، وحتميات القوانين الاجتماعية، وحتميات القوانين الطبيعية. ولهذا كان الفعل الأخلاقي بالقياس إلى المعرفة محاولة تأليفية حرة تجتمع بين هذه الحتميات على وفق نماذج متعددة ومختلفة المستويات، يؤلفها كل فرد على وفق نظرته الى الكون). وهذا ما يصفه (د. حسن حنفي) بأنواع (الجبر) التي تحيط بالإنسان..