نبيذ العزلة.. بورتريه الفنانة في شبابها

نبيذ العزلة.. بورتريه الفنانة في شبابها

ترجمة: عباس المفرجي
يصف ناشرو " نبيذ العزلة " بإنها أقرب روايات آيرين نيميروفسكي لسيرة حياتها، والبطلة هيلين كارول، تقاسم نيميروفسكي الكثير من تاريخها المبكر. ولدت هيلين في اوكرانيا لأبوين جمعهما الإرتياب والإزدراء بقدر ماجمعهما الحب، ونشأت على يد مربية فرنسية، حبها الراسخ وأحساسيها الطيبة، شكّلت حب هيلين لفرنسا. مثل نيميروفسكي،

كَبُرت هيلين وهي تتحدث الفرنسية أفضل من الروسية، وأدركت سريعا بأن السلاح الرئيسي الذي تملكه أمها ضدها هو القدرة على إزاحة المربية، مدموزيل روس. نزاع هذه الأسرة الشقية مُحلّل على نحو جميل وقاسي. الأم، الأب، الجدّان، الطفلة والمربية جميعا يراقب بعضهم البعض الآخر، بينما هم يقاومون التوتر الذي يربط بينهم. الأم تشتاق الى باريس، العشاق، الغنى والحرية. كانت تزوجت بوريس كارول لأنها فقيرة ولاتملك دوطة زواج ؛ رأت إن بإمكانه أن يكسب مالا، وشغفه بها سيدوم مهما خانته.
وُصِفت العلاقة بين الأم والإبنة على نحو متعقل لا يقبل التسوية. بيللا، مثل فاني أم نيميروفسكي، ترى في إبنتها مصدر ضيق وإزعاج. وهيلين، تنكمش من أمها بنفور جسدي. أظافر مدام كارول هي ((مدوّرة ومحدبة وبنهايات حادة، مثل المخالب)). بشرتها مغطاة بطبقة كثيفة من البودرة حتى بدت ((بيضاء كالثلج)). إهتمامها الحقيقي الوحيد هو عشيقها، ماكس، الذي تغلغل الى العائلة بنفاقه البارع. في هذه الأثناء، كان يجب على الفتاة الصغيرة ان تتكيّف. إنها تحب والدها وتشفق عليه، وتتعرّف فيه على طاقة عاتية تشاركها معه، تمام مثلما يتشاركان ((العينين المتقدتين، والفم الواسع، والشعر المجعّد والبشرة الداكنة)). يبدد بوريس كارول هذه الطاقة في السعي وراء الثروة والمقامرة، والسؤال الكبير هو ماذا ستفعل هيلين مع جيناتها الوراثية.
هذه هي رواية ذات أجواء أخّاذة على نحو مدهش. تستحضر نينيروفسكي فيها أمكنة طفولتها بوضوح حسّي، يُظهر كم تعلمت من تولستوي وبروست. حياة الطفلة تنتقل في السنوات الأولى من القرن العشرين من كييف، المليئة بالغبار الذي تحمله الرياح القادمة من آسيا، الى سانت بترسبورغ، بسماواتها المصفّرة و ((الروائح السقيمة للماء القذر))، ومن ثم الى المناظر الشتائية المجمدة لفنلندا، حيث إلتجات الأسرة وروس آخرون في 1917. هنا، يلعبون الورق، يمارسون الحب، يرقصون ويتزلجون بينما هم ينتظرون أن تعود حياتهم العادية، لأن الإعتراف بأن الحكومة البولشفية أتت لتبقى ((سيكون إشارة على فأل سيئ)).
في غضون ذلك، تتورط هيلين ذات الأربعة عشرة عاما بعلاقة مع رجل متزوج، في رد فعل معقد على العلاقة مع أمها. واحد من أجمل المشاهد في الرواية هو مشهد رقص في حظيرة قرية، حيث تتعرّف هيلين أول مرّة على طاقتها الجنسية. ((ضحِكَتْ كي تبين عن أسنانها البيض، اللامعة ؛ دعت فْرَد يضغط يدها الداكنة النحيفة بين جسده والطاولة)). في ذروة السكر والرقص، يبدأ الشباب على السطح بإطلاق بنادقهم الماوزر، وتشارك هيلين في ذلك كله. ((تنشق رائحة البارود، ذلك كانت تعرفه مسبقا بشكل جيد)). طاقة وتألق الكتابة تجعل من باب أولى من الإنهيار المفاجئ للقصيدة القصصية مروّعا. سكان القرية هم من الإشتراكيين الديمقراطيين (الحمر)، والحرب الأهلية مستعرّة في أرجاء فنلندا. حين يصل الجيش الأبيض، يُذبح الشابان اللذان يرقصان ويتبادلان القبل في الحظيرة. ويتبعثر اللاجئون الروس.
في هذه الرواية، كل شيء تقريبا ضائع. مدموزيل روس مقصية بقساوة بيللا ؛ الجدّان يُتركان وحيدين ؛ الأبوان يدمّران نفسيهما ؛ المنازل والمدن تختفي حين تنتقل الأسرة. فِهمْ نينيروفسكي العميق للفوضى يتحدى اولئك الذين يعيشون في أزمان أكثر يسرا. حتى الأهواء الشخصية هي حشد من أشياء، تُجمع الله اعلم من أين. المال والترف يزينان المخيّم، لكن قاطنيه إعتادوا على التطلع الى الحرائق التي تؤشر على المذبحة، الثورة أو الحرب. البقاء المعنوي لهيلين يتوقف على الإدراك الواضح بأن القوى التي قادت أمها موجودة في داخلها أيضا، وعليها أن تنبذها إذا أرادت أن لا تكون تكرارا لحياة أمها. تتيح لنا نيميروفسكي الدخول الى أفكار بيللا كارول مرة واحدة فقط: فيها تحلم بلهفة بالذهاب الى باريس، كما ستفعل آيرين فيما بعد. باريس بيللا هي وهم العلاقات الجنسية، التي تنبثق وتتلاشى مع أشخاص مجهولين أشبه بالحلم. إبنتها، تتعلم الرغبة بعزلة مغايرة. إنفصال هيلين عن الأسرة، ونشوئها كشابة وحيدة في باريس، ستكون جذور حياتها كفنانة. في هذه الصفحات الأخيرة من الرواية، ثمة درجة من الكتابة المبالغ فيها ؛ نيميروفسكي ليست بحاجة الى جعل أفكار هيلين بيّنة جدا. نحن ندركها مسبقا من خلال هذه البورتريه الآسر والأمين على نحو قاسٍ للفنانة في شبابها.
عن صحيفة الغارديان