محمود صبحي الدفتري.. امين العاصمة في الثلاثينيات.. طرائف وذكريات بغدادية

محمود صبحي الدفتري.. امين العاصمة في الثلاثينيات.. طرائف وذكريات بغدادية

اجرى الحوار عادل العرداوي
جميل جدا ن يدخل الانسان برج الـ (90) عاما.. وذاكرته مازالت طرية ومتوهجة وبلمحة خاطفة تسدل الستارة على تراكمات السنين الطويلة التي خلفها «مشوار» العمر فعندما يتحدث محمود صبحي الدفتري ابن بغداد الذي انجبته في 14 كانون الاول 1889م.. تكون لذلك الحديث نكهة متميزة وخصوصية واضحة.. فالرجل عاش فترتين حاسمتين من تاريخ بغداد وتاريخ العراق.. جاء هذه الدنيا اواخر القرن التاسع عشر وعبره الى القرن العشرين..

اذن فالدفتري صورة حقيقية للماضي الطريف الذي لا نعرف من اسراره نحن ابناء هذا الجيل سوى النزر القليل..

وبما ان الدفتري اسم عريق تعرفه بغداد جيدا.. حيث انه رافقها وزاملها وخدمها وعمل من اجلها.. كما هي احتضنته وربته وانشأته بين جوانحها منذ ولادته وحتى يومنا هذا.. وبما ان لهذا الرجل الشيخ رفقة طويلة مع هذه المدينة العريقة ووشيجة حب لا ينفرط عقدها.. فقد بذلت مجلتنا قصارى جهدها في الوصول الى الدفتري.. والتحدث اليه.. وتحريك الكوامن والمشاعر الخافتة فيه رغم علمنا ان الرجل معتل الصحة ومتعب من ثقل الجسد وسنين العمر.. فكان ان ساعدنا للوصول اليه والتحدث لمجلتنا.. نسيبه الاستاذ خيري العمري وكذلك السيدة «لميس» كريمة الدفتري.. فشكرا لهما وله على فيض المعلومات والذكريات الجميلة التي رفدنا بها.. وحديثنا معه بمثابة اطلالة قصيرة على بغداد الامس.. وحياتها الاجتماعية والادبية والبلدية الخ..

هكذا ينصب الوالي الجديد..
يوم كانت بغداد ولاية تابعة للسلطان العثماني في (استانبول).. كانت هناك مراسيم معينة عندما يقرر السلطان تعيين الوالي الجديد لولاية بغداد.. واجراءات رسمية معروفة انذاك.. والدفتري عايشها وحضرها خاصة ايام العثمانيين في العراق.. سألته عن تلك المراسيم والاجراءات.. قال لي:
بالفعل اني شاهدت بنفسي هذه الاجراءات بالنسبة الى واليين: الوالي عبد الوهاب باشا والوالي سليمان نظيف.. وهو الاديب التركي المعروف الذي تولى ولاية بغداد.
وكان البغداديون يهرعون الى استقبال الوالي الجديد من خارج بغداد، عندما يصلهم خبروصوله. وقد جرت العادة ان يجعل الولاة موعد وصولهم الى الولاية خلال اوقات الدوام الرسمي ليذهبوا مباشرة الى السراي ـ القشلة وعند وصوله السراي تطلق المدفعية طلقات تحية له معلنة للناس وصوله السراي ومباشرته عمله.
وبعد وصوله يعين الوالي يوما معينا لتلاوة (الفرمان الهمايوني) اي المرسوم السلطاني الذي يتضمن ديباجة خاصة يخاطب فيها السلطان الوالي الجديد بما معناه، انه بالنظر لما اعهده عنك من اخلاص ولما لبغداد من اهمية خاصة فقد قررت تعيينك واليا عليها فعليك ان تبذل جهودا مخلصة لادارة امورها ورعاية مصالحها وفي اليوم المعين الذي يحدد فيه موعد تلاوة (الفرمان) يحضر كبار الموظفين العسكريين والمدنيين بملابسهم الرسمية يحملون اوسمتهم، كما تحضر وجوه الولاية واعيانها ورجال الدين حيث يتم ذلك الاجتماع ويطلع الوالي الجديد وهو يحمل الفرمان ويسلمه الى احد كبار موظفي الولاية والاغلب يكون ذلك الموظف (المكتوبجي) اي سكرتير الولاية وبعد ان يقبله بخشوع ويفتح ياخذ بتلاوته على الحضور بصوت جهوري وحينئذ يقوم الجنود برفع اسلحتهم تحية للفرمان السلطاني. وبعد تلاوة الفرمان على النحو المذكور.. يقف الوالي الجديد ويلقي كلمة مناسبة تعبر عن ولائه للسلطان ورجائه في ان يوفقه الله الى ما فيه مصلحة الولاية، ثم يتقدم احد رجال الدين لقراءة وترديد بعض الادعية الدينية. حتى اذا انتهت هذه الاجراءات ينصرف الحاضرون متمنين الخير والتوفيق للوالي الجديد..

بغداد قبل (80) عاما..
بالتأكيد فان بغداد الامس غير بغداد اليوم..
والفارق كبير جدا.. طلبت من الاستاذ الدفتري ان يحدد لنا بعض ملامح هذه المدينة اواخر القرن التاسع عشر باعتباره واحدا من ابنائها القدامى..
كانت بغداد في تلك الايام.. والى سنوات خلت مجموعة ازقة (ودرابين) ضيقة تجتمع في احياء مختلفة بحيث يكون كل حي وحدة مستقلة لها مسجدها وحمامها ومختارها وحلاقها، تستيقظ فجر كل يوم على اصوات المؤذنين الذين يدعون اهل بغداد الى الصلاة، او على اصوات نداءات الباعة المتجولين، فتدب الحياة مع الفجر وينصرف الناس الى اعمالهم، الموظف الى السراي، التلميذ الى الكتاب، البقاء الى الحانوت، فكانت الازقة على ضيقها تعج بهذه الاصناف وتزدحم بهم.
وكانت البلدية تتولى سد الاحتياجات العامة من تأمين الحراسة في الليل، الى القيام بتنوير الازقة وتنظيف الدرابين ورفع النفايات، وبطبيعة الحال لم يكن الكهرباء في ذلك الوقت موجودا، فكانت تستخدم (اللمبات) النفطية فعندما يحل المساء ويزحف الظلام يسرع موظفو البلدية المسؤولون عن التنوير الى اشعال تلك (اللمبات) وهم يطوفون حاملين السلم الخشبي ليصعدوا الى حين موضع اللمبة حيث يضع الموظف المسؤول الزيت ثم يشعلها وينصرف، ويسمى هؤلاء المستخدمون (اللمبجية).
والماء باعتباره المادة الاساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، كان ينقل الى الدور بواسطة (السقاء) من النهر، فكان السقاء شخصية معروفة في الاحياء ينادي باعلى صوته عندما يصل حاملا الماء على ظهر حماره ليعلن الى اهل الدار وصوله. وكان على الاغلب يوصي الاهالي هذا السقاء ان يجلب لهم الماء من (نصف الشط) وليس من جانب النهر حيث ان الماء في منتصف النهر انقى وانظف.

اين يقضي البغدادي فراغه ايام زمان؟
ويواصل الدفتري ذكرياته معنا.. فيتحدث لنا عن ملامح الحياة الاجتماعية السائدة ايام الاحتلال الانكليزي واوائل الحكم الوطني بقوله:
* لم تكن هناك (نواد) بل كانت اجتماعات الناس تتم في المقاهي حيث يلتقون مع بعضهم، ويجلسون على تخوتها يدخنون (النركيله) ويشربون القهوة العربية، ويتناقلون الاخبار ويتبادلون الروايات والاحاديث واكثر ما كانت تلك الاحاديث تدور حول اوضاع الزراعة وشؤون الولاية وما يقع من مغامرات يمارسها الشقاة ضد الجندرمة (الدرك).
اما علية القوم فقد كانت لهم مجالسهم الخاصة في بيوتهم حيث يستقبلون ضيوفهم، فقد كان والدي فؤاد الدفتري، كما كان جدي اسماعيل من قبله، يستقبل زواره في يوم الجمعة وكان يسمي مجلسه بصالون الجمعة وكانت تلك المجالس تمثل بيئة بغدادية تختلف عن بيئة المقاهي، فالاخيرة كانت عامة ترتادها الطبقات الشعبية من عمال وكسبة وغيرهم، اما الاولى فقد كانت تمثل بيئة خاصة من بيئات بغداد.
وكان لكل محلة من المحلات مجالس خاصة يعقدها وجوه تلك المحلة، حيث يستقبلون ضيوفهم وزوارهم وكانت هناك اصول وتقاليد في تلك المجالس يحرص اصحابها وروادها على احترامها ومراعاتها، سواء من حيث ترتيب الجلوس ومكانه او من حيث تقديم التبغ او القهوة.

صالون الجمعة.. لمن؟
*كان صالوان الجمعة تقليدا لبعض البيوت البغدادية.. طلبنا من الاستاذ الدفتري ان يوضح مهمة هذا الصالون ونوعية مرتاديه.. وذكرياته عنه:
بالنسبة لصالون الجمعة فقد بقي مفتوحات بعد وفاة والدي، يتردد اليه الاصدقاء والمعارف ومنهم الاديب والمفكر والسياسي والتاجر والشيخ المعمم والشاب المتمدن ويطرح خلال انعقاده موضوعات شتى تعالج ما يشغل اذهان الناس في تلك الفترة من امور تتعلق بالسياسة او تتصل بالادب.
وكان الادباء حلية ذلك المجلس يخلعون على اجتماعاته متعة بما يتحدثون به ويتناقشون حوله، ولعل الزهاوي كان ابرز رواد ذلك المجلس في العشرينيات واوائل الثلاثينيات، يبكر في الحضور الى الصالون راكبا حماره ولا يخرج منه الا بعد انفضاضه.
وكان يأخذ مكانا معينا من الصالون ويلتف حوله عدد من الادباء الشباب امثال احمد حامد الصراف، واكرم احمد ومحمد بهجة الاثري وروفائيل بطي وغيرهم يتلو عليهم بأسلوبه الخاص اخر ما ينظم من شعر وما قيل بحقه من مدح وثناء، وكثيرا ما كانت تثار المناقشات حول قصائده فيتصدى له البعض بالنقد فيثور الزهاوي ويعربد.
وكان من رواده في الثلاثينيات والاربعينيات والخمسنيات بالاضافة الى ما تقدم الاساتذة معروف الرصافي وابراهيم صالح شكر وعبد المسيح وزير ونوري ثابت المعروف بـ (حبزبوز) وطه الراوي وعبد الله الشواف ومنير القاضي من الادباء.
وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجميل المدفعي وحكمة سليمان وعبد الوهاب محمود ويونس السبعاوي وحسين جميل وغيرهم من السياسيين.
وقد جذب الصالون بعض الشخصيات العربية والاجنبية التي قدر لها ان تمر ببغداد او تقيم بها اقامة مؤقتة فكان عبد العزيز الثعالبي وعبد الرزاق السنهوري وسعد الله الجابري ورياض الصلح وعلي الجارم ممن ترددوا عليه وكذلك الدكتور زكي مبارك الذي كتب عنه يصفه في احدى مقالاته الادبية التي تناولت ملامح المجتمع العراقي. كما زاره الفيلسوف التركي رضا توفيق، وفؤاد كويرلي الاديب والوزير التركي المعروف..
وخلال المناقشات التي كانت تقوم فيه كنت اوميء عندما اشعر بوجود حديث خاص لدى البعض يقتضي التكتم الى غرفة صغيرة متصلة بصالون الجمعة الذي ينعقد في داري في الحيدرخانة لننتقل اليها ونتحدث بحرية اكثر.
وقد اتفق مرة ان فتح عمر نظمي وهو وزير داخلية انذاك باب هذه الغرفة فوقع بصره علىمحمد يونس السبعاوي وابراهيم صالح شكر وفائق السامرائي يتهامسون ببعض الاخبار السياسية فما كان منه الا ان اسرع بغلق باب هذه الغرفة قائلا: (انها كورة الزنابير لست اؤمن نفسي من لدغاتها اذا دخلتها!!).. ومنذ ذلك اليوم سميت هذه الغرفة الصغيرة «الكورة».

في بيت الدفتري تصالح الزهاوي والرصافي..!
*الشاعران المرحومان الزهاوي والرصافي كثيرا ما تخاصما وتصالحا.. واشهر حفلة مصالحة بينهما تتذكرها بغداد حتى اليوم.. حفلة الدفتري التي اقامها لهما في داره وحضرها حشد من الادباء انذاك.. سألته عنها ولماذا اقامها لهما دون غيره؟
في صالون (الجمعة) تمت مصالحة الشاعرين الكبيرين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي في يوم 8 كانون الاول 1928م، فقد كان كلاهما من الوجوه اللامة التي ترتاد الصالون فلما نشبت بينهما الخلافات التي كانت تدور حول زعامة الشعر في العراق وراح البعض يسعى لتأجيج تلك الخلافات رأيت ان الواجب الادبي يقضي علي ان اسعى الى الصلح بينهما لا سيما كلاهما كان استاذي، حيث تتلمذت على الاستاذ الرصافي في المدرسة الاعدادية في بغداد، وكان يقوم بتدريس اللغة العربية، وعلى الزهاوي في مدرسة الحقوق (كما كانت تسمى حينذاك) حيث كان يقوم بتدريس الاحكام العدلية (بما يسمى القانون المدني الآن).
وقد بذلت جهودا في اقناع الرصافي فوافق بعد لأي على الحضور مشترطا عدم الخوض في موضوع الخصومة، فوافقت لاني اعتقد ان حضورهما في داري معا يعني الصلح، وتم اجتماعهما وسط مهرجان ادبي مصغر حضره نخبة من ادباء بغداد القى فيه كل من الشاعرين قصيدة شعرية، حيث القى الرصافي قصيدته السياسية الشهيرة (لا للانتداب)، وكان بها تجريح شديد للانتداب البريطاني، اما الزهاوي فقد القى قصيدة يصف بها الشعر وشاعريته وختم القصيدة بالبيت الآتي مشيرا الى الصلح:جمع الاديب الحر صبحي شملنا في داره اكرم بها من دار
اما الاشخاص الحاضرون بالاضافة الى الشاعرين فهم الاساتذة: عبد العزيز الثعالبي وعطا الخطيب وعلي محمود الشيخ علي وبهاء الدين شيخ سعيد وجميل المدفعي وطه الراوي وموفق الالوسي ورؤوف الكبيسي وعبد المسيح وزير وابراهيم كمال واحمد حامد الصراف وطه الهاشمي ومزاحم الباجه جي وعلي ممتاز وعبد العزيز المظفر وعبد الله الشواف ومحمد بهجة الاثري وروفائيل بطي وتوفيق السمعاني وقد تغيب عن الحفلة ياسين الهاشمي وكامل الجادرجي حيث ذهبا معا الى بعقوبة لاشغال خاصة وتأخرا في العودة لاسباب قاهرة.

من بلدية بغداد.. الى امانة العاصمة
*نعود مرة اخرى لنتعرف على الدفتري الذي اشغل منصب امين العاصمة لفترتين في اوائل الثلاثينيات.. اذن كيف كانت تدار شؤون الامانة واعمالها انذاك.. واهم المشاريع الخدمية التي انجزها الدفتري لبغداد حينذاك؟ يقول: توليت امانة العاصمة في حياتي مرتين وكان ذلك في اوائل الثلاثينيات وبلغ مجموعها خمس سنوات وكنت اشعر خلال ممارستي لاعمالها بشعورخاص يربطني بها وربما كان سبب ذلك يكمن في الجذور التاريخية لاسرتنا حيث ان جد والدي ابراهيم الدفتري هو اول من تولى رئاسة بلدية بغداد عند بدء تأسيسها في عام 1285هـ -1868م في عهد ولاية مدحت باشا وبقى يشغلها تسع سنوات حتى وفاته، وكانت بلدية بغداد تشغل نفس مبنى امانة العاصمة اليوم، ومازالت احدى الغرف التي بنيت في عهده قائمة حتى الآن وسقفها مبني على شكل (طاق عكادة) ويشغلها الآن ـ النائب الفني لامين العاصمة ـ على ما اظن. وبعد مدة وجيزة تولى رئاسة بلدية بغداد جدي اسماعيل الدفتري وهو ابن ابراهيم الدفتري ثم والدي فؤاد الدفتري الذي كان محافظا لبغداد وكانت وظيفته تشمل رئاسة البلدية ايضا.وبطبيعة الحال عندما توليت هذا المركز في عهد الملك فيصل الاول، كانت الدولة العراقية في بداية تكوينها، ميزانيتها محدودة وامكانياتها ضعيفة وفي ضوء هذه الظروف سعيت الى القيام باعمال عديدة تتطلبها المصلحة العامة واستحداث ما يسد حاجتها وقد لاقيت في سبيل ذلك صعوبات شتى اذ كانت امانة العاصمة مرتبطة بوزارة الداخلية واستطعت ان اتغلب على اكثرها بمعاونة المسؤولين الذين كنت اعرض عليهم الفكرة اولا فتقر ولا اجد اي معارضة بعد ذلك. وقد كان يساعدني رئيس المهندسين حيناك المرحوم علي رأفت.

بغداد.. من الازقة الى الشوارع الكبيرة
*وكان ابرز تلك الاعمال فتح شارع (غازي) الذي يحمل اليوم اسم شارع الكفاح وقد واجهت المصاعب الكثيرة في سبيل شقه لان طريقه يمر بين ازقة مزدحمة بالسكان مما يتطلب القيام باجراءات الاستملاك لتلك الدور وتعويض اصحابها.الا انني لم الق مثل هذه الصعوبة بالنسبة لشارع الصالحية في الكرخ لانه لا يمر وسط مناطق مزدحمة بالسكان انذاك. وقد عكفت على دراسة مشروع فتح هذا الشارع الذي كان قد تقرر تحديد عرضه من قبل مجلس الامانة والامين السابق بمقدار (60)قدم فوجدت فيه عدة انحناءات الامر الذي اوجب ايقاف العمل به وزيادة عرضه وازالة الانحناءات الموجودة فيه (وكان ذلك ممكنا اذ ان بغداد لم تكن خاضعة لتصميم مصدق كما هي عليه الآن) لاعتقادي بان مثل هذا الشارع المهم الذي يوصل بين بغداد والطرق المؤدية الى كثير من المحافظات وكذلك طريق الشام الذي كان مدخلا للقادمين من الخارج، يجب ان يكون اكثر عرضا مما تقرر بالسابق. وقد رحبت الحكومة بهذا المشروع، وايده وزير الداخلية وباشرنا باعداد الخرائط واستكمال التصاميم.

شارع الصالحية اول شارع ذي ممرين في بغداد!
*وهذا الشارع هو اول شارع في بغداد ذي ممرين واحد للذهاب والآخر للآياب تتوسطهما اشجار النخيل، لذلك كان هذا الشارع في ذلك الوقت يعتبر من اجمل شوارع بغداد يغص بالمارة ويزدحم بالناس الذين يخرجون اليه للنزهة والتمتع بالمناظر الجميلة لاسيما بعد ان شيدت على جانبيه المقاهي والكازينوهات.
*ومن الامور الاخرى التي تمت في فترة اشتغالي امينا للعاصمة هي بناء بهو الامانة، وقد كانت هناك حاجة ماسة اليه لان الحكومة كانت تحتار بضيوفها الرسميين في العثور على المكان الملائم لاقامة الحفلات الرسمية لهم وتضطر الى اقامتها في الفنادق، وهي فنادق متواضعة اكثرها لا يليق بمثل هذه المناسبات فاتجه التفكير الى انشاء بهو الامانة لتقام فيه الحفلات المذكورة.. وقد عجل في تنفيذ هذه الفكرة زيارة (ولي عهد السويد) لبغداد حيث ضوعفت الجهود للاسراع بانشائه وكان من مميزاته في ذلك الوقت انه اول قاعة مزودة بالتدفئة المركزية، واعتقد انه لايزال قائما حتى الآن والحق مؤخرا بوزارة الدفاع.

ابراهيم شندل.. بدلا من «فيشر» الاجنبي
*ولقد حاولت جهدي ان احصر الاعمال في امانة العاصمة بالموظفين العراقيين بدل الانجليز وهذا ما حدث عندما انتهت فترة خدمات مدير الاطفاء (فيشر) البريطاني الجنسية وقد حاولت وزارة الداخلية تجديد خدمته، الا انني رفعت تقريرا الى الوزير مقترحا تولية هذه الوظيفة لموظف عراقي هو معاون مدير الاطفاء مشيدا بكفاءته وقدرته على العمل وبالفعل تم تعيين السيد ابراهيم شندل واصبح مدير الاطفاء عراقيا منذ ذلك التاريخ.

الملا عثمان الموصلي يتعرف على الناس باللمس
*هل من ذكريات طريفة تربطك ببغداد او باحد شخصياتها..او احد شواهدها العمرانية التي مازالت قائمة حتى الآن؟
كلما امر بمدخل السراي وهي القبة التي لا تزال قائمة، اذكر حادثا لا يخلو من متعة، اذ بينما كنت اسير هناك رأيت من بعيد الملا عثمان الموصلي الشخصية المعروفة في كل من بغداد والموصل واستانبول، وقد كان ضريرا كما هو معروف ويتعرف على الاشخاص من تلمسه ايديهم وكان يسير معه عبد الجبار خان زاده رئيس كتاب الاوقاف حينذاك فاشرت عليه من بعيد الا يخبر الملا عثمان بمجيئي، وتقدمت الى الملا وحييته مادا يدي لمصافحته، فاخذ يتلمسها محاولا معرفة صاحبها كعادته، الا انني بادرته بقولي: (ان هذه اليد لم يسبق لها ان تشرفت بمصافحتك ولكن لها حبا موروثا انتقل من السلف). فبقي ساكتا وبدا بتحريك رأسه يمينا وشمالا كعادته وما هي الا لحظات حتى بادرني بهذين البيتين وهو لا يزال ماسكا يدي:
اوراق اخلاصي اذا ما كتبت
تنشر في الآفاق حسن الاسطر
كلها محفوظة في مهجتي
ومهجتي عند فؤاد الدفتري


عن مجلة العاصمة 1972