تهاوي النوارس.. استعادة لغياب بعض رموز الثقافة العراقية

تهاوي النوارس.. استعادة لغياب بعض رموز الثقافة العراقية

د. صالح هويدي
لم يدر في خلد المثقف العراقي أن الصورة المؤسية التي أحاطت برحيل السياب وتشييعه على النحو المذل في ما بعد، ستتكرر مرات كثيرة، لاحقا؛ مع رموز وشخصيات فكرية وإبداعية، وعلى النحو نفسه من الإهمال والإجحاف والشذوذ. ويبدو أن المثقف العراقي ليس وحده من امتحن خيبة ظنه بهذا، فقد عبر عن هذا الإحساس، منذ أيام أحد المثقفين العرب الذين التقيتهم في أحد أنشطة الشارقة الثقافية مؤخرا، حين قال: يبدو أن مصيرنا لن يختلف عن مصائر هؤلاء الرموز، فلم أجد بدا من التصديق على كلامه.

وإذا كان الموقف من السياب يمثل أبرز صور العقوق التي شهدها التاريخ الثقافي للعراق الحديث في الخمسينيات، فإن ربع القرن الأخير شهد من الإهمال والإجحاف بحق جمهرة من المبدعين والرموز الثقافية العراقية، من دون أن يلوح في الأفق أمل في إرساء تقاليد حضارية في عراق اليوم، من شأنها أن تصحح الخطأ أو تتجاوز الشذوذ، لتضع حدا لثقافة الجهل والتغييب وإهمال الثروات الفكرية؛ المنجم الأساس لأية نهضة حضارية حقة.
من كان يتوقع أن الزمن الراهن الذي كنا نأمل منه أن يكون بداية لتصحيح الموقف السياسي من المثقف، يشهد اليوم مظاهر التجاهل والإهمال والتقصير بحق الرموز التي تهاوت -ولا تزال- تتهاوى تباعا، في الداخل والخارج، مرضا وهرما وغربة وكمدا وحاجة. فمنهم من يموت وهو على كرسيه كالبياتي، ومنهم من يموت نازفا حتى النهاية ككمال سبتي، ومنهم من يموت إثر صدمة نفسية جراء ما يحدث من مشاهد مروعة لقتل الآمنين كمهدي عيسى الصقر، ومنهم من يموت على رصيف المارة كعقيل مهدي، ومنهم من يموت في لحظة الاحتفاء به وبتعبه وإبداعه بعد مرحلة من الانسحاق، وسط دهشة صحبه وأناسه المحتفين به ككزار حنتوش، ومنهم من يموت بعد أن وطئت قدماه جنة الغرب الموعودة ضمن طوابير علب اللجوء كجان دمو، ومنهم من يموت بعد أن ظل ممسكا بجمرة العزة والكرامة ولم يهنأ بما كان يأمل من ثمار العهد الجديد، كعناد غزوان ومدني صالح ومحمد مبارك وسواهم، في مقابل أولئك الذين يملئون المشهد اليوم، في تزاحمهم على الفتنة والمناصب والامتيازات ولبس الأقنعة والتلون، تبعا لمقتضيات الحال وانتهاء المآل.
يموت شعراء العراق وروائيوه وكتابه ومفكروه وأساتذته وأطباؤه ومهندسوه وكفاءاته التي ما إن تغادر وطنها مضطرة، حتى تضاف إلى صفحة رموز الأوطان الجديدة وعناصر إبداع مشهدها الثقافي البهي.

مواقف لمحمد مبارك:
كان محمد مبارك آخر المثقفين العراقيين الذين سقطوا مؤخرا (29/8/2007)، من غير أن تتنبه لهم القيادة التي وعدت الشعب بعهد من الرعاية جديد. عرف محمد مبارك منذ الستينات ناقدا للمسرح والأدب وكاتبا منظرا في الفلسفة والفكر، ما لبث أن عمق من رؤياه التي تنتمي إلى المدرسة الاجتماعية في التحليل، ليكتسب صفة المفكر.
يمتاز محمد مبارك بوضوح رؤيته وتمسكه بمواقفه التي لم يسبق له التنازل عنها، من أجل منصب أو مغنم، فقد عرفه المشهد الثقافي جريئا في قول كلمة الحق في المواقف العصيبة. فمما يذكره طارق الخزاعي، مؤلف مسرحية انهض أيها القرمطي عام 1975التي عرضت على مسرح أكاديمية الفنون الجميلة، أنه أحيل والمخرج ليث الأسدي والقاص جمعة اللامي والناقد المسرحي حسب الله يحيى إلى لجنة تحقيقية شكلها مجلس قيادة الثورة، لإعطاء رأيها في المسرحية، فما كان من محمد مبارك إلا أن قال رأيه الجريء لصالح المسرحية والإشادة بها، في واحد من المواقف الصعبة التي يتردد فيها الكثيرون.
أما الموقف الآخر، فقد شهدته بنفسي، عقب انتخاب اتحاد الأدباء والكتاب عام 1992، في محاولة يائسة عددا من الأدباء الذين ترشحوا إلى المكتب التنفيذي، وكان محمد مبارك واحدا منهم. وأذكر أن وزير الثقافة والإعلام يوسف حمادي قرر أن يلتقي أفراد المكتب التنفيذي بمناسبة ترشحهم ولتدارس أمر قرار إغلاق بعض المجلات وتقليص بعضها، ومنها مجلة الأديب المعاصر، مجلة الاتحاد. وفي لحظة من اللقاء انقلب رد فعل الوزير إلى موقف غاضب، مذكرا الوفد بمسؤولياته إزاء دماء الشهداء في الحرب الطاحنة، داعيا إياهم إلى التقشف والكتابة التعبوية لصالح الأكرم منا جميعا؛ حينها فوجئنا بمحمد مبارك وهو يتكلم بانسيابية وسلاسة وهدوء عن أن العلماء هم من يحتاج إلى الإكرام، فهم فوق الشهداء مرتبة وليس العكس، مستشهدا من حافظته بآيات قرآنية وأحاديث شريفة وأقوال من التراث، فما وجدت الوزير قادرا على الرد عليه، سوى بتغيير موقفه الترحيبي الذي استقبلنا به إلى فض الاجتماع الواعد المطول. كما يذكر له موقفه حين قرر صاحب الامتياز في جريدة الموقف المشترك إعفاء أحد الصحفيين، أيام كان مبارك رئيس تحرير لها، وتقديمه استقالته التي لم يعدل عنها إلا بشرط عودة الصحفي لها ثانية. ومن المواقف التي تؤكد أصالة الرجل تركه رئاسة تحرير صحيفة القاسم المشترك، وقبوله رئاسة تحرير مجلة الأقلام التي تحتل مكانة أثيرة في نفوس المثقفين العراقيين، على الرغم من أن المرتب الذي يدفع له في الأخيرة لم يكن يصل إلى ربع المرتب الذي كان يتسلمه من الصحيفة.
ومما يذكر عنه ما تردد من أن اسمه كان مدرجا ضمن من ستنالهم مكرمة الرئيس السابق في الحصول على شقة فارهة في شارع حيفا، وأنه اعتذر عنها بحجة أن معاملة إحالته على التقاعد أوشكت على الإنجاز، ليتخلص من ورطة يعدها معظم الكتاب حلم العمر.

نتاجه الإبداعي:
يذكر الوسط الثقافي لمحمد مبارك صدور كتابه المبكر(الكندي فيلسوف العقل)الذي جاء محصلة لقراءاته المعمقة المستقصية في التراث العربي والإسلامي، ولا سيما الفلسفي منه، فضلا عن إحاطته بالفكر الفلسفي اليوناني والغربي الحديث. ومن كتبه الأخرى(مواقف في اللغة والأدب والفكر) و(دراسات نقدية) و(نظرات في التراث) و(محاولة في فهم شخصية الفرد العراقي) و(الجابري بين لالاند وجان بياجيه) و(مقاربات في العقل والثقافة) و(الوعي الشعري) إلى جانب نشاطه النقدي في الشعر والمسرح، وكتابته عددا من المسرحيات التاريخية والفلسفية، كمسرحيته عن الحجاج ومسرحيته(الشاعر والصعلوك).
ويذكر الملف الخاص لجريدة الخليج، الذي صدر في نهاية التسعينات، وخصص للشاعر العراقي مظفر النواب، مساهمة محمد مبارك فيه بدراسته(المنجم العجيب).

المهام التي شغلها:
على الرغم من أن محمد مبارك لم يكن من المثقفين المقربين من السلطة آنذاك، لكن منزلته أهلته لتقلد بعض المناصب المهمة، منها عمله رئيسا للقسم الثقافي، بتلفزيون العراق، ومديرا للمسارح في دائرة السينما والمسرح، ورئيسا لتحرير جريدة القاسم المشترك، ورئيسا لتحرير مجلة الأقلام.

لكن أبا حيان لم يستطع الاستمرار داخل العراق، فكان أن خرج عام 1999إلى الأردن ليلتحق بالمعارضة، وليكتب على نحو علني في جريدة الزمان عن الأوضاع الشاذة، وليفاجيء المشهد الثقافي بعودته إلى العراق ثانية قبيل سقوط النظام بأشهر قليلة.
مات الأديب المفكر والناقد محمد مبارك بين يدي ابنته بعد ساعات من مشاركته في نشاط لاتحاد الأدباء والكتاب بعد أن مشى إلى بيته عشرات الكيلومترات على قدميه، في يوم حظر فيه سير المركبات، وأحس بعد أن ولج البيت بالضيق وقلة الهواء، ثم شرب الشاي الذي أعدته له ابنته، لينام نومته الهادئة، وسط صخب المتفجرات ومناظر العنف الغريب الذي حط على دار السلام، في لحظة غفلة من أهلها، نحسب أنها لن تطول.