من نافذة السفارة البريطانية سنة 1941..السفير كورنواليس يصف ماحدث في العراق

من نافذة السفارة البريطانية سنة 1941..السفير كورنواليس يصف ماحدث في العراق

عبد التواب احمد سعيد
مع بداية الأزمة السياسية التي وقعت أوائل عام 1941م ودفعت الجيش إلى الإمساك بزمام الأمور لصالح رشيد عالي الكيلاني في الأول من نيسان من ذلك العام، وكانت السفارة البريطانية في بغداد ترصد الأحداث عن كثب، وتراقب التطورات حتى هروب الوصي على العرش من بغداد إلى البصرة عن طريق الحبانية.

في الثاني من نيسان 1941م وصل كينهان كورنواليس إلى بغداد لتسلم مهام عمله سفيراً جديداً لبلاده، وقد أشار في التقارير الأولى التي أرسلها إلى وزارة الخارجية البريطانية إلى أن رئيس الوزراء الجديد رشيد عالي اتصل بالسفارة عن طريق المستشار البريطاني في وزارة الداخلية العراقية، وطالب اعتراف بريطانيا بحكومته. غير أن الانكليز كانوا في وضع منزعج، فقد امتعضوا تماماً من الانقلاب العسكري وعودة الكيلاني إلى الحكم رغم اظهاره الولاء لمعاهدة عام 1930م باعتبار أن ذلك لم يكن منه إلا ستاراً يخفي وراءه حقيقة تعامله مع ألمانيا لاشتراكها في عمل عسكري إلى جانبه ضد بريطانيا كما قال السفير.
والحق أن كورنواليس أبدى فيما بعد رأيه، ومن خلال خبرته الطويلة بشؤون العراق، فيما يتعلق بشؤون الحكم قبل أحداث عام 1941م، حيث أشاد بقدرات الملك فيصل الأول 1921- 1933م، وأنتقد ما أسماه ((طيش)) الملك غازي 1933م – 1939م وخجل وتردد وجبن الوصي عبدالاله وعدم كفاءته في اختيار العناصر الجيدة لمساعدته، كما انتقد أيضاً قلة وجود القوات البريطانية في العراق، مهاجماً الكيلاني بقوة ؛ لأنه اعتمد على من أسماهم ((زمرة من السياسيين والضباط المتأثرين بالنظام العثماني التركي)).
وأنهم أصبحوا مقبولين من الشعب بسبب مواقفهم من بريطانيا وأساليبهم المضادة لها. وبسبب ضعف الإدارة والحكم قبل وصولهم، وقوة الدعاية الألمانية التي تولاها رجل نشط متمرس هو الدكتور فرتز غروبا Fritz Grobbe.
لم تلبث الأحداث أن تطورت بسرعة لتصل إلى الحرب بين القوات البريطانية والجيش العراقي، والتي انتهت بالاحتلال البريطاني الثاني للعراق، ومغادرة قادة الحكم إلى خارج العراق... وخلال ذلك أرسل السفير تقارير عديدة دعا في أحدها إلى ضرورة عودة الوصي على العرش عبدالإله إلى بغداد، وتشكيل حكومة تكون مهمتها الأولى إعادة إنشاء علاقات مع بريطانيا وإعادة الانضباط للجيش والشرطة، وطمس معالم دعايات المحور، وإنشاء محاكم خاصة لمحاكمة الثوار... غير أنه تحدث بمرارة عن بقاء العناصر المعادية لبريطانيا في الجيش والدوائر العامة وهو ما جعلهم يشكلون معارضة واسعة الانتشار.
أما الجيش العراقي، فإن السفير وجه إليه اهتماماً خاصاً في تقاريره، فهو يقول مثلاً: "يشكل الجيش عنصراً فعالاً وخطراً لأن مرارة الهزيمة (كذا) تشكل بين أفراده نيران الحقد ضد البريطانيين وهي نيران تحت رماد من السكون الظاهر".
وحول الشؤون الداخلية العراقية البحث نجد آراء السفير واضحة جلية مترابطة مع نظرته للعلاقات التي كان يريدها أن تقوم بين العراق وبريطانيا.

أ – ((العلاقات العراقية البريطانية))
أكد كورنواليس في تقاريره على ضرورة اتباع سياسة خاصة من أجل الاحتفاظ بعلاقات سماها كورنواليس ودية مع العراق أهم سماتها: -
أولاً: - المعالجة المتفهمة والمتعاطفة مع المشاكل العراقية من قبل الحكومة البريطانية وبالذات الاقتصادية المتعلقة بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إن معالجة كهذه ستجعل هذا الشعب يحس بأنه محاط برعاية الآخرين، وأن ارتباطهم معنا سيعود عليهم بمنافع مادية.
ثانياً: - يجب أن يتحلى كل موظف ترسله بريطانيا إلى العراق بشخصية دقيقة ومطلعة. كما تحدد نفوذ السفير ضمن مهام منصبه فقط، والنفوذ الحقيقي داخل الحكومة يتركز في أيدي الموظفين البريطانيين، وإذا وفرنا رجالاً أكفاء فإنه ما من شك بأن العراق سيطالبنا بالمزيد، ولا يجدي نفعاً أن نفرض الموظفين بالقوة على الحكومة العراقية. ويجب أن نتذكر دائماً بأن العراقيين شديدو الحساسية من الأجانب الذين يتقاضون أجوراً أعلى من الوزراء أنفسهم.
ثالثاً: - من الأهمية بمكان أن نبقي في أيدينا ما قمنا به من الاتصالات الشخصية، كما علينا أن نستمر بالاحتفاظ بهيئات المستشارين السياسيين والعلاقات العامة أطول فترة ممكنة، وعندما يحين الوقت الذي نتخلى عنها يجب أن نعمل على إبقاء بعض المفتشين الإداريين في المدن، ولأجل ذلك يجب أن نعمل على تعيين مستشارين أكثر تكون واجباتهم بصورة رئيسة سياسية واجتماعية. فضلاً عن اعطاء الأهمية البالغة للاتصالات الشخصية التي أهملت لسنوات. وهذه مهمة العلاقات العامة ومنظمة إخوان الحرية التي تشكلت في منتصف عام 1941م. كل هذه الأجهزة تعمل متقاربة ومتفاهمة.
إن أهداف كورنواليس من كل ما تقدم هي: -
1 - ضمان كافة التسهيلات للأغراض الحربية.
2 - اقتلاع جذور – النازية – كما يسميها كورنواليس، وتغير وجهة نظر الشعب، وتعزيز موقفه عن طريق توعية الناس بأهمية التحالف مع بريطانيا.
3 - التأكيد على الصداقات القديمة (بالشخصيات السياسية وشيوخ العشائر).
وعندما أعلن العراق دخوله الحرب بجانب الحلفاء ضد ألمانيا يوم 17/1/1943م تحسنت العلاقات أكثر. ولم تعد نظرية بغض الانكليز موضع فخر البلاد وبين طبقات الشعب. وأبدت حكومة نوري السعيد أعلى درجات التعاون مع بريطانيا. لكن السفير البريطاني حذر حكومته قائلاً:
((يكون خطأ جسيماً الافتراض بأنه في مقدورنا الاسترخاء في المقاعد الخلفية في أمان لأن المشهد في هذا البلد يمكن أن يتغير بسرعة مذهلة، كما أن المشاكل ستزداد في العراق كماً وتعقيداً كلما انحسرت الحرب أكثر فأكثر عن الشرق الأوسط.
نظرة السفير إلى الرأي العام))
بعد مرور عام على ثورة مايس 1941م تمت محاكمة قادة الثورة وصدرت بحق بعض منهم حكم الاعدام الذي نفذ في ايار 1942م. ويبالغ كورنواليس في وصفه للاعدامات وإلى أي مدى كان تأثيرها فيقول: "اظهرت التقارير أن أحكام الاعدام ينظر إليها عموماً بمثابة عقاب عادل".
- وهذا لا يتفق مع رأي شعب العراق – ويضيف كورنواليس قوله: "التخوف من الألمان لا يزال أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد لهم أي شعبية كما كان في السابق".
أما العسكريون فقد وصف لنا كورنواليس وجهة نظرهم بقوله: "إني لا أدافع عن الجيش العراقي ولكني أتساءل عما إذا ما كان موالياً لألمانيا كما كان يبدو فلماذا لم يعبر عن شعوره خلال محاكمة أعضاء اثنين من القادة الأربعة، وبعد اعدامهم، وكان يمكن أن يُرى على الأقل بعض علامات القلق في أثناء تلك الفترة. ولكن لم يردني تقرير واحد يشير إلى حدوث ذلك".
لم يدافع كورنواليس عن الجيش العراقي كما قال، لكنه ذكر حقيقة ونسى أن الجيش العراقي بعد فشل الثورة تحجمت قوته من خلال عملية التسريح والاحالة على التقاعد لخيرة الضباط.
ويبقى من المهم القاء نظرة على الوضع في شمال العراق والتأثيرات الفكرية على المجتمع العراقي حسبما نظر إليها السفير، فالشيخ محمود في شمال العراق رجل فوضوي متعجرف كثير المشاكل التي يثيرها أمام الإدارة والحكومة التي فرضت سلطتها بالتعاون مع القوات البريطانية... وتفاوضت مع الشيخ محمود الذي طالب بمطاليب معينة جعلت الوزارة ترفضها ؛ لأنها خطوة أولى واسعة نحو الحكم الذاتي. لكن الأمر الذي يهم السفير لم يكن إضعاف أو عدم إضعاف الحكومة في بغداد ولا خداع الشيخ محمود المتمرد، وإنما عدم قيام أي شخص أو زعيم بعرقلة المجهود الحربي البريطاني.
وخلال عام 1945 كان كورنواليس على وشك الرحيل عن العراق بعد انتهاء مهامه، شهد العراق تطورات مهمة مع انتهاء الحرب الثانية، عندما أرسل السفير أفضل تقاريره التي تعلقت بالوضع العام في العراق، ونظرته للرأي العام وأرائه بشأن المستقبل. فالهدوء سمة واضحة في العراق بعد فشل ثورة الكيلاني، لكن ذلك لم يكن ليدوم فترة طويلة أو يمكن لأحد الاطمئنان إليه. ذلك أن النار التي ظلت تحت الرماد كما عبر عن ذلك القائد العام البريطاني جعلت إمكانية التغيير الدراماتيكي والسريع للوضع أمراً ممكناً مع عدم الوثوق بأي ضمان.
لم يكن الرأي العام بعيداً عن تفكير السفير فهو ينبه مسؤوليه إلى أهمية تأثر الجماهير بما تسمع، ويصف تلك الجماهير بأوصاف سيئة متمنياً نجاح الحكومة في بغداد بالتصدي للجماهير إذا لزم الأمر، ويورد هنا عبارة مهمة وصريحة تقول: "لا أحد في بريطانيا يدرك كم هو صعب حكم العراق حتى في وقت السلم".
شارحاً العوامل التي تقف وراء تلك الحقيقة، منها سنوات التخلف الطويلة التي عاشها البلد، ووجود نزعات مختلفة وحقيقة وجود تباين شاسع بين سكان المدن والبدو المسلحين، ثم مشاكل الحدود مع جيران العراق، وأخيراً مشكلة التمرد المزمن في شمال العراق والتي تبدو مصدراً للتوتر الشديد.
ومع أن عدداً من العوامل يبدو منطقياً، فإن الأمر الذي لم يشر إليه السفير هو أن بريطانيا نفسها مسؤولة عن بعض تلك العوامل.
ومن الجدير بالذكر، فإن السفير البريطاني كان يؤمن بأن الاستقرار لن يدوم فترة طويلة، فهناك ((أحقاد شخصية، ونزاعات داخلية، وضعف في الانسجام، وانحسار للروح الجماعية بين فئات الشعب، وتصميم سيء من الحكم القائم على استمرار الوضع على حاله)).
إنها عوامل مؤذية حقاً شكلت واقعاً في الأربعينيات، وسعى المخلصون إلى تجاوزها مع السنين. وكان للمثقفين دور كبير في هذا الشأن، غير أنهم في نظر السفير كانوا مندفعين نحو ما أسماه ((الأفكار السياسية السوفيتية دون إدراك منهم بطبيعة النظام السياسي السوفيتي حتى أصبحت الشيوعية واجهة تختفي وراء ستارها المعارضة النزيهة وغير النزيهة لتظهر بمظهر التقدمية)).
إن الوضع الذي بدأ يتبلور مع نهاية الحرب كان مؤشراً على بداية مصاعب أخذت تتسع مع الأيام لتصبح أصعب ما يواجه الانكليز، وهم يدعمون نظاماً حاكماً تقليدياًَ دون ظهور فريق حاكم جديد يمكن التعامل معه. لذلك فإن السفير يقول بصراحة: "إن مشكلة العراق الحقيقية ليست معنا، بل هي مع أولئك الحكام الذين يرفضون بعناد التنازل عن أي من امتيازاتهم للآخرين، مع خوفهم من المستقبل بعد نحذيرنا لهم من مخاطر المستقبل... وأن صداماً سيحدث بين من يملكون والذين لا يملكون".
ورغم المرارة التي كانت ظاهرة في تقارير السفير الأخيرة، فإن التمسك بوجهة النظر البريطانية في العراق بدت واضحة أكثر. إنه يشير بصراحة إلى أن الوجود البريطاني في العراق ومع نهاية الحرب كان قوياً جداً، لكن ذلك الوجود قد يتدهور رغم نموه المستمر خلال الحرب الثانية. ويبادرنا السفير بسؤال مهم حيث يقول: "إذا كان العراق غير ذي أهمية لنا فإنه يتعين علينا الجلاء عنه... ولكنه في الواقع مهم جداً بسبب موقعه الاستراتيجي والنفط والمواصلات... وإن بريطانيا لن تتركه هدفاً لأطماع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية... ويجب عدم السماح لموقفنا في العراق بالتدهور".
إنها نظرة شاملة وبعيدة، تلك التي كتبها كورنواليس، فالعراق مهم جداً لبريطانيا، ولم يكن سهلاً عليها أبداً التخلي عن نفوذها هنا لدول أعظم منها، لكن ظروف ونتائج الحرب العالمية الثانية، فرضت على بريطانيا تنازلات وتنازلات كثيرة وكبيرة في العالم.
ولأجل العمل على إبقاء النفوذ البريطاني قوياً في العراق أطول مدة ممكنة ((فإن توثيق الروابط بين الطرفين على أسس من التعاطف والتفهم، وحل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، وإشعار المواطنين العراقيين بأنهم محط رعاية الآخرين، كل ذلك كفيل بالنجاح في المساعي البريطانية من أجل عدم إضعاف العراق ؛ لأن إضعافه إنما هو إضعاف لبريطانيا وإيذاء لها. وإن على من يتعامل مع العراقيين أن يتجنب جرح كبريائهم ؛ لأنهم شديدو الحساسية والعاطفية)).
هكذا إذاً كانت الحقيقة، وهي أن إضعاف بريطانيا هو إضعاف للعراق والعراقيين، حتى إن السفير يطلب من مسؤوليه الكف عن أي موقف أو قرار يؤذي العراقيين... وينصحهم – ينصح المسؤولين الانكليز – إرسال شخصيات تمتلك خبرة عالية لتتولى وظائف تحتاج إلى الكفاءة، وتشعر الشعب هنا بأنها تستلم رواتب أو أجوراً عالية ؛ لأنها كفوءة ونشطة نظراً لحساسية العراقيين القوية تجاه الأجانب وأجورهم العالية. والابقاء على جسور الاتصال غير السياسية بين الانكليز والعراقيين، ومنها تعزيز الروابط الثقافية والعلمية من خلال المعاهد البريطانية.
*كان كينهان كورنواليس خبيراً بالشؤون العراقية، وعلى دراية واسعة بأحوال العراق ؛ لأنه شغل منصب مستشار لوزارة الداخلية العراقية منذ تكوين أول وزارة عراقية بعد تتويج الملك فيصل بن الحسين في 23 آب 1921م حتى عام 1935م. عندما أنهى رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية خدماته في عهد وزارة ياسين الهاشمي.
وعندما تولى مهام عمله سفيراً لبلاده أرسل عدداً كبيراً من البرقيات والمذكرات والتقارير إلى مسؤوليه في الخارجية البريطانية، اشتملت على قضايا واسعة ومتشعبة، وقد اخترنا عدداً منها. وتم الاطلاع عليها في دائرة السجلات العامة في لندن P.R.O. لتكون موضوع بحثنا هذا، وهي تشكل معلماً مهماً في تاريخ العراق المعاصر.
م. اداب الرافدين، العدد 33 (1988)