في رحيل عبد الجبار البنا.. الحلم الذي لا ينتهي

في رحيل عبد الجبار البنا.. الحلم الذي لا ينتهي

وكأي عالم لا يليق بكرامة الانسان اكتشفنا مثل بقية الناس كيف نحمي انفسنا من الطغيان ولكن في الوقت نفسه كيف نجعل من التواصل غير المعلن نمطا حياتيا جديدا، وهكذا كان لكل منا اكثر من مجموعة او محفل او ملتقى.
مع عبد الجبار البناء ود. كمال احمد مظهر والراحلان سالم عبيد النعمان وعبد الفتاح ابراهيم ود. حكمت شبّر وصباح جميل العمران وامجد الحمداني وعدد آخر من الوجوه الاجتماعية

كانت تجري لقاءاتنا المنظمة نستعرض فيها هموم شعبنا وتطورات الاحداث والاحتمالات المتوقعة وكان لكل منا ايضا امتداداته في تجمعات اخرى. كان عبد الجبار البناء يمتلك شيئا آخر لا نجاريه فيه صنعته التي يمارس بها وخلالها لعبة كشف الزيف لسلطة مارقة ويعيد في كل مخلوق يصنعه تشكيل فضاءاته الخاصة وجوه متعبة وعيون غائرة وانحناءات مرهقة بالضيم تلك العابه الخطرة الخارجة من واقع مأزوم الباحثة عن فضاء تلقى فيه صراخها حيث لا يسمع الصدى.

كانت المرأة عنده رمز النماء والولادة المحتملة والخصب في مناخ الجفاف وقد اهداني منحوتة برونزية لشبح انسان يحتضن امرأة وما بينهما رمز العطاء البقرة التي آمن بها مئات الملايين من بني البشر. كنت اجده يعيد رسم افكار جواد سليم والرحال لكنه ظل مؤمنا بهما روادا لفن عراقي عظيم بعد ان اختار طريقه الخاص في التجريد واعادة بناء هياكل مخلوقاته واصفا اياها بالابناء والبنات بكل ما يحمله من عواطف اتجاه ابنائه.
حياة الفنان الكبير عبد الجبار البناء ومسيرته الفنية الرائدة تغرينا بأن نمر على بعض المحطات الاستثنائية من حياته الثرية بكل تجلياتها بعد ان غادرنا في رحلته الابدية. وها انا استعيد من الذاكرة منجزه المهم الذي قدمه في المعرض الاستعادي الثامن في نهاية القرن الماضي.

وحيث دعانا مع بعض الاصدقاء الى زيارته في منزله الذي حوله الى ورشة عمل كبيرة للاطلاع على الاعمال التي كان ينوي عرضها. وكنا في ضيافته مجموعة من اصدقائه المقربين اذكر منهم الدكتور حكمت شبر والدكتور كمال احمد مظهر والاستاذ المرحوم عبد الفتاح ابراهيم والاستاذ المرحوم سالم عبيد النعمان وآخرين، وبعد الاطلاع على اعماله اخبرت الاستاذ عبد الجبار (ابو دريد) برغبتي في اقتناء منحوتة خشبية سماها (عناق) وجدت فيها براعة فنية كبيرة.
وفي يوم المعرض الذي افتتحه وزير الثقافة في حينه، حضر جمع غفير من الفنانين والمثقفين وعدد من ممثلي الملحقيات الثقافية للسفارات الاجنبية وفي المقدمة منها السفارة الفرنسية. واتذكر جيدا ان المرحومة ام دريد قرينة فناننا الكبير ورفيقة رحلته الحياتية الطويلة والشاقة كانت تقف بجانب منضدة وضع عليها سجلا للتشريفات يدون فيه الزائرون ملاحظاتهم واقوالهم عن المعروضات، وفي حين خلا المعرض الذي ضم مئات الاعمال من المنحوتات الخشبية والبرونزية واللوحات من اي عمل يمجد الطاغية تساءل الوزير في استغراب عن غياب مثل هذا العمل في معرض يغطي نشاط الفنان على مدى اربعة عقود او ما يمكن ان يخلد صفحات مجد للنظام الذي طالما تسابق الفنانون على اظهارها في مثل هذه المناسبات سواء كان ذلك عن قناعة بما يفعلون او مضطرين كما يدعون. وقد اجابه ابو دريد بوضوح شديد بانه لا يستطيع الا ان يجسد ما في عقله وضميره من احساس صادق وهو لا يمتلك ان يؤدي دورا لا يقدر عليه.
وقد سبب ذلك حرجا للوزير المهذب فالتفت الى ام دريد قائلا بابتسامة: ام دريد ديري بالج على رجلج. بكل ما في هذه الجملة من معاني مزدوجة توحي بالحرص وايضا بالتحسب والتخويف. وبالعودة الى المعرض فقد حظيت منحوتة (عناق) الخشبية باهتمام السفارة الفرنسية وعدد آخر من الزائرين وبخاصة الاجانب وعبر عدد منهم عن رغبته في اقتناء المنحوتة التي كتب عليها (محجوزة).
وبعد انتهاء المعرض كتب عدد غير قليل من الفنانين والنقاد عن المعرض وخصوا بالذكر هذه المنحوتة التي اثارت اهتمام الصحف والمجلات الثقافية وكتب عنها عدد كبير من المقالات ما زلت احتفظ بها في مكتبتي الخاصة.
وقد سُئلت في حينه عن المنحوتة فكان جوابي ان اهميتها لا تأتي فقط من الابداع الذي يتجسد في قدرة الفنان على تطويع الخشب واقترابه من التجريد في محاكاة للتراث العراقي العظيم الذي جسده جواد سليم وخالد الرحال، وانما في ذلك (الفراغ) الذي اسكنه الفنان في قلب المنحوتة على شكل نصف انسان مقلوب على رأسه، وكأنه اراد ان يعطي لهذه المنحوتة ذلك البعد الفلسفي لوحدة التناقض، بين ما هو انساني ينزع الى تواصل ويتجسد في الحب والعناق وبين الكوامن الدفينة في النفس البشرية التي لا تعرف مدياتها باتجاه العزلة والانفصام او بين الحياة المتجددة دائما عبر التلاقي والتفاني والاندماج وبين اشكال من العدمية وما تعكسه من تجارب الانكفاء على الذات، بين الفضيلة بتجلياتها الانسانية التي تغمر الحياة البشرية بالاحساس بالجمال وبين النفاق المضمر الذي يكمن في داخل الانسان كالحشرة في قلب الزهرة. هكذا رأيت في هذه المنحوتة افكارا حرة تسبح في الافق الواسع لها.
وقد راودني في حينه احساس غريب في ان ثمة ما هو مشترك في جميع منحوتاته حين شعرت بان مخلوقاته كانت تريد ان تصرخ لكن ثمة ما يمنعها عن ذلك، وعندما سألت الفنان عبد الجبار عن هذا الاحساس اجابني بسرعة: نعم هذا انا فوالدتي تقول انني عندما ولدت كنت اصرخ بدون صوت. كانت مخلوقاته يائسة مختلقة ولدت شعوراً بالهزيمة وفي الحقيقة كان ذلك صورة للانسان المقموع حيث يفقد القدرة على الاحتجاج.
اليوم وبعد هذه السنوات الطويلة ولأهمية منحوتة (عناق) اتمنى على امانة بغداد ان تجسد هذا العمل الفني المهم ليكون شاهدا في احدى ساحات بغداد عنوانا للفن الجميل وعرفانا لما قدمه هذا الفنان الوطني الذي لم يعرف الخنوع للدكتاتورية، وظل على الدوام قامة سامقة تستحق التكريم على مواقفها وما ابدعته في نضال طويل وحياة زاخرة بالفضيلة.
كانت ولادة الفنان عبد الجبار في بيئة شعبية في باب الشيخ ومنها استمد ايمانه بالدفاع المطلق عن الحياة الشعبية فألهمته الابداع باشكال فريدة كانت منحازة على الدوام الى فقراء وطنه وكادحيه وفيها تعرف وبنى صداقات مع جيل متفرد بالوطنية وظل يحتفظ بمشاعر متوهجة عن محمد حسين ابو العيس ومحمد صالح العبلي وعبد الرحيم شريف وغيرهم من شهداء الحركة الوطنية المجيدة.
وحين اضطر بعد عام 1963 ان يعيش في المنفى ظلت رؤاه عالقة في سماء بلده رغم الجور والاستبداد وعاد في اول فرصة اتيحت له في عام 1968 ليواصل مسيرته الفنية والنضالية فاقام معارض كبيرة في اعوام (1969- 1974- 1978- 2000)، ومعارض اخرى بعد سقوط الدكتاتورية.
ان تجربته الفنية خصبة بتمثلاتها وتعدداتها على تشكيل مخلوقاته الخارجة من عمق المجتمع ومعاناته وتضحياته، ورغم ما عاناه في اعوامه الاخيرة من مشكال صحية وخسارته الكبرى لرفيقة دربه ام دريد، الا انه ظل متمسكا بالعمل حيث تحول منزله الى ورشة كبيرة فالفن بالنسبة له وسيلة جدية للتعبير عن فكره الانساني ازاء الحياة وما يتعرض له الانسان من استلاب وحرمان واغتراب، ولذلك كانت مخلوقاته تصرخ وكأنها تقاوم من اجل حياة كان هو يحلم بها لبني البشر ولابناء وطنه، اضافة الى شغفه بالقراءة ومتابعة ما انتجه الفكر الانساني في حقول الادب المختلفة واصطفى لنفسه موقفا خاصا جسده بتمثال نصفي من الجبس لرب الشعر الجواهري الكبير الذي طالما ردد وحفظ الكثير من شعره العظيم.
في الثلاثين من ايلول من هذا العام 2016 غادرنا (ابو دريد) بكل مجده ليرقد بسلام في عالمه الابدي ملتحفا تراب وطنه الذي اخلص له وأحبه ودافع عنه مانحا الاجيال القادمة إرثه الفني الكبير، تاركا عند اصدقائه سطوع رؤياه وعظمة روح ملهمة وحلم لا ينتهي.

موقع (التيار الديمقراطي العراقي)