الأخطاء الشائعة عن آدم سميث

الأخطاء الشائعة عن آدم سميث

د‏.‏ حازم الببلاوي
ربما يكون آدم سميث هو أشهر الاسماء المعروفة بين الاقتصاديين‏,‏ ويشاركه في هذه الشهرة كل من كارل ماركس وإلى حد ما جون ماينور كينز‏.‏ ومع شهرة هؤلاء الاعلام الثلاثة وتكرار الإشارة اليهم في مختلف الكتابات والأحاديث‏,‏ فإن عدد من اطلع على مؤلفاتهم وقرأها مازال محدودا‏.‏ ويبدو أن هناك علاقة عكسية بين تكرار الإشارة إلى هؤلاء الكتاب وبين الاطلاع‏,‏

ومن باب أولى‏,‏ التمعن في كتابات هؤلاء المفكرين‏.‏ وليس الحال أسعد كثيرا من شكسبير أو ابن خلدون‏.‏ فهي اسماء تتردد على ألسنتنا دون قراءة أو اطلاع على ما جاء في مؤلفاتهم‏.‏

ومن هنا فكثيرا ما ينسب إلي هؤلاء الكتاب ما لم يقولوه‏,‏ وحتي ما لم يرد علي اذهانهم‏,‏ وأذكر بالنسبة لآدم سميث‏,‏ أنني كنت في حديث تليفزيوني‏,‏ وكنت أقول إن اقتصاد السوق لم ينشأ نتيجة نظرية لمفكر أو فيلسوف‏,‏ وإنما هو ظاهرة اجتماعية ولدت نتيجة لتطور احتياجات المجتمع‏.‏ فقاطعني المذيع قائلا‏:‏ وماذا عن آدم سميث أليس هو صاحب نظرية اقتصاد السوق؟ هذا ما قاله المذيع‏,‏ وهو طبعا غير صحيح‏.‏
فالصحيح أن ظاهرة السوق وكذا النقود هي نظم اجتماعية ولدت وتطورت في مختلف الجماعات الإنسانية بشكل تدريجي نتيجة للاحتياجات‏,‏ فهي الحال كذلك ظواهر اجتماعية جاءت وليدة التطور‏,‏ وعندما جاء آدم سميث وأصدر كتابه عن ثروة الأمم في‏1776,‏ كانت السوق قائمة ومعروفة في الجماعات الإنسانية منذ آلاف السنين‏,‏ وكل ما فعله آدم سميث هو أنه شرح هذا النظام‏,‏ مبينا كيف أن هذا الاقتصاد يستطيع ان يحقق تراكم الثروات عن طريق الكفاءة في الانتاج نتيجة لتقسيم العمل‏.‏ فآدم سميث ليس أبا لاقتصاد السوق الذي ولد ولادة طبيعية استجابة لاحتياجات المجتمعات‏,‏ وإنما هو في الحقيقة ابن السوق حيث ولد في ظل اقتصاد قائم للسوق‏,‏ وحاول تفسيره وبيان أوجه القوة في هذا النظام كما أوجه الضعف‏,‏ والسياسات المناسبة لزيادة كفاءته‏.‏ وربما ما يتناساه معظم المتحدثين عن آدم سميث هو تجاهلهم ما اورده عن أوجه قصور هذا النظام وما يمكن أن ينشأ عنه من مشاكل‏.‏ ولذلك فهناك فجوة كبيرة بين حقيقة ما قاله آدم سميث‏,‏ وبين الشائع عنه والمنسوب اليه‏.‏
وكان آدم سميث قد عين أستاذا لفلسفة الأخلاق ـ وليس الاقتصاد ـ في جامعة جلاسكو باسكتلندا‏.‏ وظهر أهم مؤلف لسميث عن نظرية الشعور الأخلاقي قبل كتابه عن ثروة الأمم بما لايقل عن خمس عشرة سنة‏.‏ وكان من أهم ما ورد في ذلك الكتاب هو الحديث عن أهم بواعث الإنسان في سلوكه‏,‏ حيث أشار بوجه خاص إلي حبه للمبادلة فعند آدم سميث الرغبة في التبادل هي اقرب إلي الغريزة الطبيعية في السلوك الإنساني‏,‏ ومن ثم فلا غرابة أن يظهر اقتصاد السوق أو التبادل في مختلف المجتمعات‏,‏ باعتباره انعكاسا لهذا الباعث النفسي عند معظم الأفراد‏.‏ وعندما بدأ يشرح ثروة الأمم في كتابه الأخير‏,‏ فإنه أكد‏,‏ علي خلاف الفكر الاقتصادي السائد آنذاك‏(ما عرف باسم التجاريين‏)‏ أن الثروة الحقيقية للأمم ليست في الذهب والفضة كما هو الحال بالنسبة للتاجر الفرد‏,‏ وإنما ثروة الأمم هي ما ينتج من سلع وخدمات فالثروة هي مجموع الانتاج القومي‏,‏ وليس مجموع النقود المتداولة‏.‏ ومن هنا بدأ يتساءل عما يساعد علي زيادة حجم الانتاج وكفاءته‏.‏ ووجد تقسيم العمل والتخصص يساعد علي ذلك بشكل كبير‏,‏ وبالتالى فإنه من خلال اقتصاد السوق تتحقق الثروات علي نحو أفضل مما يحققه الاقتصاد المعيشي في ظل الاكتفاء الذاتي‏,‏ فالتبادل يساعد علي زيادة الكفاءة‏.‏
ولكن هل معني ذلك أن آدم سميث كان غافلا عن عيوب اقتصاد السوق مؤمنا إيمانا أعمي بأن السوق تحقق كل الانجازات وتصحح اخطاءها بنفسها بلا حاجة إلي تدخل الدولة؟ وهل كان آدم سميث واثقا ثقة كاملة في رجال الأعمال وقدرتهم الفائقة علي تحقيق الصالح العام؟ وهل كان آدم سميث يعتقد أن الاقتصاد الرأسمالى أو اقتصاد السوق قادر علي تحقيق النجاحات باستمرار ودون حدود؟ الاجابة عن كل هذه الاسئلة هي بالنفي‏,‏ رغم أن الشائع هو أن كل هذا من أفكار آدم سميث‏.‏
كانت الدولة دائما عند آدم سميث هي العنصر الرئيسي لنجاح اقتصاد السوق‏,‏ وعلم الاقتصاد السياسي عنده هو فرع من علوم رجل الدولة أو المشرع ومن هنا نجده يوجه خطابه في مؤلفاته إلي رجال الحكم وصناع السياسة فسواء في كتابه عن ثروة الأمم أو ذلك في نظرية الشعور الأخلاقي أو دروسه عن القضاء فإنها جميعا تقطع بأن العامل الرئيسي لنجاح اقتصاد السوق هو وجود دولة قوية قادرة علي وضع قواعد السوق ورقابتها والاشراف عليها والتدخل ـ عند الضرورة ـ لمنع الانحرافات‏.‏ وكان سميث يري أن الحرية الكاملة وهم لا وجود له‏,‏ واذا كان سميث قد صرح بأنه ليس بفضل كرم الخباز أو صانع الجعة تتوافر هذه السلع وإنما لرغبتهم في تحقيق مصالحهم الذاتية‏.‏
وبذلك أشار إلي أن المصلحة العامة تتحقق عن طريق اليد الخفية للمصالح الخاصة‏,‏ فإنه كان في نفس الوقت‏,‏ مدركا تماما لجشع رجال الأعمال ورغبتهم في استغلال المستهلكين‏,‏ عندما يقول مثلا‏:‏ أنه قل أن يجتمع رجال الأعمال للهو أو المرح دون أن يتآمروا لاستغلال المستهلكين ورفع الأسعار‏,‏ وهكذا فإن آدم سميث لم يكن غافلا عن طموحات رجال الأعمال ومدركا لضرورة تنظيم اقتصاد السوق واخضاعه للرقابة والاشراف منعا للاستغلال‏.‏ ومن الاخطاء الشائعة مقولة دعه يعمل دعه حر والتي كثيرا ما تنسب ـ خطأ ـ إلي آدم سميث رغم أنه بريء منها تماما‏.‏ فهذه العبارة اطلقها احد التجار لوجاندر في فرنسا‏,‏ ردا علي الوزير كولبير الذي سأل في اجتماع للتجار ماذا تريدون من حكومة جلالة الملك؟ فرد عليه لوجاندر قائلا‏:‏ دعنا نعمل‏.‏
ولعله من المفيد هنا أن نتذكر أن آدم سميث ـ الذي صدر كتابه في نفس عام استقلال الولايات المتحدة ـ كان مؤيدا لاستقلال المستعمرات في أمريكا‏,‏ كما كان يعتقد ان الصين وهولندا أكثر تقدما من انجلترا‏,‏ وأن الصين اتبعت الطريق الطبيعي للتقدم عن طريق توسيع السوق الداخلية‏,‏ في حين أن هولندا أخذت طريقا غير طبيعي بالاعتماد علي التجارة الخارجية‏.‏
كذلك فإن آدم سميث‏,‏ شأنه شأن معظم الاقتصاديين الانجليز‏,‏ كان يري أن النظام الاقتصادي الرأسمالى يتجه بطبيعته إلي حالة من الركود‏Stationarystate‏ حين تتضاءل معدلات الربح‏,‏ وهي الفكرة التي استعارها كارل ماركس من الاقتصاديين البريطانيين المتشائمين حول اتجاه النظم الرأسمالية إلي الركود طويل المدي‏.‏
والخلاصة هي أن آدم سميث‏,‏ شأن معظم الاقتصاديين التقليديين‏,‏ لم يكن واهما أو غافلا عن مشاكل اقتصاد السوق‏,‏ ولم يكن مؤمنا بأن هذا الاقتصاد جنة بلا مشاكل‏,‏ ولكنه ادرك أيضا أن السوق عنصر رئيسي في زيادة الكفاءة‏,‏ علي أن تقوم إلي جانبه‏,‏ أو بالأحري فوقه‏,‏ سلطة الدولة التي تراقب السوق وتمنع انحرافاتها‏,‏ وتقوم باستكمال ما تفشل فيه السوق‏,‏ خاصة من حيث توفير السلع العامة مثل التعليم والدفاع والبنية الاساسية والمشروعات الاستراتيجية‏.‏ كذلك ادرك معظم هؤلاء الاقتصاديون أن السوق لاتفشل فقط في توفير هذه السلع العامة بل كثيرا ما يترتب عليها اضرار عامة‏,‏ أو ما عرف بالسيئات العامة مثل تلويث البيئة‏.‏ وفي مثل هذه الحالة الأخيرة فإن الدولة ليست مطالبة فقط باستكمال ماتعجز السوق عن تقديمه من سلع عامة بل بإصلاح الاضرار التي تحدثها‏(السيئات العامة‏)‏ وان تحول دون وقوعها‏.‏
لقد جاء آدم سميث داعيا للحرية الاقتصادية‏,‏ ولكنه كان مدركا أن لا وجود للحرية الكاملة ولذلك فقد طالب بالحرية المسئولة تحت رقابة واشراف دولة قوية وعاقلة فاقتصاد السوق ليس نموذجا مثاليا أو كاملا ولا هو عقيدة دينية أو مذهبية لها كتاب مقدس وتعاليم ثابتة‏,‏ فضلا عن كهنة يحافظون علي طهارتها‏,‏ وإنما اقتصاد السوق هو ظاهرة اجتماعية‏,‏ نشأت نتيجة احتياجات المجتمع‏,‏ وتطور معها وبقدر ما يبرزه هذا النظام من مزايا خلال الممارسة فإنه يستحق الرعاية والتشجيع‏,‏ وفي نفس الوقت‏,‏ فبقدر ما يكشفه من العيوب والعورات‏,‏ فإنه يحتاج إلي المراجعة والتعديل والإصلاح‏,‏ التغير والتطور هو سنة الحياة والجمود مظهر الموت والفناء‏.‏ واقتصاد السوق ليس استثناء من ذلك‏,‏ وهو محتاج دائما للمراجعة والتعديل‏.‏ وهذا هو ما ادركه آدم سميث‏.‏ والله أعلم.

عن صحيفة الاهرام القاهرية