فنان يخط خواطره الهابطة عليه من نأي بعيد

فنان يخط خواطره الهابطة عليه من نأي بعيد

صلاح عباس
على مدى اكثر من ستة عقود مضت، انشغل الفنان عبد الجبار البناء، بمزاولة الفن التشكيلي، بكل تنوعه، وسبل الانجاز الفني، بيد أن جل اهتماماته انحصرت في فن النحت، والنحت على الخشب تحديداً، لما لهذه المادة من خصائص فريدة، تؤمن تعبيرات اوفق، وتتسم بمطواعية تسمح بضخ التعبيرات الانسانية، بكل حالاتها وانفعالاتها، فمادة الخشب بوصفها كياناً عضوياً، الأقرب الى نفسه، للتعبير عن الكيانات الحيوية ولا سيما الإنسان بمختلف نزعاته وحالاته المتباينة.

لقد جسد موضوعات لا حصر لها عن الأنسان المسالم، وعن الحب المتعالي، وعن قيم التضامن الاجتماعي للتحرر من ظلم الطغاة، كما جسد ملامح انسانية مرهفة عن المرأة العراقية، وبالحقيقة، ان “البناء” طرق ابواب كل الموضوعات التي ألفناها في الفن التشكيلي مثل الملاحم والاساطير المستمدة مادتها مما يحفل به موروثنا الرافديني او العربي والكوردي عبر مراحلها التاريخية المختلفة، كما جسد بعضاً من الصور الفنية الممثلة ببعض النصوص الأدبية والشعرية، فـ”البناء”، كان قارئاً جيداً للكتب الأدبية، كما كان مشدودا لقراءة قصائد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، فقد اخذ بترجمة النصوص الشعرية من خلال ازميله، على الخشب المحلي ليظهر لنا موضوعات عراقية اصيلة، تتمتع بكل الاشتراطات الفنية، والتعبيرية المسوغة بالفهم الواعي بمعنى الحداثة وتملك الاسلوب الفريد، والمميز.
كان “البناء”، يفكر بتجسيد موضوعات حضارية كبيرة، يكرسها كنماذج للجمال، للأجيال القادمة، ولذا حرص كثيراً الا يهادن في القضية التي اختارها، والمتعلقة بمصير الشعب العراقي، هذا الشعب الواقع تحت ضغوط الحياة القاسية التي فرضتها كل النظم المتخلفة والحكومات المتتابعة على البلاد، فمنذ الحكم الملكي في العراق، حكم على “البناء” بالسجن والطرد من الوظيفة، وفي الازمنة المتلاحقة كابد المحنة ذاتها، غير ان نبل الموقف والفهم المعمق للعملية التاريخية حتما عليه اتخاذ العزلة بعيداً عن الانظار ومواصلة العمل في النحت قريباً من ذاته وهموم الاخرين، فكان يخط خواطره الهابطة عليه من نأي بعيد، بقلمه القديم. كان “البناء” يؤمن ان الحقيقة كامنة في دخيلة الانسان وحده، فالمرء يستطيع تفحص ذاته والاطلاع على المعاني الراقدة فيها ولكن ما هي الطرق المثلى التي تعتق الانسان، ليعرف معنى الجدوى في الاشياء؟ وما هي الغاية التي تفاعل الانفس والافكار؟
ان النظرة القريبة من الانسان، يمكنها ان تؤكد فهمه، وهي في نظره تستحق العمل والمثابرة، وحتى في عمره هذا، ومرضه فما دام في القلب بقية خفقات مرهفة، وما دامت الذاكرة متحفزة بأحلى المشاعر وتسمح لخياله الطليق بفض افواه المعاني ليجعل من وجهه العجوز وجهاً فتياً بالرغم من فداحة الخسائر وتنقله الأليف بين الشجون.
ان حب المبادئ دائماً، تكرس لفهم الحقيقة التاريخية ومستقبل الحياة البشرية كانت هذه المبادئ عند الفنان اغلى من المال، وابهى من الجاه واعز من الترف لان في هذه المبادئ القيمية والاخلاقية، نوعاً من العشق، ولكل مذهب في العشق لذة، ففي هذا المجمع الفكري استطاع “البناء”، تملك مفاتيح الرؤية الجمالية القادرة على مقاومة الغضب والبطش والجور فادراك مقاصد الجمال تكفل للفنان حق تملك الاسلوب الحديث والتواصل الى تراكيب آدمية أليفة، وهذا الفهم المعمق، جعله يحدس ان الرخام الموشى بالذهب والمرصع بالماس والذي جسد الطغاة على مختلف الازمنة، ستؤول الى موارد رديئة وان منجزاته النحتية الخشبية ستعمر اكثر لانها مكفولة بروح الزمن الرشيدة والتي ستأخذ على مسؤوليتها تحطيم انوف اولئك الطغاة.
ان الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع رؤية الفن في العالم كله، وفي الاحاسيس الانسانية كلها، لاننا لانملك الا حياة واحدة، ففي كل يوم تزداد الحياة قصراً ولذا ينبغي على الفنان ان لا يقع فريسة في فم الزمان الملتهم وان يمهد السبيل لقدرته الابداعية للتوثيق لحياته التي هي حياة الآخرين وان يجسد فروقات دقيقة في فنه من خلال كلية التعبير النهائي والذي يعطي الانطباع بالاصالة والتفرد، حتى ينسدل ستار الطمأنينة على الصور المنتهية فالمسحة الشعرية التي اسبغها الفنان على منجزه الابداعي هي التي تسهم في تشكيلها الروح الإنسانية، لان الفن هو الإنسانية.
ولا اعتقد بأن فناناً عراقياً اثر لمعرفة الجدوى من الفن والجماليات، والغايات التي تفاعل الانفس والافكار المتعاطفة مع الانسان في محنة وجوده مثل الفنان “عبد الجبار البناء”، هذا الفنان الذي نظر الى المغزى المعمق في الحياة عن قرب فمنذ اكثر من ستة عقود، كان الفنان ينظر الى حقائق الوجود بصدق ويتعاطف معها بحرية، فعلى مدى سنوات حياته المنصرمة كان الفنان يأبى على نفسه الانخراط في افعال الآخرين ممن نقشوا بأزاميلهم اصنام العراق او رسموا بريشهم الملامح التاريخية البائسة للاثم.
كان “عبد الجبار البناء” مولعاً بتضمين افكار الجماعة والفن بين يديه يغدو واسطة لنقل الأنموذج الاخلاقي المهذب، والرموز بمفهومة لاتعيش من اجل الرمز ذاته، بل من اجل حياة الآخرين.
لقد وجدت فيه ذلك الفنان الحريص لتمجيد زمنه، فلا تفوته فرصه للأبداع او لعمل أي شيء يؤكد اصالته في الأنجاز الفني والتفكير القويم فعلى مدى سنوات العنت والجور التي مر بها بلدنا كان يصر على الخلوة مع ذاته ليتمكن من قراءة سفر التاريخ والحقائق المتداخلة فيه بطريقته الخاصة، في حين كان بمقدوره ان يمد يده لينال كل ما يحتاج اليه ذوي الشهرة والمال غير انه أبى على نفسه ذلك.
لقد حرص الفنان ان يمتعنا في فنه وان يعلمنا الطرق الانسانية الظافرة بالسلام، والمحبة، ان الانسان المتأمل في ذاته لا يرينا جوانبه المتوحدة مع جدل التاريخ لندركها ولنتأثر بها، فحقائق التاريخ تكمن في ذواتنا ولا يسعنا سوى تفحصها والاطلاع على المعاني الراقدة فيها، تلك حقيقة هذا الفنان-والانسان صاحب الروح النبيلة.
ان بحث “البناء” المستمر في معنى الجدوى لا يمتلك ديناميكيته الا عبر تفاعل الانفس والافكار الانسانية ولو تأملنا في أعماله الفنية، نحتاً أو رسماً، فلابد لنا التأكد من اننا ننظر الى كيانات قائمة بذاتها تتصل بجملة المؤثرات الحياتية والاشكال الآدمية المعبر عنها بالخشب والألوان، وتلك الاشكال الادمية تتصل بأشياء واقعية منتزعة من الحياة وتلك الأشياء الواقعية لها صلة ارتباط بالتاريخ العراقي المعاصر فكل لوحة تمثل موضوعاً آخر، وكل تمثال يقدم للملتقي اغراءات التلمس عبر نهايات الاصابع فمن خلالها يستظهر الجمال اللامتوقف الآتي من المسافات الاكثر بعداً الى القلب والشعور العاطفي الأكثر قرباً.
***

عبد الجبار احمد خضر البناء
ولد ببغداد محلة باب الشيخ عام 1925.
خريج معهد الفنون الجميلة/قسم النحت/ المسائي عام 1959-1960.
عضو نقابة الفنانين العراقيين.
انتخب لثلاث دورات عضواً للهيئة الادارية لجمعية الفنانين العراقيين.
درّس في دار المعلمين بالمملكة العربية السعودية/مدينة الرياض مدة اربع سنوات 1964-1968.
حاضر في القسم المسائي لمعهد الفنون الجميلة 1982-1983.
حاضر في دار المعلمين (في الاعظمية) لعام 1987-1988.
عمل رئيساً للقسم الفني في متحف التاريخ الطبيعي/جامعة بغداد.
ساهم في العديد من نشاطات جمعية الفنانين والمتحف الوطني ومركز الفنون.
انجز ثمانين قطعة فنية فولكلورية للمتحف البغدادي في بغداد.
اقام لفنه اثني عشر معرضاً شخصياً.