كولن ولسن.. اللامنتمي واستعادة اللغة المفقودة

كولن ولسن.. اللامنتمي واستعادة اللغة المفقودة

علي حسن الفواز
دائما يسحب ظله الثقيل، ويشدّ انفاسه في صدره ليوحي بانه اكبر من العالم الذي يحوطه، العالم الذي يتلصص عليه، ويهدد نظامه الانطولوجي بالغياب، انها بعض اغواءات لعبة اللامنتمي التي ارادها ان تكون كولن ولسن مواجهة مباشرة وساخنة مع العالم العقلاني جدا.

العقل ليس لعبة اثيرة في اشتراطات وعيه المتمرد، والعقلاء لايطمئن اليهم، لانهم الاكثر صناعة للشر، والاكثر صناعة للحروب والاستبداد والظلم، هذا التبرير(الشخصي)لفوبيا العقل اوهمه كثيرا بان اللامنتمي هو الكائن التطهيري الذي يشكل النموذج المتعالي لمفهوم بطولته، مثلما هو النوع الاخلاقي لجيل مابعد الحرب العالمية الثانية التي مات فيها اكثر من اربعين مليون انسان، والتي صنعها(جنرالات)عقلاء جدا، وربما صنعت بعض وجوهها فلسلفات وايديولوجيات(الانتماء)الشوفيني للعرق والقومانية، وربما بسبب العقلانية المفرطة التي فرضتها الدول المحاربة على كل شيء، على النظام السياسي، وعلى الايديولوجيا، وعلى الثقافة، وحتى على الجنود البسطاء المحرومين من الاجازات والليالي الملاح، ومن مضاجعة زوجاتهم على اسرّة نظيفة، وحتى سماع الموسيقى والتمتع بالطبيعة التي لاتنفجر تحت أقدامهم.
ربما كان سر اللامنتمي عند كولن ولسن يكمن في لعنة(البير كامو)هذا المغامر والمشاكس والمنحرف، والذي اوهمه كثيرا بان البطولة تكمن في تعاليات التمرد والنفور واللاوجودي، والاحساس الغرائبي باللامبالاة ازاء الاخرين، حتى قيل ان كتاب(اللامنتمي)الذي كتبه كولن ولسن عام 1956 هو الوجه الانكليزي لكتاب البير كامو(الغريب) أي ان هناك تماثلا افتراضيا بين الكائن اللامنتمي والكائن الغريب، لان كليهما يسعيان لتحقيق فكرة(الرغبة)التي هي جوهر الحرية، كما انهما يضعان الانسان صاحب هذه الرغبة/الحرية عند حافة القلق، والاحساس بان العالم اكثر اقترابا من العدم الذي يمثل الذروة او الموت، ربما ان عدم كامو كان عدما وجوديا خالصا، فيه الكثير من الفلسفة والاحساس المتعالي بحرية الفرد، والتمرد على النسق الاخلاقي للوجود، لكن عدم كولن ولسن هو عدم اقل فلسفة واكثر هشاشة، هو الاكثر تماهيا مع النموذج الفرويدي في اضطراباته النفسية والجنسية، حيث اللغة/الاعتراف/الكشف تكون هي نصه التعويضي الايهامي والاستغراقي، لكن مايجمعهما في هذا السياق هو الرغبة والتمرد، واللامكوث، والاحساس بعبثية الوجود.
شفرة اللامنتمي عند كولن ولسن تحولت الى شفرته الشخصية، بكل ماتفترضه من محمولات باعثة على استقراء نزعة التمرد العقلاني والطبقي والجنسي، وحتى التمرد اللغوي، فهو اذ عاش طفولة قلقة، ملتبسة، واقعية جدا، حالمة ومطرودة في آن، كل شيء فيها مهدد بالموت، فانه وجد مبكرا في لعبة الهروب من(العسكرية) مايماثل ابتكاره لعبة اخرى في مواجهة العالم العقلاني من خلال الافراط في النزوع الى الاحاسيس اللجوجة، والمشككة، وفي ابتكار المزيد من(فائض الوعي)الذي ساكنه، ليكون نوعا من التجاسر الرمزي على اية فكرة اخلاقية، وطبقية فيها بعض الرائحة الـ(فكتورية) بكل صرامتها وتقاليده، والتي تفرض عليه شروط الخضوع الى سياق التابع الفاقد لارادته، والعالق برهاب المقدس. اللامنتمي في هذا التوصيف كان نقيض هذا التابع، اذ هو صانع التمرد المبكر على العائلة والدين والطبقة وقيم العمل، ولعله وجد في اغلب الشخصيات التي قرأ عوالمها مبكرا، والتي دونها في كتابه(اللامنتمي) بدءا من لورنس مرورا بدستوفسكي وهمنغواي ونيتشه وفان كوخ وغيرهم، وانتهاء بهنري باربوس الذي كان يرى العالم من ثقب بابه، مايتوق الى التمثل به من عوالم هذه الشخصيات المضطربة، العصابية، التي لاتنتمي الى عقائد او احزاب اواديان معينة، والتي عاش فكرتها الساحرة، وكأنها فكرته الداخلية التي استغوته (لذتها)واثاراتها، بكل ماتستدعيه من صور، وبما تعالق بها مع الحيوات السرية لعوالم هذه الشخصيات التي كانت تطارده تماما، وتفرض عليها سحرها الغامض، وتجذبه الى استيهاماتها المهيجة لهواجسه الاشباعية، تلك التي ظلت تحاصره بالكثير من الكوابيس والتمردات، والاستعادات. هذه الشخصيات تحولت الى شخصياته، اذ وضع مفهوم اللامنتمي نسقا لكتابات اخرى، او سلسلة من الكتابات التي تكرس الاطار المفهومي والنفسي للامنتمي، فقد كتب ضمن هذه السلسلة كتب(عصر الهزيمة، قوة الحلم، اصول الدافع الجنسي، مابعد اللامنتمي) والتي وجد ان نظامها التشفيري يقوم على اللغة، اذ تحولت هذه اللغة، خاصة في مركبها ومحمولاتها الرمزية والنفسية الى فضائه الاثير الذي يجعله اكثر قدرة على التلصص على العالم. هذه النزعة الغرائبية عند كولن ولسن تحولت الى موقف شره من العالم، اثار حوله الكثير من اللغط، وربما الخوف، لانه كان يكتب منظوره الوجودي للشخصيات من منظور نفسي/عصابي، وان الايهام بانه يفلسف ماحوله، او انه يجد في فلسفة سارتر الوجودية بعض مرجعياته، اثبت ضعف ادواته الفلسفية وحتى ادواته العيادية، لذا ظل يبحث عن نزعات اخرى للدفاع عن لعبته الشاقة، فوجد في كتابة الرواية ذاتها الطريق السحري لصناعة شخصيات عصابية تشابهه، بعيدا عن استعاراته المربكة لشخصيات مثيرة ومحيرة من الاخرين، خاصة من الروائيين الذين يحبهم مثل مارسيل بروست..
كولن ولسن الروائي القلق..
كتابات كولسن الروائية، رغم كثرتها(طقوس في الظلام، ضياع في سوهو، رجل بلا ظل، القفص الزجاجي، طفيليات العقل، الاستحواذ، الحالم، وغيرها) لم تمنح ولسن خصوصية التفرد السردي، لانه كان يعيش هاجس اللامنتمي الذي ظل يلاحقه، ويفرض شروطه الحسية والنفسية عليه، ولانه كان يعيش ايضا الكثير من الطقوس الاستعادية للاخرين الذين يشاطرونه لعبة الاكتشاف، ففي رواياته نجد الكثير من خبرته المحدودة في المنظور الوجودي الفلسفي، او تمثله للنزعة التجريبية الدائمة في الكتابة الروائية، خاصة في نماذجها الرائدة لمارسيل بروست، وجيمس جويس، ولانه كان يؤمن ايضا باهمية عالم الرواية، بوصفه عالما للسرد الذي تفجره اللغة، وبوصفها ايضا بنية حكائية تتراكب فيها الشخصيات مع الاحداث، خاصة الشخصيات المأزومة القلقة، والاحداث التي تشتبك فيها ثيمات الجريمة والخطف والخيانة والمرض النفسي، ولعل كتابه المميز عن فن الرواية يضع منظوره للرواية بوصفها التحول الاخطر في اعادة كتابة الحياة والتاريخ والانسان، وانه يضعها المقابل الذي يواجه به مهيمنات الفلسفة المعيارية، حدّ انه يقول بان(الرواية قد غيرت ضمير العالم المتمدن) وان الرواية هي رمز للقوة المعرفية، لكن رغم هذا فان مايميز روايات كولن ولسن ليس قوتها البنائية كماهي عند الروائيين الكبار الذين تأثر بهم، بل بنيتها النفسية، وخصوصية شخصياتها التي تعيش فكرة اللاانتماء، والتي تجعل من هذه الروايات محتشدة بمكونات صراعية وازمات تعيشها شخصياته المضطربة وغير المنتمية(لصوص، مجرمون، خاطفون، منحرفون وشواذ)، والتي هي الاقرب الى ما يعيش تحت اضهاده من الهواجس الحسية التي تجد ان فكرة اللانتماء هي مثاله الفلسفي والنفسي وحتى الديني، الاّ انه يضعها في مركّب نفسي، صراعي، فيه الكثير من الاسترجاعات، والانحرافات والشذوذ والتمرد، وبما يضع ابطال هذه الروايات وكأنهم الاقنعة المتعددة لهذا اللامنتمي الذي لايرى العالم الاّ تحت هذا الهاجس المتعالي والعصابي والحسي.
ولسن القارىء المنحرف,
قراءات كولن ولسن لابطاله، هي صورة لنموذج القارىء الذي لايرى في العالم المقروء، الاّ مايشبع مخيلته المنحرفة، المخيلة المسحوبة الى طفولة غرائبية، والى وعي صادم، ليس مثاليا، لكنه صورة للوعي المأزوم بالكثير من الصور، والنماذج المرضية الجنسية والعاطفية، وهو مانجده في بطولات روايته المليئة بالشخصيات المنحرفة، وفي اختياراته لقراءة الشخصيات في كتبه الاخرى، اذ تبدو هذه الشخصيات وكأنها نماذج(عيادية)لفرويد الذي يمثل واحدا من رموزه الاثيرة.
لم تكن قراءته لكينونات هذه الشخصيات العارية في التاريخ والعيادة والسرد والواقع، قراءة مجردة، او لتحقيق التناغم النفسي الذي ينشده حسب، بل ان هذه القراءة تهيّج في نفسه ايضا احساسا عميقا بالانشداد الى مرجعيات منظوره الاول لفكرة اللامنتمي، ولانه يجد في الروايات العالم الذي يظنه اكثر حقيقة من الواقع، فهذا مايجعله اكثر تلذذا باستعادتها، وحتى تأطير كتبه الاخرى بهذا التمثل السردي، وحتى القصدية في استحضارمجاورة افتراضية بين قراءة الرواية وبين قراءة السيرة باخضاعها الى سحرية النص السردي، اذ ان هذا التركيب يتيح له معاينة نفسية لما تتركه من اثر في الوعي الانساني على اساس تداعيات هذا التجاور، والتي ستكون ايضا بمثابة مشاغل سريرية ووصفية للكشف عن ازمة(انسانه)المريض، واللامنتمي، ولانها ستلامس ايضا كشوفات وعيه في النص السردي، الذي يقابل النص العيادي عند فرويد ويونغ وادلر، وهذا مايجعله الاكثر تعبيرا عن وعي التحولات المعقدة التي يعيشها الانسان/انسانه بمواجهة ازمات الوجود والخوف والحرية، فضلا عن كشفه لسرائر وعي هذا الانسان ازاء ثيمات الصراع مع قوى غامضة بهدف الاستحواذ والهيمنة، واشاعة فكرة التعالي، والتي وجد في نموذج لورنس الانكليزي المحارب ايهاما سريا مع مثيولوجيا الحكمة الغائبة، والتي يختلط فيها النزوع الماسوني، مع عقدة الكائن المتعالي..
في كتابه الثاني(الدين والتمرد)الذي كتبه عام 1957 وضع تواصلا شعوريا ولغويا مع هذه النزعة الملتبسة الغاضبة التي عاشها، والتي عاشها كوعي وجودي صاخب، مثلما عاشها كنزعه نفسية مضطربة، ربما هي تشبه كل النزعات الفوضوية التي عاشتها الاجيال الغاضبة على محنة الحرب الطويلة والدامية، والتي كان الانسان الملتزم ضحيتها الاخلاقية. في هذا الكتاب حاول ان يزاوج بين نزعته العميقة للتمرد، وبين رواسب احساسه القديم المشغول بالتدين العائلي، والالتزام الواقعي بقيم الوجود والعمل، وكان يسعى تحت اندفاعات نزعاته الغرائزية واللغوية والنفسية الملتهبة الى تفكيك هذه العلاقة، وبالاتجاه الذي يجعل فكرة اللامنتمي هو نموذجه الانطولوجي القريب من كل الفلسفات الخارجة من(معطف)الالتزام.
اللامنتمي هذا السياق هو قرين ظاهرة الوعي الاشكالي الذي اصطنع لقوته حضورا متسائلا، اذ يعيش كل تمثلات الانسان المعاصر، وازمات وجوده وحريته، مثلما اصنع له وعيا فائقا بمواجهة التيارات المهيمنة للادلجة والواقعية والاشتراكية، والتي ظل العديد من الشيوعيين الاوروبيين يعيشون صراعاتها واسئلتها وفجائعها، والذين كانوا ينظرون الى النموذج الستاليني على انه يمثل رهاب تلك الواقعية والايديولوجيا والالتزام، وان الحرية بمعناها الانساني، تقتضي النزوع الى ماهو خارج هذا الرهاب، وهو ماعاشت تداعياته وفجائعه بعض دول اوروبا الشرقية التي ادركت ان الحرية تقع في الجوار وليس في الضفة الاخرى، وان كائن هذه الحرية هو صانع حرائق من طراز اخر، وان اول مايحرقه هو اوهامه في الخوف والمقدس والانتماء.
يرى كولن ولسن في هذا اللامنتمي بانه(الانسان الذي يدرك ماتنهض عليه الانسانية من اساس واه، وهو الذي يجد في الاضطراب والفوضوية اكثر عمقا وتجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه. انه ليس مجنونا، هو فقط اكثر حساسية من الاشخاص المتفائلين صحيحي العقول، مشكلته الاساسية هي الحرية، هو يريد ان يكون حرا، ويرى ان صحيح العقل ليس حرا واحسب ان هذا التوصيف تحول الى موقف، اكثر من دراسة منهجية في معاينة هذا النموذج، ولعل هذه المفارقة هي التي ابعدت كولن ولسن عن الاهتمام المنهجي العلمي كما عند علماء النفس الذين درسوا الشخصيات العصابية، وعند الروائيين الذين اختزلوا العالم في رواياتهم، فهو لم يصل الى مستوى سكوت فيتزجرالد الذي يعد بانه(شخصية القرن)اونموذج الشخصية المعاصرة، مثلما لم يصل الى مستوى جيمس جويس في ابتكاره لتيار الوعي في الرواية، وغيرهم.
القراءة العربية لكولن ولسن..
لعل من اكثر الذين اهتموا بفلسفات وادب كولن ولسن هم العرب، وقد ترجمت كل اعمال ولسن الى العربية، وبات نموذجه الحسي والعيادي، وصور الابطال الذين يختارهم في كتبه بدءا من اللامنتمي عام 1956 هو النموذج الاكثر اثارة واكثر استدعاء للتوظيف في المشغل الفكري الذي بدا ضاجا في بداية الستينيات، حيث كان الهم السياسي قرينا بالهم الجنسي، وان البطل المخذول سياسيا يتعالى جنسيا، ويجد في هذا التعالي بطولته الخبيئة، مثلما يجد في النزعة الفيتشية الجنسية ذروة هيجانه ولذته وتعويضه عن الخيبة. كما ان كتبه الاخرى وجدت في هذا الفضاء الرخو نوعا من التزجية التي تعطي لها الكثير من الدافعية، خاصة تلك الكتب التي مست التابوات العربية، بما فيها كتبه(اصول الدافع الجنسي والشعر والصوفية وضياع في سوهو).ونجد ان مبيعات كتب كولن ولسن وعدد الطبعات التي طبعت بها هذه الكتب تؤكد هذا النزوع الذي تحول الى عدوى، والى مصدر مهم لمقاربة ازمة شخصية اللامنتمي، باعتبارها شخصية انسانية تعيش عقدة الاضطهاد والعزلة ورهاب الاخرين، وهو ماعاشته الشخصية العربية السياسية التي واجهت الكثير من المركب الاضطهادي في المنافي والسجون، وعند رهاب السلطة، وفي العزلة خوفا من الاخرين.